هابرماس: المستقبل للدين العاقل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قبل أيام أطلق شيخ الفلاسفة في العالم "يورغن هابرماس"، صيحة مدوية لم تسمع جيدا وسط غبار الكلمات والتفجيرات التي تصم الآذان والعقول في عالمنا العربي، وهي: المستقبل للدين العاقل. ففي المجتمع ما بعد العلماني، لا يستحق من الاديان صفة "العاقل" الا الدين الذي يتخلى بسبب تعقله الذاتي عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات، وعن الاجبار القسري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين اليه، وبالدرجة الأولى عن استخدامهم للقيام بعمليات انتحارية.
تلك الفكرة، من وجهة نظره، تدين بوجودها لتأمل ثلاثي الاضلاع يقوم به المؤمنون، متأملين موقفهم في مجتمع كوكبي تعددي. فعلي الوعي الديني أن يعالج أولا :اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخري وأديان أخري. ويجب عليه ثانيا: أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم. ويجب عليه أخيرا: أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينية.
ومن دون هذا "الدفع التأملي"، برأيه، سوف تفجر الاديان التوحيدية طاقة هدامة في مجتمعات محدثة بلا رحمة. ومعني "الدفع التأملي": التأمل والتفكر والتدبر والنقد المزدوج وهو من خصائص المجتمعات الحديثة منذ عصر النهضة الاوربية، والتي خاضت - وماتزال - صراعا مريرا بين الفلسفة والدين، والعقل والنقل، من اجل الانتقال الي الحداثة ومابعدها.
يقول تولاند: "إن الخرافة تترصد المرء بمجرد ولادته، إن القابلة التي تخرجنا الى الدنيا تتناولنا بالطقوس الباطلة، والنساء اللواتي يحضرن الولادة يعرفن عدداً لا نهائياً من التعاويذ يعتقدن انها تجلب للطفل المولود السعادة وتبعد عنه الشرور". "وحين يشب الطفل عن الطوق تزداد معه قوة اعتقاداته الباطلة، إذ تحكي له المرضعات قصصاً عن الذئب الخاطف، والخدم قصصاً عن العفاريت. وتعلمه المدارس قصصاً عن "عرائس الماء"، اضافة الى أعمال سحر وأحداث عجيبة، ويقرأ شعراء وخطباء، كلهم محترفو كذب ودجل. ولا يصبح شباب الجامعات أحسن حالاً ولا أكثر حكمة. وليس الأساتذة أحراراً ولا مخلصين، لأنهم ملزمون مجاراة قوانين بلادهم". "إن الجامعات لهي المشاتل الحقيقية للاعتقادات البطالة".
وجاء أعنف نقد لتولاند من "كلود جلبرت" صاحب كتاب "تاريخ كالاجيفا، أو جزيرة العقلاء" عام 1700 - بحسب رواية بول هازار - إذ يقول جلبرت: "لم يسائلوا (تولاند وبقية العقلانيين) أنفسهم حتى، لماذا كان الناس من مسلمين ويهود ومسيحيين، يصلون على مر العصور، إن لم يكن في نفوسهم قَبْس ديني لا تستطيع قوة أن تطفئه، بل ظنوا، لعدم تعمقهم، أنهم قطعوا كل قول، عندما تحدثوا عن الضلال والخداع...".
وكلود جلبرت هذا هو الأب الروحـي لإدمونـد بيرك الذي أعلن مقاومته لرجـال عصـر التنـوير الذيـن أعلوا من شأن العقل، كذلك الثورة الفرنسية التي جاءت معبرة عن التنوير عام 1789.
نشر بيرك كتابه الشهير "تأملات في الثورة في فرنسا" عام 1790، عارض فيه عقلانية عصر التنوير، الذي سماه "عصر الجهل". ووجهة نظره ان الدولة والكنيسة كيان واحد، لأن الدين هو مصدر التشريع. والعدالة ايضاً مصدرها النظام الإلهي عبر الحكمة الجماعية. ولهذا، فإن العقد الاجتماعي ليس على نحو ما تصوره فلاسفة القرن الثامن عشر، وإنما هو عقد أبدي وينطوي على قوة أخلاقية دائمة... ومعنى ذلك أن الغاية من السياسة عند بيرك، هي المحافظة على المجتمع، (بحسب مراد وهبة في "ملاك الحقيقة المطلقة").
وفي عام 1953 أصدر "رسل كيرك" كتابه "العقلية المحافظة من بيرك الى إليوت"، الذي يعد مانفستو اليمين الجديد في اميركا أو قل "الأصولية المسيحية"، وفيه يعلن تأثره بمدرسة بيرك باعتبارها المدرسة الحقة للفكر المحافظ.
يقول: "إن ماهية المحافظة الاجتماعية تقوم في الحفاظ على التراث الاخلاقي للبشرية. لذلك، فإن المحافظين يوقرون حكمة السلف، ويتشككون في أي تغير حادث"... وهو يطرح ستة قوانين للفكر المحافظ أولها (وأخطرها) في أن قصداً إلهياً يحكم المجتمع، وان المشكلات السياسية في أساسها مشكلات دينية.
تجسدت آراء كل من جلبرت (1700) وبيرك (1790) وكيرك (1953) في نهاية السبعينات من القرن الماضي، في حركة دينية أصولية جديدة عام 1979 باسم "الغالبية الاخلاقية" بزعامة القس جيري فولويل رائد الكنيسة التلفزيونية في العالم، والذي يعتبر نفسه تلميذاً في هذه المدرسة
وتزامن في العام نفسه (1979) نجاح ثورة الخميني في إيران، وصعود نجم رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر وحزبها في انكلترا، وتوقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية في كامب ديفيد في اميركا. ومعروف أن الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن التقيا جيري فولويل وطلبا منه المساعدة في انجاح عملية السلام، وانه شجع على انشاء مجمع للأديان السماوية الثلاثة في سيناء.
كما أنه أيد، وحركته، انتخاب رونالد ريغان حاكماً لولاية كاليفورنيا ثم رئيساً للولايات المتحدة الاميركية، وأيضاً أيده في مشروع "حرب النجوم". وهو اليوم من أكبر المؤيدين لتنظيم القاعدة، ويرفض بشدة وصف ما حدث في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بأنه عمل إرهابي يستحق الإدانة المطلقة، فهذا هو القصاص الإلهي، لأن المؤمنين لم يغيروا ما بأنفسهم، ولا سبيل للنجاة مما يحدث، وما سيحدث، إلا بالتوبة عن المعاصي... وكأنه يصادق - من حيث يدري أو لا يدري - على مزاعم "القاعدة"، وكل قاعدة، بأنها تنفذ إرادة الله وعدله في الارض.
كاتب المقال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية
dressamabdalla@yahoo.com
اقرأ أيضا: