عالم الأدب

فنّ الرواية إلى أين؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

هناك أكثر من مدخل لمقاربة ماهية الفنّ الروائيّ في صيغته الراهنة، لذا أقترح التوطئة لها، ولو بإيجاز، بما انتهى إليه المهتمّون في الغرب من تمييز بين رواية الحداثة ورواية ما بعد الحداثة، وهو تمييز مفيد للوقوف على أنّ الأولى، أي رواية الحداثة، تهتمّ بالتعرّف على العالم وعلى تعقيداته وتحوّلاته، بمعنى أنّ رهانها هو إبراز كيفية تَغيُّر الواقع بتَغيُّر الزاوية التي يُنظر منها إليه ؛ في حين أنّ الثانية، أي رواية ما بعد الحداثة، تَفحص كلّ الممكنات في الكون والكائن والأدب وتُجرّبها، وهذا ما جعل النقد يرى أنّ كُتّاب ما بعد الحداثة يستأثرون بكافّة الحقوق للتدخّل شخصيًّا في الحكاية والتحكّم فيها ضدًّا، أحياناً، حتّى على ما هو متعارف عليه من قواعد .. هذا من الناحية النظرية.
أمّا في الواقع والتطبيق فلقد ظلّت الرواية موزّعة بين الحداثيّ وما بعد الحداثيّ (علماً بأنّ عبارة «ما بعد الحداثة» ذاتها تفيد القطيعة مع الحديث واستمراره في نفس الوقت ؛ أو تفيد، بعبارة أخرى، التحوّل عن جمالية الحديث وعكْسها «مرآتيًّا» في آن واحد)، إلى أن وصلت إلى راهنها الحاليّ القائم على مزيج من الحديث وما بعد الحديث، وهو المزيج الذي أسّس لظهور نوع جديد من الرواية اتُّخذت له عدّة تسميات منها : «رواية الميتا خيال» أو «رواية الإشكالية» أو «الرواية المفرطة».
ومهما اختلفت التسميات، فإنّ الرواية الحالية تسير على هَدْي مبدأ واحد يخوّل لها كافّة الصلاحيات لكي : « تقول ما لا يمكن أن يُقال بطريقة أخرى »، على حدّ تعبير كارلوس فوينتيس في كتابه المسمّى : جغرافية الرواية ؛ وهو بالضبط المبدأ الذي حاول إيتالو كالفينو أن يُنظّر له، ولو بطريقة غير مباشرة، في كتابه الصادر سنة 1988 تحت عنوان : ستّ وصايا للألفية القادمة، إذ انتهى إلى أنّ الرواية الراهنة مطالَبة بمداورة أو تجديد أو حِفظ بعض القيَم الأدبيّة مثل : الخفّة والسرعة والدقّة ووضوح الرؤية والتعدّديّة والتماسك، وهي قيم -يُذكّرنا كالفينو -لا تلغي بتاتاً عكسَها ؛ وهو كذلك، استطراداً، المبدأ الذي حاول ميلان كونديرا أن يُنظّر له، أيضاً، في كتابه الأخير الصادر هذه السنة (2005) تحت عنوان : الستار، حينما أناط بالرواية الحالية مهمّة تمزيق ستار التأويلات الجاهزة التي يفرضها المجتمع، وهو الستار الذي يَحُول، في الغالب، دون استكشاف مجالات التجربة الإنسانيّة التي تُهملها وسائل التأويل الأخرى (الفلسفيّة منها والدينيّة والسوسيولوجيّة والسيكولوجيّة وغيرها)، والتي لا تتأتّى مقاربتها -أيْ مجالات التجربة الإنسانية -إلاّ من خلال الرواية، أو بالأحرى من خلال الروائي الذي أصبح مطالَباً بأن يرى ما لم يره سابقوه وبأن يقول ما لم يقولوه.
وهناك من يضيف بُعداً آخر إلى ما تقدّم ذكْره، ويرى أنّ الرواية الحالية تأخذ في الحسبان عملية القراءة كعنصر من عناصر الصنعة الروائية ؛ بمعنى أنّها لا تحصر اهتمامها في كيفية إنتاج النصّ الروائيّ فحسب، بل توظّف فيه ما يكفي من عناصر التغَيُّر والالتباس -على مستوى لغةٍ تُخفي أكثر ممّا تُعلن أو حتّى على مستوى الزمن المحكيّ ومراكز الشخوص والضمائر المستعملة ومسار الحكاية... إلخ -لتنويع كيفية تلقّيه ؛ ممّا يجعلها (أي الرواية الحالية) تُنتج قراءات متعدّدة وغير محدَّدة وربّما متناقضة أحياناً، متجاوزة بذلك واحدية التأويل التي هيمنت غالباً في السابق ؛ وهذا ما سايرته الشعرية المعاصرة (باعتبارها الأداة المنظّمة للمعارف الأدبيّة وللأدوات النقدية)، حين خوّلت للروائيّ سلطة «تَدْويخ» أو «تَتْويه» المتلقّي، ومن ثمّ سلطة التأثير عليه لكي يتلقّى كلّ قراءة بتأويل مختلف عن سابقه، فيما يُعتبر تغييراً جذرياً في المنظومة التقليديّة لِقِيَم القارئ وميثاق القراءة على السواء ؛ لكي تصبح القراءة بالتالي نوعاً من تفكيك النصّ الروائيّ وإعادة بنائه باستمرار وفق الوعي الآنيّ للقارئ أثناء كلّ قراءة ؛ فتتحوّل هذه الأخيرة في نهاية المطاف إلى ضرب من الكتابة في الكتابة (إن جاز التعبير)، وهذا يثري الرواية ثراء لا نهاية له.
أخيراً، لا أظنّ أنّ الرواية العربية قد بلغت من النضج ما يتيح لها إمكانية الدخول في حلبة المنافسة إلى جانب الرواية الغربيّة الراهنة، لسبب بسيط هو أنّها ليست لا في العير ولا في النفير من كلّ ما تقدّم ذكره، وذلك راجع، بالطبع، إلى صِغَر تجربتها وقِصَرها وعدم عُمقها، فضلاً عن «خجلها» من خوض غمار المسكوت عنه في ثقافتنا العربية الإسلامية قصْد العمل على تحرير المكبوت فيها.

الرباط في 13/6/2005

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف