استفتاء في المكان - المركز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
استفتاء (1/5)
عندما كان للثقافة العربية مكان - مركز
أمجد ناصر (شاعر وصحافي أردني يقيم في لندن)
نبض ضعيف في جسد كبير مترهل
استفتاء إيلاف
عبدالقادر الجنابي: في سنوات بعيدة، كان هناك المكان الثقافي الذي له قدرة الإشعاع والتأثير على مراكز محيطه. كان يسمى المركز - الموئل: القاهرة"، "بيروت"، "بغداد"... والعالم العربي بأسره كان يُنظر إليه بواسطة هذا المكان المحدد جغرافياً. فمن غليان أحشائه، كانت تخرج التصورات والمفاهيم التي تدلُّ الأجنبي على الجديد في هذا العالم العربي الغريب في نظره. مكانٌ ابتكرَ مجلات طليعيةً بعضُها لعب دوراً أساسياً في تغيير الذائقة الثقافية العربية؛ مجلات كل واحدة منها، كان لها متعطشون ينتظرونها بفارغ الصبر، وكأنها مصدرهم المقدس: "شعر"، "الآداب"، "حوار"، "مواقف"، "الفكر المعاصر"، "الطليعة"، "الكاتب"، "الكلمة"... الخ.
جاءت حروب وانقلابات. جرت مياه كثيرة تحت جسر الكلمات والأفعال. فضاع هذا المكان، أو بالأحرى لم يعد من السهل تسميته وتحديده جغرافياً اليوم، وكأن انزياحاً حصل له، نزعَ عنه صفة المركز، بل بعضُ مجلاته توقف، والآخر استمر، لكن لم يعد له بريقُ الوهلة التاريخية الأولى.
على أن هذا المركز- المكان بقي في الذاكرة العربية صورةً من صور الحرية، فترةً "ليبرالية" كانت تسودها الدهشة والرغبة في المغامرة فكراً وحياة وتجريباً في لب الإبداع؛ فترةً غالباً ما يحنّ إليها اليوم أصحاب الفكر الحر، وفي خَلَد كل منهم ذكرياتٌ وذكرياتٌ وذكرياتْ. حتى سجناؤها يتذكرونها بمتعة، لكن.. أوّاه، كم كريهة هذه الفترة الجميلة في ذكريات جيلها النرجسية!!
اليوم، ويمكننا أن نقولها شبه متأكدين، أن هذا المكان بات جزءاً من التاريخ، ولم يعد له وجود، ولا دور في وقائع الحاضر. بل نكاد نشعر وكأنه لم يعُد اليوم هناك أي دور لأي شيء، إثر غيابه.
مكانه برزت مراكز المحيط، لكن دون أن يقدر على الادعاء أي منها صفة المركز. فمجموعها يُشكِّل مركزاً واحداً اسمه العالم العربي. وعلى نحو يتحرك فيه كلٌّ وفقاً لما يمليه عليه وضعه الثقافي المحلي. ولهذه المراكز مجلات، ومجلات لها دور تبادلي ثقافي بلا أدنى شك، لكن لا يتراءى في ما تنشره من تلك العلاقة المقدسة بين المرسل والمتلقي؛ وليس لها ذاك الدور الطليعي الذي كانت تتميز به، مثلا، مجلة يوسف الخال "شعر"، أو مجلة لطفي الخولي "الطليعة".
***
ما ذاك المكان في ذاكرتك وكيف تقييمه اليوم؟
هل تفضّل، على غيابه، وجود هذه الأمكنة – المراكز (الخليج، المغرب، المهجر الانجليزي...) التي تتحرك اليوم، وفق ما تملي عليها محليتها، لا يهمها الريادة الثقافية، أم تفضّل أن يكون هناك مركز - موئلٌ لاعباً دور المحرك الثقافي والرائد؟
كيف حدثت هذه النقلة الثقافية من مكان معلوم، إلى أماكن بلا علامة؟
الثقافة مستقبلٌ، لكن أيَّ مكوّنٍ من مكوناتنا الثقافية، يتحرك اليوم إلى الأمام؟
أين هو مركز الإشعاع الثقافي عربياً اليوم؟
لماذا هناك عشرات المجلات القيّمة، ومع هذا تبدو بلا فرادة تاريخية؟
ما فائدة كل هذه التنظيرات التي تعجّ بها معارضُ الكتب العربية، وما هو ثابت في الأذهان، ثابت ثقافياً، لا يمكن زحزحته؟
أي مخرج يُرتأى من مأزق حاضرنا الثقافي الذي أخذ يُنمّي، من جهة، حنيناً سكونياً إلى ماضٍ حركي في زمنه، ومن الجهة الأخرى يُشكك بكل مغامرة جديدة كل الجدة، باختزالها آلياً إلى نوع من مغامرة، سبق أن رأيناها؟
أيّةُ خاتمة لعالم المكتوب، وأنَّ أيَّ اكتشاف، مهما كان، لم يعد اليوم دهشةً ولا تغوّراً، وإنما مجرد وسيلة أخرى للقضاء على مصادر (بعبع) أُصبنا به: الإرهاب؟
لماذا بتنا وكأننا نعيش بلا مستقبل، بين ماض "أبيض" وحاضر "أسود"، أسرى جمال فترة بقيت في الماضي، أشبه بمنظور نُطلُّ منه على غد جوّال.
أنعيش، نحن العرب، على عكس المجتمعات الطبيعية، الأوروبية مثلا، التي حققت ماضيها على نحو تعيش معه حاضراً، بوصلتُه مستقبلٌ الحنينُ، ليس نكوصاً، وإنما رغبة في المزيد لا غير؟
صحيح أن الحاضر صنيعة الماضي، لكن الماضي هو أيضاً صنيعة حاضر تقوى فيه القراءة الجدية على رؤية مسار تاريخ مجتمع بأكمله، لتقف عند محطة جوهرية لم ينتبه إليها أحد في ذلك الماضي – التاريخ: وها هو الحاضر ماضٍ، يطلع من نفق مواض كانت تمنعه من التقدم.
***
لَم نفتح هذا الاستفتاء من باب الحنين إلى ماض مثمر، ضد حاضر عقيم. أو من باب نبذ الماضي، والدخول في حاضر استباق. كلا!
فما كان، لن يكون أبداً. وما لن يكون، كائنٌ اليوم. وليست تساؤلاتنا هذه أسئلة بالمعنى العادي للكلمة؛ أي أن يُجاب عليها: واحد، اثنان، ثلاثة.. الخ. كلا!
ما يهمنا في هذا الاستفتاء هو تأمل هذا الموضوع، وما يثيره من تساؤلات. يهمنا، بنص مكثف لا يتجاوز الألف كلمة. تأملك في جوهر ثقافتنا:
كيف كانت تتحرك؟
لماذا هذه السيرورة إلى باب مختوم، وليست سيرورة إلى حقل معلوم؟
وإلى أين هي اليوم؟
ولك جزيل الشكر مقدماً
هناك طبعا من يستبعدون السياسة مباشرة من أي تأمل لـ انشطار المركز باعتبار ان الأمر يتعلق بنمو طبيعي لـ مراكز جديدة أو بانتقال المركز إلى الأطراف، وهناك، ربما، من يربط ميكانيكياً، بين السياسة العربية ومصائر المراكز الثقافية.أنا من الذين لا ينعون انشطار المركز ولا يبكون علي ماضيه الذهبي، ولكن، أيضاً، من الذين لا يقللون من بؤس الحالة اللامية التي نحياها اليوم والخفّة العربية غير المحتملة (استلهاما لكونديرا) علي غير صعيد. يحلو لي ان أري في المركز الثقافي العربي (بيروت، القاهرة) بوصفه لحظة حرية وفضول، وشغف، واقبال علي العالم الأوسع شاركت فيها نخب ثقافية وسياسية، عربية، متنوعة، المشارب والجنسيات، أكثر من كونه متروبولا ثقافيا تنبع منه وتصب فيه مشاركات الأطراف. لنأخذ بيروت مثالاً: فلبنان لم يكن، في يوم من الأيام، ذلك المتروبول بل لعله كان من أضعف كيانات العرب السياسية، قد تكون القاهرة صادرت لوقت ما هذا المتروبول (في لحظتها الناصرية)، ولكن ليس بيروت.بيروت صنعها، فضلا عن حراك أهلها الطبيعي، وانفتاحهم علي الجديد، وخفة حملهم من الرث العربي ـ الاعلامي التقليدي الثقيل، أقول بيروت صنعها الي جانب ما اسميه الاستعداد الطبيعي لها، شغف واشواق نخب عربية ثقافية وسياسية إلي الحرية، إلي الانخراط في لحظة العصر، الي المشاركة في صبوته الي عالم جديد.
لم تتمكن عاصمة عربية من احتضان هذا الشغف وتلك الاشواق مثلما فعلت بيروت، القاهرة أسهمت في الطور الاول لـ التنوير ثم قولبت الناصرية هذه المسعي في اطار ايديولوجي انحاز الي خندق واحد في الصراع العالمي، أما بيروت التي لم تكن تملك مشروعا ايديولوجيا فقد اتاحت لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي والفكري العربي بالتواجد فيها شخوصاً أو اسهاماً. بيروت كان فيها من اللبناني بقدر ما فيها من السوري والعراقي والفلسطيني والمصري والخليجي والمغاربي، بقدر ما فيها من الفرنسي والانكليزي والامريكي والروسي، والعالمثالثي. كأنما كانت منطقة محررة من عالم عربي يرزح تحت أثقال الايديولوجيا او الارث التقليدي السلفي الذي قدم لنا لاحقاً واحداً من أسوأ وجوهنا: الظاهرة الأفغانية العربية.
في بيروت المحررة هذه، في لحظة صراع طاحن في العالم العربي، من الانخراط المباشر في الصراعات هي التي قدمت لنا معظم المنابر التي ذكرتها مقدمة أسئلة الاستفتاء. بيروت، وحدها، في ظني، هي التي كانت قادرة أن تجمع الأديب و الآداب و شعر و حوار و الحرية و الطريق و الهدف و مواقف و الكرمل و الرصيف. ليست هناك عاصمة عربية اخري استطاعت ان تجمع هذا الخيط المتباين والرائع من التنوع الفكري والابداعي والسياسي كما فعلت بيروت.
معظم الخيارات الحاسمة في الحياة الثقافية العربية كانت تصنع في بيروت من طرف طين ثقافي عربي واسع، بينما لم تتمكن لا القاهرة ولا دمشق ولا بغداد، ناهيك بالطبع عن الخليج والعواصم المغربية، من احتضان هذه الخيارات الحاسمة.
فلو تحدثنا عن الشعر، في صورة خاصة، لا أظن انه بالامكان لأكثر الخيارات الشعرية العربية جذرية مثل قصيدة النثر ان تولد وتترعرع في عاصمة أخري.
فالعواصم الأخري إما كانت واقعة تحت حكم العسكر المؤدلج قومياً أو تجتر منتخبات بائسة من التراث.
هكذا، ومع تمكن البؤس العربي، من اسقاط الخيار البيروتي، تشطي المركز الابداعي العربي المغاير، وكذلك حدث للقاهرة، وإن كان علي صعيد آخر.
الآن، لم يعد هناك هذا المركز
لم يعد هناك ما يُنتظر.
فقد توزع تمركز الثقافة إلي الأطراف، أو انقذف خارج حدود العالم العربي. صار، اليوم، للاطراف ما يبدو انه اكتفاء ذاتي من انتاج الافكار وصناعة المنابر.. لكنها، نادراً، ما تخرج أو تؤثر وراء حدودها الوطنية. يظل الكتاب، علي صعوبة انسيابه عربيا، هو الذي ينتظره المثقفون العرب.. وبصورة أكثر تحديداً يظل كتاب الشاعر أو الروائي أو المفكر الحصين (بضعة أسماء في الواقع) هو ما تنتظره. نريد، بشيء من الفضول الخفيف، لا بشيء من اللهفة، أن نعرف ما الذي يحمله هذا الكتاب الجديد.
هل هذا حالة فردية تخصني وحدي أنا الذي يقيم منذ سنين طويلة في الخارج أم هو حال معظم المقيمين في الأوطان؟
لا أدري. من الصعب أن أحكم.
يتراءي لي انه هناك، اليوم، حالة من العطالة الروحية الكاسحة تمسك بتلاليب الحياة العربية. الأفراد وليس الجماعات هم الذين يواصلون ضخ هذا النبض الضعيف في جسدها الكبير المترهل.*** د. مالك المطلبي (شاعر وناقد عراقي يقيم في بغداد)
قلع الابواب
دعني أُجِبكْ ملتفا على تلك المناورة التأريخية التي يحاول ( الاستفتاء ) وضعنا فيها : إن كل أمس جميل وكل غدٍ أقل جمالاً، فأقول : الامس … واليوم … والغد، وهي أُطر زمانية مجردة، أمّا المركز واللامركز، فهو نسيج من السيرورات التي تحيل النقاط الى خطوط، وهذه الخطوط مرشحة لأن تكون كما نسميها مركزا أو نقطة اشعاع أو ملتقى القوافل أو بغداد أو بيروت أو الكوفة أو ميسان الى اخره، بشرط واحد لا غير : هو أن تكون بلا أبواب.
ما نسميه اليوم الحرية …
الحرية لا تسمح للمكان أن يكون مقدسا، لأنه – دائما – مكان الآخر … ولو اجتمعت الانس والجن في هذا المكان وقدّس لأنًا واحدة، فإنه لا يعود مكانا، بل ورم فوق السطح …
ولهذا انبثقت مراكز التأريخ التي نعرف، انبثقت لا لأنها احتوت على تراكم معرفي، بل على تراكم اختلافي، وقد قيل قديما :( كل الدنيا مجتمعة في بغداد ).
ويعني ذلك شيئا واحدا فقط، هو ان المجتمعين لم يكونوا أخوانا في الدين، بل نظراء في الخلق فقط..
المعتزلة – العقل / النقل
ومدرستا البصرة والكوفة – القياس / الاستقراء
ومذاهب الدين – الواحد/ الثاني
والشعر – العمودي / الحر
والسياسة – شارع الرشيد / المظاهرات
والفقه – العقلي / النقلي
لكن كل هذه الاختلافات تتخذ تسمية العَلَم الذي تؤطره أسماء مثل بغداد – مصر – لندن – باريس، واسم العلم كما نعلم علامة اعتباطية تميزية، ولكنه ليس المسمّى أبدا … أو كما يقول القدماء ( الاسماء.. لا تعلّل )، فكم من قزم يحمل اسم الطويل، وكم من مالك صفر اليدين …
وكل ما يحدث الآن، أنّ الفضيحة صارت بجلاجل، فالوسط التداولي الالكتروني حطم جميع الابواب، بما فيها تلك الابواب المواربة، لكن الشرق …
آه من الشرق …
هنالك يدان، يد تغلق … ويد تفتح، وكلتا اليدين عالقة في الوسط المرئي الخاضع لشعاع الانترنيت.
لقد تعرّت الامكنة، وتفتت المراكز، حتى صار بإمكان أي طفل أن يراها ( ثياب الامبراطور ).
الحوامل الالكترونية لم تعد تسمح بنشوء الأبواب المغلقة، ولهذا حل محل تلك الاخيرة الأبواب الايديولوجية : المقدس الذي يجعلك لا تفكر بوجود الباب اصلا، لأنه موجود فيك …
وإنْ سُمِح لي، فسأقتطع مثالا عيانيا لما أريد ان اذهب إليه (1)، وهو مقارنة بين مكان منـزو في العالم اسمه ( مدينة العمارة ) من جهة، وهذا المكان ذاته في مرحلة تأريخية اخرى …
عدسة ناظم رمزي
العمارة التي كانت بلا أبواب … " والعمارة " التي صارت خلف الستار الحديدي الذي نصبه الآله البشري.
(( قبل أن التحق بالطابور الطويل الذي امتد خمسة واربعين عاما من 1958 الى 2003 كنت، قبل هذا التأريخ، مملوءا بالاختلافات الانسانية الجميلة، كنت اذهب في طفولتي الى ساحة السينما في الهواء الطلق حيث تقف سيارة السينما المتجولة امام شاشة بيضاء تتموج ببطء. يجلسوننا بحيث نكوّن نسيجا بشريا بفجوات، نستطيع فيه أي عين أن ترى جزءا مقبولا ممّا يعرض على الشاشة، وحين تنطلق حزمة الشعاع من فتحة غامضة في السيارة باتجاه الشاشة فوق رؤوسنا نرى ما يشبه انبوبا من الغبار الشمسي! يؤدي في النهاية الى ظهور ملك العراق فيصل الثاني المعظم وملكة بريطانيا العظمى يخترقان، بعربة مكشوفة وسط حشود الملوّحين بالمناديل البيضاء، ابصارنا لتملأ اكفنا الصغيرة فضاء الساحة بالتصفيق. كان نقص تكنولوجيا المعلومات يسدّ بتوزيع مجلة العالم الامريكية، مقابل سعر رمزي قدره ستون سنتا بحساب عملة نظامنا آنذاك والى خطوات ليست بعيدة عنا.. تـنـزل سيارة عسكرية دفعة من الشيوعيين العراقيين المنفيين الى بلدتنا القصية في المنطقة الشرقية للاهوار وهم مقيدون بسلاسل، يطلقون عليها آنذاك السلاسل الفهدّية ( نسبة الى فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي الذي تمتد سلسلة قيوده من عنقه الى قدميه!) وكثيرا ما كلفت وانا اتأبط جريدة العالم الامريكية بإرسال طعام يمر من خلال الشرطة الى المنفيين حيث تتناهى الى سمعي اناشيد غامضة!
وهكذا كان مسموحا لطفل مثلي ان يعيش بين المتناقضات وقد ادركت بعد ذلك أن هذا هو جوهر الديمقراطية.
لقد استمر نموّي على هذا النحو. ففي ايام المتوسطة وكان عمري ثلاثة عشر عاما انخرطت في مظاهرات الشوارع في مركز المقاطعة العمارة وبرغم اني كنت جزءا من التصميم العام للمحرضين، فقد كنت اعمل لحسابي الخاص،إذ كان هدفي هو الهروب وراء جدران الاصلاحية الاجبارية التي يسمونها المدرسة!
لكن حين اطلقت النار على عام 1958 حيث كان عمري آنذاك خمسة عشر عاما، حدث فصل بسرعة هائلة : يوم واحد فقط فصل بين عهدين، وليس بالتسمية ملكي / جمهوري / بل المحتوى، من الممكن اعلان تغيير التسمية بالثانية الاولى لبيان الثورة وهذا ما حدث، ولكن ليس من الممكن احداث تحولات بنيوية في مجتمع ما! إلا بعد زمن قد يطول لنقله الى واقع آخر.أما في حالتنا فقد تم التحول في حدود 24 ساعة! بدأت في العهد الجديد قطرات من الدم تتجمع ثم تسيل! لقد جرى سحل الاجساد العارية للملكييّن مع تأكيد إبراز الاعضاء التناسلية وسط شوارع تدين بالحياء الشرقي المتوارث وتسيّر بأيديولوجية كرامة الموتى!!
بدأ خيط من الدم يسيل منذ عام 1958 وحتى عام 2003 ولا تزال تجري كأمتداد له قطرات متقطعة. وكلما تقدم خيط الدم هذا في الزمن المبتدىء بعام 1958 نحو الاعالي حفر عميقا حتى صارت الاربع والعشرين عاما الاخير مجرى متدفقا!!
