زهرة النقشبنديين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
(في مدائح النبات، والثمار، والأعشاب، ثم الزهور)
إلى Roz، التي نَمَتْ في أرضٍ منفىً.
النبتة الأولى، أو العشبة الأولى
نبتة جلجامش، التي لم يصل إليها، غير جلجامش، فمضغها؛ ثم من مرارتها، لفظها؛ نبتة كلكامش التي يبحث عنها القادة السياسيون في العالم الثالث، ويبحث عنها، الجاموس في مستنقعات القامشلي، الجواميس التي تجترُّ نبتة المستقعات القريبة من حلكو، وتراقب قطار قامشلي ـ حلب، وهي تحمل المخابرات، والمساجين الكرد، الذي يأكلون قشدة نفس الجواميس، في السوق المسقوف الذي بناه الفرنسيون، يأكلون القشدة مع الشاي مع الظلال الصباحية الفائرة من نبتة فرن الأرمني. العشبة المباركة السهلة الممانعة القزمة الشحيحة،. لم تكن من نبتة، بل سيقان القاميش في القامشلي. يقول بعض مؤرخي الكورد بأن كلكامش مفردة مشتقة من كاميش ـ الجاموس ـ وفي ربط هؤلاء بين المفردتين، دون أسانيد مدونة: القوة والبطش: كلاهما الكاميش وكلكامش يطأآن النبت والعشب والشجر والزهر والصيغ التورية، بحثاً عن المنفيين في أوربا: أعني في البحث عن الزمن، منذ زمن الأسطورة في بلاد مابين النهرين، إلى بلاد مابين حلكو وحلب، حيث تراقب الجواميس الثخينة، العربة المغلقة الحديد، وهي تقلُّ بضعة شباب كورد، يتعرقون تحت جنبات القيود الحديد التي يرسفون فيها، ويتذكرون القشدة ـ النبتة. ويتذكرون شجرة ما، لتكن تلك الشجرة، شجرة "القزوان". لتكن شجرة التين المغبرة، التي كانت تتفرع من بيت مجحم والد "الرياضياتي" فهد بن مجحم"،؛ البيت الذي اشتراه شيخنا محمدنور، وتحت تلك الشجرة المغبرة التي تفرز الحليب والظلال، كتب ماكتب شيخنا. فكتب: "خالتي القامشلي"، مثلاً في ظل خالتي القامشلي وهي تراقب شجرة التين.
شجرة التين
منذ خمسة عشر عاماً، لم أر شجر تين، ولم أذق التين، إلا في مرات نادرة يبيعه السويديون وكأنه تفاحة آدم في الجنة: صندوق صغير يحوي بضعة حبات إما ذابلة، وإما صلبة غير ناضجة، أتذوق حبيباتها، أبلع واحدة، أمضغ واحدة، في مضغتين سريعتين، لاتشبه مضغات جواميس قامشلي لعشبة قامشلي، بل مضعة العِجول، ثم أستدير من الصندوق، إلى شجر التين، تلك، قبل سنتين، أو أكثر، أستدير إلى الشجرة المحرورة، في صيف "آلانيا" المحرور، في تركيا القاهرة؛ كان لقاؤنا عاصفاً، آخين ولات، وأنا صاحب شجرة التين لشيخنا النوراني؛ في كل صباح في تلك المدينة البحرية، في الشهر التاسع، كنا نسير من البانسيون المشرقاني الكوردي، إلى أشباح الأوربيين السائحين المتمددين على البحر الأزرق ـ وليس الأبيض، أشباح ثمرة التين الناضجة، والمتآكلة، هناك، من جهة الجبل، استقرت بضعة شجيرات من التين، كانت شمس آلانيا، قد أنضجت ثمارها، وأسقطتها على الحافة الحجرية القصيرة، وتكفلت أعشاب الأرض بتفسخها على الأرض، أربع شجيرات تين مصطفة على فراغ مكاني وزماني، بالنسبة لي، لم تكن آخين تعرف بأنني أحب التبن، كنا نصعد المنحدر البسيط الصاعد من البانسيون والبحر والأوربيين، إلى الجهة الشعبية من المدينة السياحية، نصعد الوقت الذي سنسرقه من الشمس، قبل أن تُغرق الجميع بلهيب لايُطاق، الساعة العاشرة والنصف، رأيت على شجيرة من تلك االشجيرات النوارنية حبتي تين، ناضجتين ممتلئتين متشققتين حمراوين ومكتنزتين بالشراب، شراب التين المقهور لنا نحن الاثنين الشاعرين، في وقت قبل ظهيرة آلانيا؛ هو نفسه الوقت الذي رأيت تين شجيرة الشيخ محمدنور، لكن، في الحلم: كان يلتهم الثمرة الطرية المعجونة بشمس عامودا التي لاتطاق، وعلى أوراقها الكبيرة الهائلة يدون (خالتي القامشلي)؛ هذا قبل نبتة البعث السوداء على عشب ملعب قامشلو، العشب الذي سمع صوت ارتطام أجساد الكورد بدمهم من طلقات الجنرال سليم كبول الفاتح. كان العشب أخضرَ، وكان الدم أخضرَ، لم يكن التين قد نضج بعد، على تلك الشجرة، في بيت "مجحم"، في الشهر الآذاري ذاك، بل كان زهر العندكو، يفور في حقول عامودا، في باحة عامودا الشاسعة.
زهر العندكو
زهر لم أجد مصطلحه ـ تواتره بالعربية، ربما لندرة هذه الزهرة في مفردات اللغويين العرب الأرضية واللغوية، هكذا سأبرر؛ زهرة ـ عشبة، تتفجر في بدايات الربيع بين حقول القمح والشعير، تندلع رائحتها علينا، نحن الذين نقترب منها، نبصر نسوة الكورد المزهوات بثيابهن المزهوة، وهن يقطعن الحقول والزهر والأنوثة المتفجرة والخَفر غير المتفجر، الخفر الضاحك على كمال أنوثتهن في صدورهن النافرة، وحركات الضحكات التي تقترب من روح العندكو المتفجرة؛ هن شيطانات الكرد، لشياطين الكورد، في حقول العندكو التي جاءت الطائرات الزراعية البعثية (الاصلاح الزراعي) فرشَّت على تلك الحقول سموم الشمولية، فذبحت الحقول والزهرة والأنوثة ونحن، أولئك المبتدئون بالكتابة ومراقبة النبات ـ الزهر، على الجهة الجنوبية من عامودا، جهة الطريق الى مدينة الحسكة، مروراً بقرية أجاتا كريستي "جاغربازار"، وقرية سليم بركات: موسيسانه، وقرية المهاجرين من زهر العندكو، إلى زهر النسيان والوحل في قرى يُغرق أهاليها إلى آذانهم في وحلها شتاء، وإلى آذانهم في غبارها صيفاً؛ القرى التي ستغرق في الاحصاء الاستثائي على نبتات البعث الصفراء الجافة القاحلة الفاجرة إلى آذانها في إلغاء أن زهرة اسمها "عندكو"، تنبت فقط في زهرة الحب.
زهرة الحب
أعمامي الإيزديون، هم أبناء الملك الطير المهاجر من الجنة إلى "مزار لالش المقدس"؛ أعمامي أولئك، الذين يشفع لهم طيرهم المهاجر "طاووس ملك"، لهم بضعة قرى متناثرة، حول حقول عامودا العندكو الشاسعة، ولهم شيوخهم ومريديهم، فقراؤهم وأمراؤهم، شواربهم وطقوسهم، حيواتهم الوجلة وتاريخهم ـ القتل، ولهم شيخهم الذي هو عمي: "الشيخ حِتُّو"، بعباءته النورانية، ونحافته النورانية، وأصابعه النحيلة الرؤوفة، وخاتمه الغامض، ولفافة تبغه من نبتة تبغ "قُرْدِيسي"، البعيدة القريبة الملغومة، عمي الشيخ الإيزدي "حِتُّو"، كان يهرع إلى عمي الكبير الشيخ سليم، من قريته "كندور"، إلى قرية شيخه الكبيرة، أعني "عامودا"، يهرع إليه، تسبق خطواته العجولة، عجلات سيارة الجيب، ذات الدفع الرباعي، وهي تخوض وحل قرى ملوك الطواويس، إلى جمهورية المدينة ـ مدينة زهر العندكو، حيث كنا العصبة، نراقب شهيق الزهرة، وهي تذبل تحت قصف السموم البعثية؛ ونراقب الشيخ "حتو"، وهو ينزل من سيارة الجيب، ذات الدفع الإلهي، من الشارع الفرعي لشارع رئيسٍ، يلف عباءته على نباتات جسده النحيلة الخشنة العصبية، لكن الرقيقة أبداً، مثل نبتات زهور الأنهار المرتعشة أبداً، يهبط بسلام ووداعة، يدفعه حبه للشيخ، أن يستعجل إليه، فيستعجل، شارع، شارعان، ويكون عنده:
الدرجات الثلاث لمكان الشيخ الكبير، الدكان المجاور للمعلم السري في دفع نباتات أرواحنا إلى لغتنا الكردية "صدقة ملا رشيد"، المعلم العصبي الآخر "أوسي حرسان"، مراسل وموزع هاوار، قبل ألف سنة، والجار الأخير السرياني، إسحق، والعتبة الصغيرة للبيت المقابل، حيث يستقر فيه شرطي فظ، جهم، جميل، الشرطي الذي عكس صفاته على ابنته المتفجرة أنوثة ورغبة وفجوراً، الحائط من اللبن، والعريشة النازفة على الحائط من اللبن، وزاوية الشارع، وشارع الفاتورة، والقمة العريضة البادية من "كري شرمولا"، والمنارة القديمة لجامع سيداي "ملا عبداللطيف النقشبندي"، والسماء المتجهمة من شتاء نباتات الغيوم الثقيلة، والبيت النص المدون المهجور للسيد إبراهيم مهاجر، والجن الذي يسكن هذا البيت، وأشباحه، والبيت الترابي المجاور بطبقتين، حيث يسكنه أولئك، الذين خلقوا، بعيون كليمة مذبوحة، فوهبهم الله، طاقة لاتقدر: زهرة الحب؛ زهرة الحب مكررة ثانية، والمدفأة الثقيلة بفتيلتة العريضة، تشتعل، ولاتنوس، وأوراق الشيخ، وآلة الفوتوكوبي الكبيرة، وأقلام الشيخ الذهبية الغالية، وأناقة الشيخ العم، وقلق المجردين من جنسيتهم الوطنية السورية! وديوان القطب الكبير الملا جزيري، والكلس المتقشر في زاوية ما، وأيضاً أنا: نرحب بشيخنا الإيزدي: "شيخ حِتُّو".
زهرة الحب، هما الشيخان العمان الكبيران.
شيخ مسلم متنور، يجعل من الكلس فكاهة.
شيخ إيزدي متنور، يجعل من الكلس فكاهة.
كانا يحرسان زهرة الحب، ويتبادلان مدائح مدونة على أعشاب الحياة المديدة لهما.
ميتان، زهر حب، بيني وبين الشاعرة آخين ولات، أناديه أحياناً: شيخ حِتُّو.
هل أعني به الشيخين وهما في نبات الحب؟. أناديه بالحب، منذ نزول الشيخ حتو الإيزدي من سيارة الجيب ذات الدفع الرباعي من قرية كندور، إلى قرية عامودا الكبيرة، إلى لحظات وصوله إلى الشيخ سليم المسلم. يراقبهما أيضاً الشرطي ـ ذلك الجميل، ويشاركهما في دعاباتهما الثقيلة المتسامحة لوجوده أمامهما، يضحك الشرطي، يبوس يدي الشيخين، ويدلف إلى بيته المستأجر، حيث العريشة، عريشة شجر العنب.
كروم العنب
العنب من ثمار الله الحارة القابضة؛ يتفرع عنه الزبيب ـ تقول كتب الطب القديمة الشعبية، بأن لعُجْْْْمِ الزبيب فوائد قابضة لفرج المرأة، إذا طحن هذا العجم طحناً صفيقاً، ثم دهن به الفرج، دهناً خفيفاً بلواعج الجنس، فيكون الباه أشدَّ وأكثر دفقاً ـ، هكذا تقول الكتب بنباتاتها الفاجرة القديمة، والباستيق والسنجوق والمربى، والعصير، والخل، ويتشكل منه، الأشْهرُ قاطبة: إبنة الكروم، النبيذ بألوانه الأحمر والروز والأبيض، كل نوع حسب نوع العنب المنكوب بمهرة الصنَّاع والحياة، العنب ثمرة الغبار والحرارة والسُّكر، كان صديقي الأحمر الملا سيف الدين، من قرية أخوالي "سيمتك"، ينقل سلة من عنب أبيه الملا، على دراجته الأرضية القلقة في البنزين، يختم السلة بورق العنب، ويختم المكان ـ القرية، بتلك الحجرة الصغيرة التي بناها لي جدي في بيت جدي القديم، الحجرة التي ذقنا فيها عنب سيف الدين، لكن، مخمراً إلى نبيذ رديء، تذوقنا العنب وأوراق العنب وغبار العنب وشهقة العنب عند مرور دوريات المخابرات، وهي تقطف العناقيد الأكثر امتلاءً بماء الحياة الحار القابض. الحار الذي يقبض على روح ساكني تلك الكروم ـ نواطيرها الأبديين، على عرائشهم من الخيش والزهر وعشبة جلجامش، وخوار أرواحهم، مثل خوار جواميس قامشلو، فهي نفسها الدورية الأمنية التي ألقت القبض على شباب الكورد في عامودا، بعد عقدين من الزمن، فلوت أذرعهم النحيلة وراء ظهورهم، وشدت رسغهم، بنبتةٍ بلاستيكٍ مثل شفرات الآلهة، وكانت ركبهم متورمة، وكانوا يمضغون ورق العنب، تلك بطعمها الحامض ـ المزّ؛ الطعم الحامض الذي ينتقل من الكروم إلى طعم التوت الذي كان يتساقط من السماء على البركة، فيتشقق، التوتُ، ويتشقق الزمن على شجرتين من التوت.
شجرتا التوت بحواشيها من العم والجد الميتيْن
شجرة مباركة، هي شجرة التوت، ترقد عليها آلاف من طيور الدوري الصغيرة، تظل طيلة الليل تحلم وتتسافد وتبيض وتفقس وتموت، وتعود فتحلم مجدداً: إنها طيور الجنة، فترتطم أجنحتها الصغيرة بأغصان ثقيلة، ملآى بالتوت، يسقط التوت الممتلىء ماء سكراً، ماء مسهلاً، ماء ليناً وحلواً مثل عمي، صاحب الشجرة، الشجرة التي لها جذور سميكة رطبة ممتدة في منتصف البئر المباركة تحتها، وتحتها يمتد صف من شجيرات الرمان الشعثاء الزعرانة، وكذلك الإوزات، البضعة البيضاء الموحلة دائماً من ماء بركة البئر، وبمناقيرها ـ مناشيرها، تغضب فتهجم على ضيوف الشجرة، ونحن نتسلقها، لنراقب آثار الطيور المسائية على الأغصان، وفي الأعشاش الصغيرة الأليفة، لفراخها، ونتأمل الوقت الظهيرة الجافة الراكدة على التوت، التوت اللزج، المتساقط من حرارة عامودا في شهر تموز بأذياله النارية، التوت المتساقط على أرواحنا وهي تطحن قصائد جكرخوين الشاعر، مرتلة بلغة التصوف لشيخ النعناع، شيخ صدرالدين، صاحب تلك الشجرة العملاقة، وصاحب أشجار الرمان الشعثاء، والإوزات الشرسة، والبئر، وصاحب البضعة من السنونوات، الراقدة في عشها من نبات عامودا، في سقف الصالون المفتوح الجهتين: الشمال الألغام، الجنوب: سينما عامودا التي كانت النيران قد غمرتها، وجاءت النيران على كل زهور الرواد الطلاب، الذين دفعته السلطات الوحدوية دفعاً، لحضور الفلم الحريق.
