عالم الأدب

العقل والخلية البشرية وإبن رشد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أعتقد أنَّ ابن رشد قد ذهب بعيداً في تخيله حين قال إنَّ السّمـاء حيوان طائع* وإنَّ العقل يستطيع ترويضه أو تطويعه. ولو عاش في هذا العصر لغيّر رأيه. إن السماء ليست حيواناً طائعاً، بل مجموعات متشابكة من ألغاز وغموض لا يزال معظمها عصيّاً على العقل. فما اكتُـشف منها ضئيل جداً. وكذلك يمكن القول عن تركيب الخلية البشرية الجزيئي. فبالرغم من اكتشاف الجينوم البشري بعد صرف مبلغ ثلاثة بلايين دولار وجهود خمسَ عشرةَ سنة من الأبحاث الجادة، يصرّح كريك فينتر Craig Venter أحد مشفِّري الجينوم في عام 2004 بأنّ ( البروتين هو التركيب الباني للحياة، وليس الجينات. إننا لا نزال في المرحلة الأولى، وإنَّ 99% من الإكتشافات البيولوجية تنتظر دورها ). قالها بعد أن صرَّح من قبلُ بأنَّ في الخلية البشرية ثلاثمائة ألف بروتين، وأنَّ المكتشف منها حتى اليوم ثلاثة آلاف فقط! هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، إنَّ أشياء كثيرة لا يعرف لها العقل جواباً. فمثلاً، إن جين النطق فوكس بي 2 ( Fox B2 ) يملكه الإنسان والشمبانزي، وإن الطفل لا يستطيع النطق ما لم تُمارَسْ تلك اللغة أمامه منذ البداية ، ولكن الشمبانزي لا يستطيع النطق بتلك اللغة حتى لو نطقتَ بها أمامه عشراتِ السنين! وكذلك جينات هوكس Hox ، جينات الطيران، التي ترشد الطير أين يضع جناحه ورأسه حين يطير، وهي موجودة أيضاً في الفأر، فلماذا لا ترشده على الطيران فيطير حتى لو وضعتْ له عشراتٌ من الأجنحة ؟

يقول العلماء إن ثمة قطعاً من الدنا DNA تسمى المثيرات Promoters تلعب الدور، وهناك آلية الفتح والغلق switch on/off أيضاً، وهذا صحيح وثابت، ولكن لماذا يكون ثمة (فتح) في الجينين المذكورين أعلاه في الإنسان والطير ويكون (غلق) فيهما في الشمبانزي والفأر على التوالي ؟ إن جينات الإنسولين مثلاً موجودات في كل خلية من خلايا الجسم، بشراً أو حيواناً، فلماذا تنتج خلية البنكرياس الإنسولين، ولا تنتجها خلية الإصبع أو القلب ؟ تكون كل جينات الخلية المخصبة (زايكوت) فعالة (تفتح) في أيامها الأولى فتنتج كل أنواع البروتينات التي تحتاجها الخلية ويحتاجها الجسم في المستقبل، وتتخصص بعد بضعة أسابيع فـ(تفتح) جينات و(تغلق) أخرى؟ ولماذا يكون استنساخ الدنا ( أميناً )، وكتابتها لإنتاج الرنا RNA (صحيحاً) وترجمة الأخيرة إلى بروتين ( دقيقاً )؟ ثم إنَّ تكوين البروتين يجري بدقة متناهية وسرعة هي إلى الخيال أقرب. تصور أنَّ هناك ما يسمّى بالرايـبوزوم في الخلية وأنَّ نوعاً من الرنا الرسول Messenger RNA ترتبط به بنظام خاص وأنَّ هذه الأخيرة تتكون من قواعد نتروجينية، تسمّى كل ثلاث منها كودون Codon ، وأنَّ هناك رنا ناقلة Transfer RNA بأنواع عدة ومتخصصة، تحمل في نهايتها ما يطابق الكودون والذي يسمّى أنتيكودون Anticodon ، وكل نوع من هذا الأخير يختص بنوع معين من حامض أميني تحمله الرنا الناقلة. تأتي هذه الرنا الناقلة محملة بالحوامض الأمينية لترتبط بالرنا الرسول مُـلقـيةً حِـملَـها من الحامض الأميني الذي يرتبط مع حامض أميني ثان ألـقَـتْـه رنا ناقلة أخرى وثالث ورابع وهكذا بنظام معيَّن، ليكوَّن سلسلة ببتيد، وعدد من سلاسل الببتيد ترتبط سوية لتكوِّن البروتين. مالذي يجعل الرنا الرسول تحمل ذلك الحامض الأميني وليس غيرَه؟ وما الذي يجعلها تأتي في دورها وليس قبل غيرها أو بعدها، لتضع حِملَها في عملية تستغرق بعض الأجزاء من الثانية؟ والذي إن تمَّ من دون هذا النظام المعيّن، لا يتكون البروتين أو يتكون ناقصاً أو شاذاً مما (يميت) الخلية ومن ثمَّ الحياة ؟ وإنَّ شذوذا قد يحدث بين آن وآخر، فيعاني الشخص مرضاً أو عاهة مستديمة أوقد يكون الموت نصيبه قبل الولادة أو بعدها تبعاً لنوع الغلط الحادث؟ إذ إنَّ أيَّ خلل في أيٍّ منهن يجعل الحياة لا تطاق أو عدماً؟ كما هي الحال مع مرض فقر دم الخلية المنجليـة مثلاً ، حيث تم استبدال الحامض الأميني (فالين) بالحامض الأميني ( كلوتاميك )- حامض الكلوتاميك هو المُستبدَل_ في سلسلتيْ الغلوبيولين بيـتا، اللتين تتكونان من ستمائة حامض أميني، نتيجة إحلال قاعدة نتروجينية واحدة محل القاعدة الأصلية في الكودون الخاص به، فاختطف المرض حياة المُصاب، ما لم يُستبدلْ دمه على الدوام! والذي يتعمق في دراسة الجينات وتركيبها وطبيعة عملها وتأثير الواحد منها على الآخر، لا يرى إلاّ عجبا ولا يجد تفسيراً مقنعاً! فإذا لم يستطع العلم إيضاحاً دون التفكير بوجود قوة أو قوى خفية جبارة منظِّـمة، تبقى التساؤلات وتزيد، مما تجعل العقل حائراً في هذه المرحلة. ولكن يمكن القول أيضاً إنَّ الحياة التي عاشها إبن رشد قبل تسعمائة عام كانت بسيطة مقارنة بحياتنا الحالية التي تمت فيها إكتشافات كثيرة، وتفسيرات لظواهر متعددة. فكم سنة ينتظر البشر ليعرف أجوبة الأسئلة التي تقدم ذكرها، أهي عشرات من السنين أو تسعمائة سنة أخرى أو آلاف منها أو ربما لا يكون ثمة تفسير إلى الأبد!

وردت هذه الجملة في هامش قصيدة (إبن رشد) للشاعر كمال سبتي التي ترجمتها إلى الألمانية ونُشرت في جهة الشعر قبل بضعة أشهر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف