خمس بطاقات من أجل دريدا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إذا ضربنا صفحاً عن محاولات واهتمامات تفكيكية سابقة، يكمن القول، هنا، : إنّ هذه محاولة أخرى؛ فيها تردّدتُ وأنا أكرّر دخولي، بآلياتي وآلاتي ومعاولي المثقفة = (بالمعنيين القاموسي والاصطلاحي)، هذا المعترك الذي دُعي بنظرية القراءة ما بعد البنيوية؛ وسميت في أوج تجلياتها بالتفكيكية. كان، إذاً، التحدي يقف، كما لو أنه، بالفعل، هذا الشيء الميتافيزيقي الأكثر قهراً ورسوخاً وإعجاباً، على نحو إبداعي. الأكثر تحريضاً على الخوض التطبيقي. والأكثر حاجةً، بالتالي، للصبر والحصافة والتحايل وأخلاقيات المكر والمناقشة الدماغية الفعالة، كما لو كانت ضرباً من الوساوس، والتأملات الشعرية. بكلام آخر، كان هذا التحدّي يتطلب حذراً واشتياقاً وفتوّة ومخاطرةً في التعرض للثقافة التفكيكية، والعبور إلى آرائها، والوقوف على أرضيتها الزئبقية، والمطاطية؛ بتنويع مادي وضعي. لكن الأكثر صموداً كونها النصّ الديريدي لا يقبل الاحتواء، لأنّ الاحتواء مثالي، بتعبير جاك دريدا. ومن ناحيتنا، لقد دَعى هذا الحرص المضادّ لآلام الفلسفة عموماً، إلى أن تظلّ اللغة المستخدمة في التطبيق لغةً أدبية ذات اهتمام شعري حثيث، لا يفارقه تفكير النقد. إذ يتجلي الشعري بصفته إغراءً لحركة التأويل. على أن ما سيأتي يظلّ، حقيقةً، يتوسّل التجلّي (في) تجاوز الفرق بين الأدب والفلسفة. الشيء الذي يذكّر بنجاح جاك دريدا في نسفه الفروق بين الفلسفة والأدب والنقد. ومن ناحيتنا، الشيء الذي يراد له العبور - بعد أن يتجلى التجلي (في) تجاوز الفرق بين التجربة الشخصية والتجربة الإبداعية - في إبداعية القراءة الفعّالة.
كلمة يدي ليست ملكي:
أيّ كلمة، عادية أم مقدّسة، غائبة. لا حُضور لها سوى في التأويل لدى نظريات القراءة الحديثة. حضورها، بالأحرى، داخل سياقٍ فكري أراد إفراغ ذاته والرضا بالفراغ وفن التأويل كسياسةٍ تدنو - لتبتعد - من سلطة السياسة المُعرَّفة بـ"فنّ للممكن"، وتبتعد - لتدنو - لتفكّكَ بإرادة القوّة وبسياسات " اللعب الحرّ " والجادّ. حيث التفكيك هو هذه اللعبة الجادة، التي ستغري وتوسّع من مدارك السياسة. و لعلّ من مُتطلّبات فنّ القراءة والإدراك داخل مجريات السياسة والتفكيك، أن نهربَ، أن نتجاوزَ عالماً كهلاً من السؤالِ ومعصية الأرضيين، عالماً أحوج ما يكون إلى تبدّي الحقيقة والظهور. إنّ كلّ حقيقةٍ راقصة هي ليست حقيقة؛ حتى وإن كانت ثمة مومس، في العيون، ترقص وتوهمنا بأنها حقيقيةً، ومنالاً ممكناً، بإشارةٍ ما. النار، أيضاً، في العيون، ترقص، وإنها حقيقة. النار ترقصُ في الماء، والنار تموت بالماء. و كلّ سمكةٍ في نُزْهَتِها و نزاهة حركتها هِي حقيقةٌ، ولا يراد أن نفهم أنّ نفيَ الحقيقة عن المومس الراقصة يدعونا لأن نَعرِفَ الحقيقةَ من كونها هذا الشيء والتصور الثابت؛ إنما يُراد لنا، وحسب، أن نعيَ ونميّز بينَ إدعاء المومس وبين طبيعة السمكة الراقصة في طبيعة الماء. هذا الوعي والتمييز المتطلَّب إذا يحصل فهو من الحقيقة، وإذا أهمل و بات في الإغراء والسياسة الميكيافللية، فسيكونُ ضدّا للحقيقة. وكيف سيتصرف الوعي حين تغدو المومسُ سمكةً، والسمكةُ مومساً، والرقص خطاباً ؟ بهذا السؤال، بهذا المعول السامّ، كان مقتل البنيوية. وتفكيك وتجاوز الفرق العقلاني وتزويج المومس للسمكة بشهادة الجذور الأمفيدوكليسية الأربعة : النار والماء والتراب والهواء ! وفي هذه القرابة الشبقية والفنتازية والسرويالية هدم للمنطق وإخلال بالقيم وأخلاق الطبيعة. لكن لن يكون بمقدور المومس ولا السمكة أن تتعرّى من كونها قيماً بنيوية غائيةً، وإذ يتخذها - الآن - التفكيك قيماً له، فلن يكون لنا أن نَقرأ هذا الأخذَ إلا بصفته تموضعاً في القيمة، أي قصداً واعترافاً بغائية التفكيك. إنّ غاية التفكيك هي التفكيك، والتفكيك هو التفكيك؛ لكنّ هذا ليس شبيهاً بمحاولة من فسّر الماء بالماء بعد جهد وعناء. إنّ الإجابة عن سؤال : أين نجد التفكيك؟ نجده في العلامة، في المومس، في السمكة، في الحُجّة والغاية. وبذلك سيظهر هذا التواطؤ بين دعاة البراغماتية ودعاة التفكيك؛ وهو ما يستعيدُ حضورَ الغائية البنيوية الأدبية والفلسفة المثالية.
إنّ السمكةَ في البحر هي ملك بقائها، السمكة في يدي هي ملكُ بقائي. والحال، أنّ إمكانيةَ السمكة سوف تفضي إلى تمثيلية الجسد. أو أنّ الإمكانيةَ تُطوّرُ حضورَها؛ لتَظهرَ بصفتها منفعةً في متناول الجسد. أو لتسخو، هذه الإمكانية، بإقامة السمكة ذاتِها في التمثّل؛ تصويراً لمِثالِ الحيازة والملكية. هذا اليقين المثاليّ الأخير، سوف يظلّ عرضةً لنهبِ واستعمال التفكيك، ذلك لأنّ السمكة (العلامة) لا تتقن أداء الثبات في حوزة، وفي خيالات، يدي. يدي التي أنظرُ إليها - الآن - بِصفتها بحراً. كلمةُ يدي هي لَيْستْ ملكي، ذلك أنّ السمكة اللعوبَ تلعبُ في يدِ التأويل. إنها ستظهر تتقدّم، على سبيل الإغراء، لقارئ يقرأ، في حضورهاِ، تملّكَ اليدِ للحياة، بقوة الغريزة، أو بإرادة القوة، أو بقوّة الحبّ منظوراً في هناءة القوة الإيروسية. للقارئ، هذا الجدول التالي:
كلمة يدي / كلمة لساني
كتابة / كلام
كناية / لوغوس
إشارة جسد / صوت حيّ
إرادة قوة / إرادة قول
وقد تثبت الإدانة بحقي، لكوني أعينّ السمكة، أي قد يدينني قارئ - الآن- بالانحيازإلى عالم البحر؛ إذ أتوجّه - كما ترون - بوعيي وحواسي لجماليات ومضامين البحر في مقابل تركي لعالم البر. ( في ضوء هذا التوجه أدعو قارئي لإعادة قراءة 1/2 من مقالتي : " الأشكال لا تجيب " ) لكنني أودّ من القارئ أن يعي حقيقة ما أفعل في مقالتي الحالية، وإنني لأدرك تمام الإدراك أن مطالبتي للقارئ بأن " يعي حقيقة ما أفعل " لا تروق للتفكيكية. إذ قد ينبغي عليّ، لكي لا يصار إلى ذكر الحقيقة والوعي؛ ألا ألمّح بالغائية والبنيوية لا من قريب ولا من بعيدٍ؛ حفاظاً على عقلية التفكيك. لكن أليس من الجنون الواضح والخَوَت (الأخوت : هو المجنون في اللغة الشامية المحكية) أن يغض التفكيك عقله وعينه عن كوني أني أنا الذي أكتب الآن وأتوجّه بوعي وحواسي للبحر قادمٌ من التراب ؟ وسأظلّ أنا أنا إقامتي في التراب. وإنني كائن ترابيّ، إذا ما استعنا بالأصول اللاهوتية. لكني، في الوقت ذاته، كائن متعالي، نرجسي جوزائي، وذلك بحسب تصنيف عالم الأبراج. وهكذا أبدو بالغ الحيرة و توجهاتي غير ثابتة؛ إنني مختلف الأمزجة : مائي، ترابي، ناري، هوائي ! وأنا حيث إقامتي في التراب، وحيث أني كائن ترابي لا مائيّ، مجازٌ مرسل علاقتي جزئية (تجسيد) بالتراب (تجريد). أما التراب فإنه ذلك المجاز المرسل للجزء (أنا الميتافيزيقي، والترابي المُجسّد معاً). فكلانا ندل على بعضنا. لكن عقلية التفكيك ترفض هذا الحضور وهذا الدليل. حيث يظهر المجاز بوصفه الأداة الدالة على الحقيقة. وهذا إنما يشّكل صفعة مقوّضة للغياب، للتفكيك. والذي، بدوره، سيقوّض أناي المتعالية، نرجسيتي، وسيفعل ذلك ضدّ كوني كائناً ترابياً لاهوتياً، أي كائناً مُتطلّعاً إلى السماء.
إنني - الآن - واحدٌ مطلٌّ على مسرح البحر الأزرق. والأزرق غواية الشعراء، على سبيل التجريد، الأزرق خلاص الشعراء. وأما على سبيل التجسيد، فأكيدٌ إنّ الغواية سمكة. وسنظلّ نرى إليها بصفتها المجاز المرسل. إنّ التجريد هو الاسم المؤدّي للخلاص، للميتافيزيقا، للماهية. والتجسيد هو ذلك الاسم الذي يعرّف ويسمّي الوضع، و الشيء. وهنا، وفي الوقت ذاته، سنحايث التأنيث، بصقته تجريداً، في السمكة. وفي الوقت ذاته، فإنّ السمكةَ هي الكناية والاستعارة، وهي المجاز المرسل (المُجسّد : المعرف والمُسمّي) بصفتها كائناً مائياً. وطبيعة الماء طاهرة و صافية وشفافة، لكنها قابلة للتكدّر. وهنا، دعوني أمثّل الحقيقة بالسمكة، وهي في طبيعة الماء. ودعوني أقول : إنّ السمكةَ والماء معاً، نصّ في يد التأويل. في إمكانية القبول. قبول التأويل. الخطاب، بالأحرى.
إنّ من الضرورة بمكان، أن نَذْكُر أنّ التفكيكية التي أخذت على عاتقها تقويض الميتافيزيقا، هي، بلا شكّ، فلسفة التجسيد، فلسفة الأرض؛ بدءاً بنيتشه ومتابعة لدريدا. إنها، إذن، تقوم على مبدأ مادية الدال ولا تسمح له بأن يؤول إلى معنى أو دليل أو مثال متعالي. هذا، إذاً، يكفل بالعودة إلى الأرض (التراب، والبحر معاً) بما هما هذان البعدان أو المسرحان الوضعيان؛ حيث سيسعى التفكيك إلى نزع موضوعية التقابل عنهما، أي نزع الصفة البنيوية. وذلك بإبدال "بُعد" بـ "فضاء". فضاء "اللعب الحر"، فضاء الاستعارة والكناية والمجاز. حيث رفاهية الشعر. إذا كان الإبدال والإحلال يَعْبُر القدرة إلى التفكيك، وبالتالي التحرّر من المرجع والغائية، وقدرته على الاستعانة بالشعر من أجل عيش التفكيك؛ إذا كان ذلك الأمر صحيحاً، وحقيقةً؛ فإنه ليس صحيحاً ولا حقيقةً، أنَّ الشعر حليفٌ ومتواطئ ضدّ الحقيقةِ؛ يُكْرِمُه دريدا بالبديل. ليس صحيحاً ولا حقيقيةً، لأنّ أيّ شعرٍ - ببساطةٍ وبوضوح وغائية - لا ينطلق من " بُعدٍ" إلى "بٌعد" وراء الأبعاد، فهو لا يعدو عن كونه لغةً بدينةً بلهاء !
إنّ البنيوية أو - بالأصح - إنّ الغائية هي حضور الإثم مرفوعاً في التفكيكية، والذي سوف يظهر، دائماً، في عمليات وسياسات اللعب. إذ يجدر بنا، هنا، أن نرى إلى التفكيكية بصفتها المومس الراقصة على كل الحبال، الهاربة من قوانين البنيوية والمكبوتة فيها، كإثمٍ يظلّ يَظهر كشبحٍ على هيئة رقصة ضمير حيّ. إن التفكيكية، إذن، لمصابةٌ بـ"عقد بروميثيوس " وفق فلسفة النار لغاوستون باشلار؛ الفيلسوف الذي يرى " أنّ النار والحرارة تمنحان وسائل التفسير في مجالات متنوعة، لأنهما بالنسبة لنا، فرصة لاستحضار ذكريات حية دائماً. وتجارب شخصية بسيطة وحاسمة. النار، كما يرى باشلار، إذن، ظاهرة متميزة تستطيع تفسير كلّ شيء. وإذا كان كلّ شيء يتغير ببطء يعني الحياة، فإنّ كل شيء يتغير بسرعة يعني النار، فهي فوق حية. حميمية وكونية. إنها تعيش في قلوبنا، تعيش في السماء. تصعد من أعماق المادة وتمنح نفسها كعاشقة. إنها تنزل من جديد في المادة وتختفي. خفية ومحتواة كالكراهية، كالثار. وهي الوحيدة من بين كلّ الظواهر، التي تستطيع أن تتلقى بوضوح التقيمين المتناقضين : الخير والشر " هي إذن، أحد المبادئ لتفسير الكون" وكما بدا لنا، فالنار عند هذا الفيلسوف هي موضوعٌ للمعرفة الموضوعية. (1)
دريدا الذي رأي في الشعر حليفاً جمالياً موضوعياً، للمصادقة على مقترحاته ومحايثتها في الحليف؛ إنما يدعوننا إلى الوقوف على إرادة النجاح الفكري والحضور من خلال هذا الشكل الجمالي الأرضي، وقد فعل ذلك بالنسبة للفلسفة والنثر ونصوص الأرض. ومن ذلك نفهم أهمية الشعر كأرضٍ لإقامة الفكرِ والسياسات، بصفته الأرض أحد المنطلقات التي يكمن فيها الفكر، ويشبّ عليها. وهذا إنما يقرّبنا أكثر من تعامل هايدغر مع القصيدة بصفتها اللغة - الأرض الثرية بالفكر، وإمكانياتِ التأويل، وهنا إشارة إلى ما كتبه هايدغر عن شعر هولدرين.