كانت شجرة التوت، تبكي، وتبكي؛ هي الشجرة نفسها، تبكي منذ خمس وثلاثين سنة، ولاتجف.
***
شجرة التوت التي في ملعب "نيشان"، في جهة من عامودا، ليست جنوبية تماماً، ولاشرقية، هي في الجهتين غير السعيدتين. جهة خنثى. الشجرة تلك، من أشياع الشيخ الجد المتجهم أبداً، الشيخ شيخ موس، اسم يدل على متونه في هوامش توتره أبداً، طباعه طباع الموس، رهيف وجارح، بارق ونحيف، هادىء ويقظ أبداً، لاتنام روحه؛ وإن نامت فهو الموت وقد بسط على جناحي الشيخ، جناحيه. تاركاً الشجرة، تقترب من جفافها، فلاتثمر، وإن أثمرت، فهو التوت الذي يشبه الشمولية البعثية: توت خردل، توت جاف، توت يغطي الحوش بشعاراته، ويغطي السماء بالعدم.
لكن، ثمت ماهو أكثر فصاحة: النبات الذي يشبه سيوفاً قصيرة.
النبات الذي يشبه سيوفاً قصيرة
"آراكسي" إسم أرمني، لمغنية ورسامة أرمنية، ذُبح أهلها في مذابح الترك، منذ سنوات بعيدة، وهاجر من أفلت من الذبائح، أهلوها، من مشارف وان، والحدود الهجينة بين كوردستان وأرمنستان، إلى قامشلي، ومنها إلى حلب، استقر الأهلون في حلب، وسيطروا على الحديد المنجور في معاملهم المنجورة من ذاكرتهم المذبوحة، على حجر الفاشية، تناسل الأهلون المهاجرون أولاً، وتناسلوا، ثانية، فكانت "آراكسي"، المغنية، سليلة الجيل الثالث من الهاربين، من أرمنستان، إلى مطابع اللغة الأرمنية في حلب، بقيت اللغة تحافظ على أصولها، لكن تكسرت النبرة والروح والدعابة، بسبب هيمنة العربية في بلد عربي مثل حلب.
استطراد خارج السياق الحكائي؛ لكن له علاقة بالسياق اللغوي، والنسق الأرمني
الجيل الأرمني الأول الفالت من المذابح، االجيل الذي هرّبه الكورد من شفرات القتل، عاش بين الكورد، ونما بين نباتات الكورد، تعلم لغته، واستقر بعضه في عامودا، الجيل الأول، لم يكن يتحدث مع بعضه البعض، تحت ظلال بيوتاتهم الدفيئة، إلا بالكوردية. رواية اللبناني، بجذوره السريانية: إلياس خوري، "يالو"، تتحدث عن يالو السرياني، الذي أنقذه ملامصطفى الكوردي، من القتل العثماني، ثم انتقاله الى القامشلي، ثم إلى بيروت، يالو الكوردي المسلم، يالو السرياني المسيحي، يالو الغريب، في النباتات الغضة، في رواية واقعية، الواقع الذي هو السحرية، في سياق النباتات الشرقية الشمولية.
"آراكسي"، هي المغنية بنقرات أصابعها على روحها، المهاجرة من حلب إلى غوتنبورغ، قبل عقدين، غنت تلك الليلة الكليمة، للشيخ أحمد حسيني، أغنية، متداخلة اللغات: الأصل الأرمنية، والفرعان: العربية والكردية، غنت أغنية عن الأنهار ونباتات الأنهار، غنت لبحيرة وان، وللخيول القليلة التي تصهل على حوافها ـ خيول الرغبة، وغنت لنباتات خضراء متصلبة، وغنت للزمن الذي دوَّنه مير شرفخان بدليسي، وغنت لذلك المساء المثلج في شقتها الدافئة الأرمنية، في مدينة غوتنبورغ السويدية.
غنت آراكسي، لسيوف ـ نباتات قصيرة خضراء متصلبة في آنية بنفسجية، على حافة النافذة الشمالية، حيث يرقد البخارُ من أنفاسنا، ومن أنفاس النباتات المطمئنة، كانت السيوف الصغيرة، تهدأ على صوتها بالأرمنية، وكانت نقراتها على الدف الصغير، بأصابعها الملونة، هي نقرات ماء مطري ينقر سطح بحيرة وان، ماء تورية، تورية ماء. وسيوف قصيرة تورية. أعني النبات الذي في النافذة طيلة الوقت، يراقب. يراقب النبات ذلك القطار السميك الأزرق المنطلق من القامشلي، يحمل في الفاركون رقم 4 الرقم الضائع في الهباب، بضعة شباب كرد مقيدي الأيدي من الخلف، من عشب ملعب قامشلي، إلى عشب ملوث قحط.
آراكسي، لم تغني أبداً، بل غنى النبات، الذي احتفظتُ به قرناً، ثم اختفى النبات، والسيوف، واللغات، والنافذة، والبخار على نافذة بيت آراكسي. واختفت آراكسي، تلك الأرمنية.
كان بخار القطار ـ هبابه الكثيف، يغمر قرى الكورد، وتهدر العجلاتُ المعدن، على أرض آذار الحرير.
زهرة الحرير
خيط الحرير من أمتن الخيوط، كان كهول الكرد يصنعون منه، شراشير ملونة، يعلقونها على رأس الإمام، إمام سبحاتهم من خشب البلوط أو من نواة الزيتون، وكان هؤلاء الكهول يتباهون ببضعة من تلك الخيوط، وهي تتدلى من رأس الإمام، على أعمارهم الخشنة، التي قضوها في لبس الخيش الناشف، واللباد الثقيل، يقتعدون مساءات كردستان، وبأعينهم الزائغة، يحملقون في الأزل، يحملقون في زهرة الحرير المستغلقة. الزهرة المجلوبة من آفاق الكرد الشمالية، حيث تعتكف النسوة االكرديات في عمليات التعقيد والفصل والنسج، والحياكة، والصباغة والفتل بمغازل بدائية، لخيوط عريقة، مجلوبة من الصين العريقة، الدودة الصينية العريقة، وهي تتكاثر على أشجار توت آفاق الشمال الكردي، هناك، على أطراف السهول، من طور عابدين، إلى كنائس السريان، ومعابد الإيزديين، ومساجد الأئمة من علماء الكرد وشعرائهم الكلاسيك ـ الحرير.
ـ "أللحرير زهرة؟"، يتساءل، أحد الكهول.
ـ هو زهر، ياهفرميش ـ Hevirmesh. يرد عليه، جاره الأعمى.
تعود السبحات إلى طقطقاتها، ترتطم حبة بأختها، وأختها برأس الإمام الحريري. لم يكن من غير الجدل بينهم حول فتنة الحرير الذي لايعرفونه، ثم يغيبون واحداً بعد آخر، يدخلون في الحرير، أخيراً، لبسوا زهرة الحرير المرن الخفيف، الحرير النقشبندي. زهرة الحرير النقشبندية، وهي تتدلى من نعوشهم: بضعة خيوط من حرير، من زهر الحرير الذي لاوجود له في حيواتهم الحسية، بل في مكان آخر قصيٍّ، مكان لاتصل إليه أياديهم الخشنة، وهم يعدون في تذكاراتهم التي لاتنتهي، على سبحاتهم، أسماء أنواع نبتة التبغ.
كنت أملك شالاً نحيفاً حريراً من أولئك الكهول؛ وكنت املك زمناً حريراً، قريباً من زمنهم، غير الحريري، في عامودا، حيث تخفق رايات البعث فيها، خفَّاقة من عشب شوكي، يلتصق بالجسد، عكس الحرير، الملمس الناعم الطري ـ من شجرة الديمقراط.
شجرة الديمقراط
شجرة جففها العالم الثالث.
وفي وصف تجفيف شجرة، حسب علوم المجففين:
اللبن الرائب ـ العيران، سطل واحد منه، يجف شجرة عليها ألف ععصفور، ومليون حبة من التوت، وثمانية آلاف من دودة القز، وبضعة طيور من أبناء وبنات السبيل ـ الذكر والأنثى ـ، وسماء صافية، والمساء الذي يتراكم على شجرة الديمقراط؛ المساء الثقيل العنيف الشعاراتي، الشجرة المتعثرة بماء اللبن.
زهرة الحب ثانية
ليس لها تعريف؛ ولم يكتب عنها أحدٌ، هي زهرة كلكامش التعيسة، هي زهرة أوفيليا، هي زهرة عطيل، هي وردة أمبرتو إيكو، هي زهرة القطارات، كل قطارات العالم، ماعدا قطار قامشلي ـ حلب، هي زهرة النهر الفاجرة الصفراء، هي زهرة الشيخ حتو، وزهرة الشيخ سليم، هي زهرة الزمن والمكان، هي زهرة الخالات، زهرة الأخوال، زهرة مربى المشمش، ومربى المنفى.
زهرة الحب، زهرة النقشبنديين.
OPHILIA
"على الماء الراكد والأسود، حين تغفو النجوم،
تعوم أوفيليا مثل زنبقة كبيرة،
تعوم بهدوء كبير, مستلقية في غلائلها الطويلة.
أوفيليا البيضاء عائمة, مثل زنبقة كبيرة".
ماكتبه رامبو، عن زهرة النقشبنديين.
اشارة:
في الدخول، ثم الخروج من شرنقة الحرير ـ حرير المعلومات، من زهرة الجوجول الإلكترونية:
(تمر اليرقة الناتجة من بيضة دودة الحرير التي تضعها الفراشة خلال دورة حياتها بالمراحل التالية:
- بيوض الحرير.
- اليرقة أو دودة الحرير.
- الخادرة أو الزيز.
- فراشة.
تبيض دودة القز 500 بيضة تقريباً. ويبلغ طول خيط الحرير 1500 متر تقريباً.
شرانق الحرير ثلاثة ألوان: أبيض، أصفر، وبرتقالي. الأبيض يعطي خيط حرير باب أول، والأصفر باب ثان، أما البرتقالي فباب ثالث. تتغذى دودة القز من ورق التوت فور خروجها من البيضة، ولكي تفقس تتعرض لحرارة 24 درجة "مئوية" مدة عشرة أيام حيث تخرج منها اليرقات (الدود) وتستمر بأكل ورق التوت حتى تصبح قادرة على نسج الشرنقة. تمر دودة الحرير، منذ خروجها من البيضة الى أن تصبح شرنقة، بخمس مراحل تسمى "أعمار الدودة". يفصل بين العمر والعمر فترة انسلاخ، تسمى "الصومة"، وعددها أربع، تتوقف خلالها الدودة عن الأكل، لتخلع عنها جلدتها القديمة كي تتكون لها جلدة جديدة تمكنها من النمو. وعندما تباشر الدودة نسج الشرنقة تتوقـف عن الطعام وتبحث عن مكان مرتفـع تثبت نفسها علـيه بواسـطة أرجلها الثمانية الخلفية، وتبدأ بفرز خيط الحرير من فمها وتغلف نفسها به تدريجياً. عندما تكتمل الشرنقة، تتحول الدودة تدريجياً الى (خادرة) أو (زيز) وبعد مرور أيام عدة تتحول الى فراشة. وحين يكتمل نموها تفرز مادة آكلة للحرير تمكنها من ثقب الشرنقة والخروج منها. بعد خروجها من الشرانق تتلاقح الفراشات وتضع الإناث بيوضها لتعيد دورتها الحياتية مجدداً.
ـ للاحتفاظ بالشرانق كما هي توضع في أكياس نايلون داخل الثلاجة حيث يتم خنق الزيز في داخلها.
ـ للحصول على خيط الحرير توضع الشرانق في ماء مغلية، ويسحب خيط الحرير على مغزل خاص.
ـ للحصول على البيوض تترك الشرانق في علبة مفتوحة وبعد 20 أو 25 يوماً تصبح فراشات ويتم التزاوج وتؤخذ البيوض منها.
ـ يحفـظ البيض داخل ورق أبيض ناعم في البراد للسنة القادمة، وعندما يأتي موسم التوت القادم يخرج من البراد ويوضع في مكان دافئ (24 درجة مئوية) لمدة عشرة أيام تقريباً، حيث تخرج من كل بيضة يرقة (دودة) ، وبسرعة يفرم لها ورق التوت على قياسها. وكلما ازداد حجمها يفرم الورق بقطع أكبر حتى تصبح الدودة بقياس الورقة نفسها، وتتغذى منها مدة 40 يوم تقريباً لتغدو قادرة على نسج الشرنقة.
- نحتاج الى 110 شرانق تقريبـاً لصـنع ربطة عنـق مـن الحـريـر.
- نحتاج الى 630 شرنقة تقريباً لصنع قميص من الحرير.
- نحتاج الى تربية 3000 دودة قز تأكل 65 كلغ من ورق التوت لصنع كيمونو من الحرير السميك.
- 8000 دودة قز تأكل 170 كلغ من ورق التوت وتمكننا من صنع عشرة قمصان من الحرير.
- إن شرنقة متوسطة الحجم تحتوي على 300 أو 400 متراً من خيط الحرير.
- إن الشرنقة الأنثى تزن أكثر من الشرنقة الذكر.
ميزات الحرير
ـ له لمعية ينفرد بها عن بقية الخيوط الكيمائية والطبيعية.
ـ يمكن صبغه وطبعه بمعظم أنواع الصباغ ويعطي ألواناً جميلة وجذابة.
ـ ملمسه ناعم وطري يزيد لابسه رونقاً وجمالاً.
ـ عازل ممتاز للحرارة لذا فهو دافئ في الشتاء وبارد في الصيف.
ـ يمتص الرطوبة حتى معدل 30% من وزنه ومع ذلك تشعر به جافاً فهو يمتص العرق ولا يلتصق بجسد من يرتديه.
ـ أمتن الخيوط على الإطـلاق فإذا أخــذنا على سبــيل المثال خـيطاً من الحــرير وخــيطاً مـن الفـولاذ بالقــطر نفسـه فإنهـما فـي هــذه الحـالة بالمــتانـة نفســها).
بورتريت الشاعر، من عمل عمر حمدي ـ مالفا.
غوتنبورغ ـ السويد 20 ـ 09 ـ 2005