هذه الاطلاقة التي تسمى ثورة كانت هي الحد الفاصل بين نمو طبيعي والمأساة التي افقت عليها هي ان الخمسة عشر عاما التي شكلت حياتي كلها باعتبار ان الطفولة هي مستودع للتفاصيل ما بعدها بحسب فرويد كانت جميعا في ما قبل العام 1958.
ولهذا كنت في السنوات التي تلت، سنوات النمو الطبيعي : اشبه بمن استبدل عقله بتجمع للاراء المفبركة! الآن حين اتمكن من الالتفات الى الوراء. واتجاوز الحدود الفاصلة بين عهدين،أرى المفارقة الرهيبة في عام 1954 الى الثالث عشر من تموز 1958 :
كان كورنيش مركز المقاطعة العمارة يضم ثلاث سينمات مشيدة على الطراز الفرنسي، كما يضم ناديين ليليين ( ملهيين ) وفي مركز المقاطعة، تصدر كل صباح جريدة صوت الجنوب كما ان هناك مسرحا يقدم على خشبته عروضا اسبوعية، وقد انخرطت فيه كثير من الفتيات. كان نهر دجلة واسعا الى درجة انه ليس بامكانك استيعاب ضفتيه. كان النهر يضم قبل أن ينقسم الى فروعه الاربعة داخل المدينة، قوة نهرية تضم طرادات صغيرة وسفينة قيادة، ترفع اعلاما خاصة واشارات مليئة بالانكرات كما ان النهر كان وسيطا لتجارة مائية ملحوظة. وكثيرا ما كنا نجتمع لنشهد حركة العتلات الضخمة التي تشطر الجسر الحديدي العملاق عبر دجلة شطرين لمرور حاويات البضائع..
كانت الجوامع والحسينيات مفتوحة الابواب وفي مراسم خاصة يخرج المحتفون بمناسباتهم الى الشوارع : حيث كل شيء يعمل في الهواء الطلق. وفي الوقت ذاته يخرج المتعبدون المسيحيون في صف طويل متجهين نحو كنيستهم، كما ان هذه المدينة كانت تستعمل الاسم اليهودي لأحد احيائها الشهيرة وهو حي التوراة.
في حين كان اشهر اطباء المقاطعة على الاطلاق هو الدكتور اليهودي" داود كباية " الذي يلجأ اليه مئات المسلمين يوميا لا سيما الفلاحون، اما طائفة الصابئة فلها نفوذها الاقتصادي البارز. اذ تتمركز عندها تجارة الذهب..
ولم الاحظ قطّ استخدام قوة الكثرة كقوة بهيمية تقمع ما دونها. كان الشبع العام ينتشر في الشوارع عبر لحوم الماشية والاسماك والطيور المعروضة في الطريق. طبعا كان هناك تفاوت رهيب في الداخل، ومظالم من النظام شبه الاقطاعي.. لكن ذلك كله لم يمنع اقلّ دخل من ان يأكل السمك في الوجبات الثلاث الى درجة أن أكل السمك كان معيبا!!
وهذا هو مغزى ما اسميه الشبع العام. كانت الاهوار سلّة غذائية ليس لمقاطعات العراق الثلاث : العمارة –والبصرة –والناصرية بل لجميع العراق : كما ان المساحات الزراعية برغم الإرواء الديمي كانت تصدّر محاصيلها من الرز والسمن الى بغداد اما التمر فقد كان الغذاء الشعبي الاحتياطي وكانت معايير ارسال الطلاب المتفوقين الى الخارج تنطوي على عدالة ما. اذ حصل احد ابناء منطقتي واسمه ابراهيم الشيخ محمد على بعثة في الفيزياء الى لندن! وكنت طفلا حين اشتركت في موكب توديعه. لقد كان ذلك كله مما عشته. وربما يكون تقويمي للمشاهد سطحيا آنذاك او جزئيا، لكن ما حدث في العهد الجمهوري في المقاطعة نفسها بعد مرور ما يقارب الخمسين عاما! قد يجعل من كل ما ذكرت امرا جديرا بالتأمل! ذلك لان ما حدث هو اقرب الى الجنون منه الى أي وصف اخر، والمفارقة تكون حين اضيف الى الثروات التي ذكرت وهي ثروات على السطح، ثروات الباطن اذ اكتشفت في مقاطعة العمارة حقول النفط الجبّارة المعروفة بحقول" مجنون " غير ان الذي يتابع خيط الدم نازلا الى الجنوب حيث المقاطعة التي اتكلم عليها : يراها عبارة عن كومة من الغبار تتخللها ابنية متداعية! لا يوجد فيها أي معلم إلا وازيل ابتداء بالهور " بحيرة مائية متصلة تمتد اكثر من مائة وثمانين كيلومترا " وانتهاء بجسر السفن العملاق. كما ان النهر اصبح ضحلا وماؤه مالحا. كالطاعون : ابيدت او هجرت المساجد والحسينيات والكنائس والمعابد.. كما ابيدت المكتبات والملاهي على حدّ سواء! ولم يعد في عقول ابنائها سوى المعرفة الناقصة تلك التي يحرّم البحث لها عن جواب.
ومن المفارقة ان يطرّز هذا الخراب بحاشية رقيقة فقد تم استبدال اسم المقاطعة " العمارة " بإسم تأريخي هو " ميسان " لإضفاء شكل برّاق على محتوى فارغ!
لا اقارن هنا لصالح الملكية، فانا لست ملكيا. إن نهايات الاعوام الخمسة والاربعين من التعقيد والتصلب بحيث لا يصلح معها استعادة بدايات سابقة كما يرى مناصرو عودة الملكية الان.إن الامر يبدو خارج المنطق : الى درجة ان قولي لست ملكيا لا يعني بأني جمهوري، فأنا الان لست ملكيا ولا جمهوريا :
والملكيون لم يعودوا يصلحون والجمهوريون كاذبون ملطّخون بالآثام(2) )).
العمارة : مركز محافظة ميسان، تقع في الجنوب الشرقي من بغداد، وتبعد عنها زهاء 400 كم.
1-هذا المقطع منشورة في جريدة النهضة، تحت عنوان الهمهمة العراقية، العقوبة في مفاصل الدوافع، العدد52 – 5 تشرين الثاني – 2003.
***
صالح كاظم (مسرحي وقاص عراقي يقيم في برلين)
البحث عن المكان المفقود
يضعنا الإستفتاء الذي وضعه الصديق الشاعر عبد القادر الجنابي بمواجهة جملة من الأسئلة التي قد تقودنا الى مداخل ومتاهات تتعلق ببنية الثقافة العربية منذ الستينات ولحد يومنا الراهن، إذ قامت هذه الثقافة أصلا على وجود مراكز مختلفة تمتلك أحيانا وجها إيديولوجيا واضحا بدعم حكومي(القاهرة) أو طابعا حداثيا يتجاوز القيود المكانية والزمانية متطلعا الى عمق عالمي تكمن جذوره في الفكر الآوربي الطليعي المتميز (بيروت) أو تجريبيا كما في عراق الستينات غير المستقر الذي أنتج خطابا يكاد يختلف تماما عما كان منتشرا في بقية المراكز الثقافية الأساسية ذات الملامح الواضحة. لا أعني أن ما حصل في بغداد كان يختلف بإمتياز عما كان يحصل في بيروت والقاهرة، بل أرى فيه تراكما نوعيا وكميا لجملة من خيبات الأمل والإنتكاسات السياسية والإجتماعية التي باتت تشكل شبه ذاكرة جمعية لما سمي لاحقا بـ "جيل الستينيات" وانعكس في النتاج الأدبي والثقافي المتنوع لكتاب هذه المرحلة.
ممثلو مقهى المعقدين في النجفمع هيئة تحرير"الكلمة" (1967): يظهر في الصورة من اليمين الى اليسار: عبد القادر الجنابي، حميد المطبعي، صالح كاظم، محمد الرفيعي، عبد الأمير معله، سركون بولص، زهير الجزائري وموسى كريدي.
مما يجلب النظر أن بيروت كانت ولحد أنفجار الحرب الأهلية هي المركز الحقيقي للحداثة في المنطقة حيث أزدهرت فيها حركة نشر واسعة أرتبطت بهذا الشكل أو ذاك بمجموعة كبيرة من المجلات الأدبية والفنية المهتمة بشؤون الثقافة الحديثة من كل جوانبها أشرف عليها أدباء وفنانون يحملون هم بناء ثقافة بديلة لما هو سائد ومألوف. ولست هنا بصدد تعداد هذه المصادر أو من كان يقف خلفها من المبدعين فقد تطرق عبد القادر لبعضها في صيغة الإستفتاء، بل سأواحل أن أماثل بين ما حصل في المرحلة تلك وبعدها وما يحصل الآن من تشتت ربما يكون مفيدا في تأسيس عدة مراكز ثقافية تغني كل منها على حدة التيار العام الذي يصب في النتيجة في الخطاب الثقافي المتميز الذي نطمح له. وبغض النظر عن التوق والحنين الى تلك المراكز المشعة التي كنا نجتمع حولها كما تتجمع الفراشات حول منبع الضوء أعتقد حاليا أن تنوع المصادر وعدم ثبات المراكز هي الحالة الأقرب الى روح العصر وعلى الأغلب الأكثر إثمارا في المدى البعيد إذا أخذنا بنظر الإعتبار كوننا نعيش حاليا في مرحلة إنسحاب المراكز الإيدولوجية وتداعي الإتجاهات القومية والشمولية سواء على المستوى العربي أو العالمي.
قبل فقدان المكان/المركز بدأت الحداثة تفقد مواقعها بالتدريج في بيروت بسبب الحرب الأهلية وفي القاهرة بسبب التأثير المتزايد لرجال الدين وتدخلهم بشكل مكشوف في الشؤون الثقافية حتى أصبحوا يشكلون الى جانب الرقيب السياسى رقيبا جديدا على عملية الإبداع الفني والفكري وشهروا سيوفهم حتى على رموز مهمة للثقافة الكلاسيكية المحافظة البعيدة ملصقين بهم مختلف التهم التي يزخر بها تاريخ "الإسلام السياسي" تجاه أعدائه. أما في بغداد فقد أنحسر الزخم الثقافي التجريبي مع زيادة هيمنة النظام البعثي الشمولي على الحياة العامة في البلد وإرتباطا بدعوات تكوين"ثقافة بعثية" وما نتج عن ذلك من "ثقافة الحرب" البعثية التي أستمرت آثارها المخربة حتى سقوط النظام على يد قوات التحالف لم تزل آثارها لحد يومنا هذا. ومع إنحسار المد الثقافي المبدع برزت هناك مراكز جديدة ومتنوعة وبشكل خاص في أوربا التي أحتضنت آلاف المثقفين العرب الهاربين من حيف الأنظمة والمجتمعات نحو آفاق أكثر تفتحا تعد بصيرورة جديدة في محيط لا يحد حرية المبدع ولا يضع المسدس على جبين المفكر.
ربما نجد هنا، في هذه العوالم البعيدة عن الجذور أرضا صالحة لنزرع فيها شتلة لا تطالها أيدي الإرهاب الأيديولوجي والديني الذي مازال مخيما على مجمل أوضاع المنطقة. ولتكن جذور هذه الشتلة في تنوعها بديلا عن أحادية الرؤيا وديالكتيك الإنسجام، بل ولتكن مكوناتها في حالة من الصراع الدائم الكامن وراء كل تجديد وبلا أهداف ثابتة وأزلية مثلها مثل الوجود الإنساني في إشكاليته الدائمة. من هنا فأن ما نراه حاليا من ركود يحيط بالمراكز وما نلاحظه من عدم وجود حافز مشترك للبناء الثقافي قد يكون أكثر قربا الى جوهر الحقيقة وبوابة حقيقية لإبداع ينتشر في الأرض مثل العدوى الطاعونية للمسرح التي يتحدث عنها انتونين آرتو.
حسن ولد المختار (كاتب وصحافي موريتاني يقيم في الخليج)
لماذا لم يسمع أحد اسم جريدة موريتانية واحدة
إن مقولة المركزيات في المجال الثقافي العربي، تبدو لي وصفاً لواقع كان قائماً يوماً ما أكثر من كونها حكم قيمة يمكن اعتباره مدحاً أو قدحاً الآن. كانت القاهرة في يوم من الأيام مركز إشعاع حقيقياً للحركة الأدبية والفكرية العربية، وكانت بيروت مركزاً أو عاصمة لدور النشر، وكانت بغداد تبهر العرب بجمهور قرائها الذي لا يشبع ولا يرتوي، وبقدرتها العجيبة على الإعلان مع إشراقة كل شمس عن شاعر مُجيد جديد. وكانت دمشق... وكانت غيرها من مدن عربية على المحيط وعلى الخليج أيضاً. لكن بعد انفراط عقد هذه المركزيات أو الميتروبولات الثقافية والذهنية تباعاً لأسباب كثيرة، يضيق المجال عن تعدادها، ظهرت حالة انتشار ثقافي هي ما يمكن تسميته بالثقافة العربية الواحدة ذات الاتجاهات المتعددة، وكان هذا، في رأيي عامل إثراء للثقافة العربية العامة بحيث تستطيع الحركة وفق اتجاهات وسرعات متعددة دون أن تفقد مع التعدد طابع الوحدة، وهو ما نعيشه الآن تقريباً، في المغرب والخليج ودول المشرق. حيث نقرأ لناقد مغربي فرغ لتوه من قراءة كتاب في آخر النظريات الفرنسية أو الإسبانبة. ونقرأ لكاتب عراقي مقيم في السويد، وآخر سوري يمتاح من ثقافة أميركا اللاتينية ونقرأ صحيفة كـ"إيلاف" أو الشرق الأوسط تصدر في لندن، مع ما يعنيه ذلك من هامش حرية وسقف مرن للسياسة التحريرية عموماً.
لقد قال الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان في بعض مقالاته الأخيرة في الـ"نيويورك تايمز" إن العالم يتجه إلى أن يكون أكثر تسطيحاً بعد كل هذه الدلائل المتواترة على قرب سقوط هرمية النظام العالمي أحادي القطبية، خاصة بعد تنامي دور الهند والصين وبروزهما كقوتين عالميتين بازغتين.
هذا كتوصيف عام، أما آثار فقدان المراكز والهوامش ونقاط الاستقطاب الثقافي على المبدعين فهذه أيضاً تستحق التأمل، من وجهة نظري.
إن أثر ما يمكن تسميته بالمركزيات والمركزيات المضادة في المجال الثقافي العربي كان كبيراً على حظوظ الإنتاج الإبداعي في الانتشار. فحظوظ كاتب ما أو نص إبداعي ما في الشهرة والانتشار يفترض أنها كبيرة لو كان مصريا أو لبنانيا، وفي مرحلة ما سوريا أو عراقيا، وتتضاءل هذه الحظوظ إذا كان ليبيا أو تونسياً، وتتلاشى تماماً، إذا كان موريتانيا، مثلا. من المسؤول عن هذا؟ هل هنالك مثلا استهداف أو مؤامرة ثقافية كانت أو ما زالت موجهة ضد كتاب هذا البلد أو ذاك، لأنهم من الهامش وليسوا من المركز، أعني الذي كان مركزاً؟ هل المسألة مسألة أقساط وطنية، في الإنتاج والانتشار؟ لا شك أن شيئا من كل هذا غير موجود... القصة وما فيها أن هنالك من ينشطون ويكتبون في وسط له تقاليده الثقافية، وينشرون بيسر، وبالتالي بتوافر شروط الازدهار الثقافي من متطلبات مادية وحرية ورغبة رسمية وغيرها تتخلق تلقائياً مقومات وجود مركز إنتاج ثقافي جاذب ومساعد على الانتشار. وهنالك آخرون تكبلهم ظروف النشر، وكساد سوق الكتاب، وامتهان العاملين في مجال المشهد الأدبي خاصة والثقافي عامة، من قبل جحافل البيروقراطيين من "العمال" ذوي الياقات الزرقاء في ميدان الثقافة، وفي مثل هذه الظروف تتخلق أيضاً "وصفة" مثالية لقيام هامش ثقافي يعتاش على إنتاج وإشعاع المركز، ويدور حوله!
مثلا من منكم قرأ قصيدة موريتانية واحدة، على رغم تلك الكليمة السخيفة التي يفاخر بها بعض المتأدبين الموريتانيين، وهي أن موريتانيا "بلاد المليون شاعر". إن ثيمة أو يافطة سخيفة كهذه ما زالت معلقة مع ذلك على جدران الكهف الثقافي الموريتاني، ولم تجد حتى الآن من يكنسها كما تكنس أوهام الكهف الأخرى الكثيرة، ومع ذلك لا أحد حتى في موريتانيا يزعم أنها كانت في يوم ما مركزاً ثقافياً حتى في فنون الشعر. حسنا ما السبب؟ السبب بالمختصر المفيد هو أن موريتانيا، تعيش حالة كسوف ثقافي شامل ومطبق، وقلْ ما قلته هنا عن أي حالة عربية أخرى مشابهة، من باب أن على كلٍّ كنس بابه الخاص، وأنا بدأت ببابي، كما يقال.
إنني أتساءل لماذا لم يسمع أحد اسم جريدة موريتانية واحدة رغم أن موريتانيا تصدر فيها أكثر من خمسين جريدة. ولماذا لم يقرأ أحد قصة ولا قصيدة موريتانية فيما أتصور؟ لسبب بسيط هو أن الصحافة عندنا قلَّ أن يجد فيها مبدع حقيقي مكانا للنشر، لأن محرري الصفحات الثقافية ينقصهم الطموح، ولأن الناشرين الموريتانيين يتعاملون مع الصحافة والثقافة كلها بمنطق: "أكل العيش" ولا يهمهم الوصول بتقاليد عملهم إلى القارئ العربي وراء الحدود.
في أجواء كهذه لا تسأل عن الإبداع والمبدعين، ولا عن الإشعاع والمفكرين والمجلات الرصينة، بل اسأل عن المتحذلقين والعيارين والشطار والمتسلقين من كل نوع. إذن المبدع في "دول الهامش" كان وما زال يرزح في ثنائيات مريرة، أولا: ثنائية الصمت/ الصوت: فهو إما أن ينحاز إلى الخلق والإبداع وإيصال صوته، على رغم العوائق، (بصعوبة قاومت إغراء إيراد ذلك الشطر: سأعيش رغم الداء والأعداء.. كالنسر فوق القمة الشماء). وإما أن ينحاز إلى الصمت فيصير عاملا من عمال المجال الثقافي، لا يميزه عنهم شيء مما يسمى إبداعاً عادة. ثانيا: ثنائية الصوت/ السوط: فيكون عليه بالمختصر المفيد أن يتصالح مع إكراهات المؤسسة الثقافية، ويتبادل المجاملة مع المتنفذين في المشهد الثقافي والأدعياء الكثيرين، وممثلي السلطات العمومية -الثقافية، لكي يمشّي حاله، كما يقال بالعامية. أقول هذا الكلام اعتذاراً عن مثقفي أطراف أو هوامش الثقافة العربية، الذين لن يجدوا أسماء بلدانهم ضمن ما اعتبر يوماً ما مراكز إشعاع ثقافي على الوطن العربي عامة، كغيرهم.
يتبع
شكر خاص للشاعر ميخائيل ممو لتزويدنا بصورة جيل الستينات التي نشرت في كتاب عنوانه "سركون بولص حياته وأعماله" بقلم روبن بيت بنيامين وصدر الكتاب في بغداد 1998