دلالة النقد والحكم الجمالي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ما معنى الحكم الجمالي هذا الذي يستهدف النقد الفني إنجازه؟ وما الذي يميزه عن غيره من الأحكام التي يصدرها الكائن الإنساني؟ تعد الإجابة التي بلورها الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نقد ملكة الحكم" من أشهر المحاولات الفلسفية التي حددت معنى الحكم الجمالي. والمنهج الذي سار عليه كانط في تحليله لهذا النوع من الأحكام وتحديد دلالته وكيفية تكونه، هو تحديد الأثر الذي يخلفه الموضوع الجمالي في الذات. فالجمال عند كانط هو ما يبعث في الذات الإنسانية شعور الارتياح والرضا، وإحساسا باللذة يختلف عن إحساس اللذة التي نشعر بها مثلا عندما نكون إزاء طعام لذيذ. فالإحساس بلذة الطعام تنتهي بمجرد استهلاكه وتحقيق الإشباع، بينما اللذة الجمالية يقول كانط هي لذة دائمة لا يصدق عليها مقياس الإشباع. كما أن الحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي اختلافا أساسيا من حيث المقوم الذي يتكون به الحكم : فالحكم المعرفي هو نتاج وعي بالموضوع وإدراك لخصائصه، بينما الحكم الجمالي هو نتاج إحساس ذاتي بالموضوع.
هذا هو التصور الشائع في الدراسات الإستطيقية، وهو تصور يجد جذوره وتبلوره الواضح في فلسفة كانط، الذي قال محددا الجمال بكونه “ما يبعث في النفس شعور الرضا من دون تصور”. ونظرية كانط في علم الجمال يعدها بعض مؤرخي فلسفة الفن التركيب الأوسع والأشمل لمختلف النظريات الجمالية التي بلورها العقل الفلسفي قبله. وبالفعل فقد استفاد كانط من الدراسات السابقة، فاستثمر أبحاث ألكسندر بومجارتن مبتدع اصطلاح “إيستطيقا” وهيوم وهيوتشيسون، كما استفاد من أبحاث مندلسون.
لكننا هنا لسنا بصدد تقييم نظرية الجمال الكانطية في شموليتها، إنما نحن بالتحديد أمام إيضاح ونقد تصوره لمفهوم الحكم الجمالي. حيث نرى أن التأمل في كيفية تشكل الحكم الجمالي وتحليله تجعلنا نفقد هذه اليقينية الباردة التي تسكن هذا التصور الذي قدمه كانط. ويكفي لاختلال هذه اليقينية أن نقول : هل يكفي الإحساس الذاتي لتكوين حكم جمالي على نص شعري أو نص مسرحي؟
إن كانط هنا والكانطيين من بعده قد خلطوا في تقديري بين مستويين داخل الحكم الفني/ الجمالي، هما مستوى الحكم الجمالي بوصفه حدسا، والحكم الجمالي بوصفه تفكيرا. ففي مستوى الحدس الجمالي يصدر الحكم تلقائيا من دون حاجة إلى تحليل معرفي للموضوع الجمالي أو إدراك مدقق لخصائصه. لكن على مستوى الحكم الجمالي بوصفه تفكيرا فنحتاج إلى الحدس والمعرفة معا. وهذا المستوى الثاني هو الذي يصدق على الممارسة النقدية التي تختص بإصدار الأحكام الجمالية على المنتوج الفني. فمختلف الممارسات النقدية، كيفما كانت توجهاتها المذهبية، لا يمكن أن تستغني عن معرفة وإدراك خصائص الموضوع الفني. ولذا فاعتماد التصور الكانطي للحكم الجمالي على إطلاقه هو اختزال لهذا الحكم في مستوى الحدس.
ونعود إلى السؤال: ما الذي يميز الحكم الجمالي عن الحكم المعرفي؟ إن الذي يميز بينهما هو كون الحكم الجمالي حكما على جمالية الموضوع، بينما الحكم المعرفي هو حكم على حقيقة الموضوع. فالفن في ممارسته يستهدف تمثيل الواقع، تمثيلا إيحائيا جماليا، سواء أكان ذلك الواقع سائدا كما هو الحال في فن المحاكاة - أم متخيلا كما هو الحال في الفن التجريدي، بينما قصد العقل المعرفي هو معرفة الواقع ووصف خصائصه وتعالقات مكوناته. وبرسم هذا الاختلاف في القصد تختلف طبيعة الرؤية المعرفية عن الرؤية الفنية للعالم. فالرؤية الفنية يحتل فيها الجمال موقعا مركزيا.
وبناء على محورية الخاصية الجمالية يتحدد معنى الحكم الجمالي وكذلك معنى النقد الفني أيضا. فالناقد الفني ينبغي أن يعي هذه الحقيقة الأنطلوجية التي يجسدها العمل الفني، وهي التمثيل الجمالي الإيحائي للواقع - سائدا أكان أم متخيلا، واقعا ماديا أم نفسانيا - وبما أنه أسلوب جمالي في تمثيل الواقع، فينبغي للناقد أن يلتفت إلى بحث جمالية أسلوب التمثيل والحكم عليه. فالنتاج لا يكون فنا إذا لم تتوفر فيه جمالية الأسلوب. ولذا حتى لو كان العمل حاملا لفكرة صحيحة أو معبرا عن قيمة من القيم الأخلاقية الراقية، فإنه لن يكون فنا إذا لم يحقق شرط الجمالية في أسلوبه.
ولذا لا تندرج ضمن الشعر مثلا تلك المنظومات المفتقرة إلى الخصائص الجمالية للشعر، حتى لو حملت فكرة أو دافعت عن قيمة . والحال يصدق أيضا على النتاج الذي فيه إسفاف في القيم وعوج في الأفكار. فقد تجد “قصصا” أو”روايات” ليس لها من فن القص والسرد أي ميسم جمالي، ولكنها لكونها استفزت شعورا أو أهانت عقيدة يدرجها البعض ضمن الفنون وتقام لها الدنيا وتقعد بقصد توظيفها لضرب فكرة أو قيمة من القيم.
بينما الصحيح هو الحكم على كون النتاج فنا بغض النظر عن توجهه الفكري والقيمي مادام متصفا في أسلوبه بالجمال. فحتى لو وجدنا نتاجا فيه إسفاف في القيم وعوج في الفكر لكنه يحمل جمالية الأسلوب يجب أن نسميه فنا ونثبت له ذلك. وإذا وجدنا العكس، أي نتاجا راقي القيم، صائب الفكرة لكنه لا يتوفر على سمته الجمالية، لا ينبغي تسميته فنا، مهما كان اتفاقنا أو حماسنا لمضمونه الفكري.
لكن ليس ثمة مانع من بناء تقويم شمولي على مستوى العملية النقدية، فالنتاج الفني الذي فيه جمالية الأسلوب يحكم عليه بكونه فنا، ويشار إلى ما فيه من سموق في خصائصه الجمالية، لكن إضافة إلى ذلك يصح أن ننظر إلى محموله الفكري والقيمي، وننتقد ما قد يوجد فيه من عوج أو انحراف. لكن مهما اشتد نقدنا لذلك لا يجب أن نصل إلى نزع صفة الفنية عن ذلك النتاج.
وعند نقدنا لفكرة فيه أو قيمة لا يكون نقدنا هذا نقدا فنيا بل الوصف الذي يصح هنا هو وصفه بكونه نقدا معرفيا إذا تناولنا المحمول الفكري، ونقدا قيميا إذا تناولنا البعد الأخلاقي. أما النقد الفني بحصر المعنى فهو نقد لأسلوب العمل الفني. وبما أن النقد الفني هو في الأساس حكم جمالي، وبما أن الفكرة لا يصح أن يقال عنها إنها جميلة أو قبيحة، بل هي إما صحيحة أو خاطئة، وبما أن القيم لا يصح نعتها إلا بكونها راقية أو هابطة ؛ فإن الحكم الفني حكم خاص بالناحية الجمالية من العمل الفني تحديدا من دون أن يمنعنا ذلك من بناء ممارسة نقدية فنية شاملة تستحضر في عملها واشتغالها النقدي مرجعيات معرفية وقيمية لتناول الجوانب المعرفية والقيمية التي قد تحضر في العمل. وهي بهذا الشمول تكون قد أضافت إلى النقد الفني الجمالي رؤى نقدية معرفية وقيمية.
أما إذا حضرت هذه الرؤى وغاب النقد الجمالي فمن الخطأ تسمية هذه الممارسة نقدا فنيا. وللأسف ثمة دراسات “نقدية” تقف في عملها النقدي عند تقويم الفكرة والقيم، وتحسب أنها بذلك أنجزت موقفها النقدي من العمل الفني، بينما الواقع أنها قيمت النواحي غير الفنية في العمل.
والأصوب هو بناء موقف شمولي من العمل أي بإنجاز نقد فني ومعرفي وقيمي أيضا، مع الوعي بحدود هذه الأبعاد وتمايزاتها عند الحكم على نواحي العمل.