لكن، إذا كنا سنديد الشعر بشيء، فإننا ندينه لكونه هو القادر، دائماً، على إنتاج الميتافيزيقا والمتواطئ الكلي الرغبة معها. فإذا قلنا اللغة الشعرية، فإننا، في الحال، نشير إلى مساعي القرابة بين الكائن البشريّ والكائن الميتافيزيقي {الله} حيثُ يتوسّط الشعر بين الشاعر المعروف والمدان بالنقصان، وبين {الله} الغائب الحاضر المتعالي المتجوهر في الوسيط. ولعله ليس هنالك من رمزٍ أكثر ميتافيزيقية من "التفاحة"؛ هذه العلامة الميتافيزيقية، والأخلاقية، والجمالية. هذه العلامة الشكلية، والحسية، واللاهوتية، والفردية، والإناسية. إنها ذلك الوسيط المشترك "العقلحسي " بين الجمال والقبح، بين الرضا والندم، بين الشكل والمضمون، بين الوعي والحس، بين الحقيقة، والمجاز، بين المثال والتمثل، بين العلة المعلول. وإذا كانت النار عند باشلار هي موضوع للمعرفة الموضوعية، فإنّ "التفاحة" هي المثالية الموضوعية والموضوعية المثالية معاً ! هي الميتافيزيقا اللطيفة والجبارة معاً.
قصاصة مجهولة، في يدي :
الآن، في يدي، قصاصةٌ مجهولة، فيها : " كنتُ أحلم أني أوزّع الوهم على الحضور " ! إن هذه القصاصة المجهولة كشيء موجودٍ شُطِبَ بإرادة قولي، إي : إنّ وجودها الخارجي اختزل في وعيي وشعوري كحضور. فالذي يعنيني يدعونني إلى اختزال وجود "كنت أحلم أني أوزّع الوهم على الحضور" في حاضرٍ يُحقّقني كذاتٍ حاضرة، يَخصّها المعنى ويَجْرَحُها ! إنّ هذا الاختزال شطبٌ واحتلال لذكرى ذات حاضرة في ماضيها. إنّ القصاصةَ المجهولة هي أثرٌ لذاتٍ غائبة، نثبتها باختزالها في حاضر الأنا. ونمحوها حين نرى حياتنا فيها، وحين نُسمّي الغيابَ موتَ الآخر. الآخر لا يموتُ، إنه فينا. الآخرُ ليس أنا تملكُ الحقيقةَ، لتشكّك في الأشياء والآخرين ! الآخر حضور لا يموت. الغيابُ، بما هو كِتابةٌ، هو اعترافٌ بالآخر، بالأشياء والكتابة والآخرين.
إنّ قصاصة مجهولة في يدي، تنتمي وجوداً وكتابةً للماضي الراحل، وقد جيءَ بها - الآنَ - من الذاكرة، الحافظة الميتافيزيقية. إنّ ظُهورَ الحلُم والوهم والحضور في قصاصة مجهولة، بالإضافة إلى ظهورها، المُصادِفِ، هي الخارج، هي الأشياء واللغة والآخر. هي الغياب الذي يشغلُ القارئ، أنا الآن ! ولعلّ ما سيشكّل إزاحةً صارمةً للتفكيك أن أقرأ الآن هذا التوجه لأستاذ فلسفة آخرَ يُمجّد حياة الأنا وميتافيزيقا الحضور خلال تصديره كتاباً حول تاريخ الفلسفة اليونانية، مُؤكداً " إن الفلسفة اليونانية لم يتقادم عليها العهد حتى الآن، وإنّ ثرواتها القيمة لا تنبه من وجهة نظر المؤرّخ أو المهتم القديم فحسب. إننا نتناول هنا أشياء حيّة لا مجرّد أشياء ميتة، إننا لا نتناول العظام والحفريات الجافة لعصرٍ ولّى، ولقد حاولت أن أحاضر وأكتب للأحياء لا لمجرّد أناس أثريّيّن..(2) فالذاكرة كأصلٍ وكحافظة للجوهر هِيَ لأنا تَتَجاوزُ وتبادرُ. والذاكرةَ كَمرجعٍ نقلي خامّ، هي لأنا لا تذهبُ، لأنا ثابتة نرجسية متمركِزة في وهمها. إن الذاكرة والمبادرة، بما هما فكر يُغَرْبل ويُجدّد ذاته، غبْطتانِ، الأولى تَحْمِلُ الماضي، والثانية تَحدسُ المستقبل ! أما الذاكرةُ كَمرجع نقلي خامّ، فمحفوظةٌ في الغياب، تحت سطح الحضور. إنّ هذا سَيُبَرِّرُ إدانتي لذخيرة وجوهر الوعي الذي يترك حضورَه في الماضي ويحاضِرُ ويكتب لأناسٍ أثريين!
وعن ذلك الإصرار الفينومنيولوجي على نفي وجود الآخر، يمكن مجابهته أو معالجته بمنظور مثالي آخر، وذلك بجعل الديالكتيك أكثر فعاليةً بين الأنا والآخر، بين الذات والموضوع؛ أكثر تجاوزاً، ومماهاةً. فهنا يتبدى العلاج والتفوّق والترياق المثالي من خلال استبدال "الاختزال" بـ "التماهي". تماهي الأنا والآخر. الآخر كذات، كماضي. والأنا كذات، كحاضر. إن هذا التماهي وهذا الاعتراف يتصدّى لإرادة القول، ويمكر للأنا الهوسرلية. لكننا نرى إلى ناتج الديالكتيك السعيد والفاجع، في الوقت ذاته، بصفته الصورة الرجعية التي تقرّر التعايش والمصالحة والتساوق بين الماضي والحاضر، بل التماثل والتجانس في أفجع الصور والنتائج. وهذه الصورة الرجعية تتبدى بوصفها بديلة عن صورة الخلاص (المستقبل). الرجعية هي المفردة التي يَمتلك وجودها وصفاتها الواقع وتنطبق عليه، أي هي ذلك الدال الذي يملأ مدلولاً بالمعنى، بالحضور. والخلاص هو المفردة التي يمتلكها الوعي، العالم الذهني، ويفتقدها في العالم الخارجي. حيث الخلاص هو هذا الوعي الذي ليس له خارجاً.
إنّ " المماهاة "، " الخلاص " و وحتى " الديالكتيك " ذاته ما هي إلا الصور المثالية المرجوة والفعالة في العالم الداخليّ؛ الفعالة - في غياب المعنى - لأجل حضوره. وذلك بتفعيل ذهنية التجاوز، تثبيتاً للإحراز المثالي. إما القصاصة، الكتابة وعقول وآثار الآخرين؛ هي أشياء العالم الخارجي. إن التماهي والخلاص كوعي وغاية سابقان على الأشياء، كموضوع، كظهور. غير أنهما لا يتحققان كمعنى، كحضور. إلا بعبور هذا العالم الخارجي، والظهور فيه. ومن هنا تفكيكية نيتشه لميتافيزيقا المماهاة، بجعل الذات تتجاوز موضوعها وتتعالي على الموضوع ( الحقيقة، كحضور) وتفكيكه، كذلك، لميتافيزيقا الخلاص بمزيد من الاستعارات والكنايات الضاجة، الغياب بالأحرى.
من هذا الأساس تنطلق النظرة التفكيكية الفعالة لدريدا؛ موضحة أن الانقلاب التفكيكي الساذج، والذي نتج، في التو، عنه توليدٌ لصورة الرجعية على الأرض، والإطاحة بمثال الخلاص، هذا الانقلاب التفكيكي النسقي الساذج، لا ينظر إليه دريدا نظرة ترحيب، وإن كان يومئ مرحباً بحضور كلمة " الانقلاب "، وحسب، لا بشكله. كما أنه يرفض حالة التماهي، كوصفٍ للعلاقة بين القارئ والنصّ، ذلك لأن السعي لهذه العلاقة، في حد ذاته، يعني الاختزال ذاته. يعنى ملء الفضاء بـ"أنا" لديها المعنى. إن التفكيك ينظر نظرة فعالة رافضة مقوضة تماماً، ودائما للنسق والسذاجة. وبالتالي فهو يرى إلى توليدات الفكر الميتافيزيقي رؤية ازدراء وتفكيك جذري - بإرادة القوة - لكلّ الحضور الوضعي والميتافيزيقي.
نعود إلى قصاصة مجهولة في يدي، لا بصفتها أصلاً أو مرجعاً مثبتاً، إنما بصفتها أثراً، غياباً. وبصفتها علامة إستراتيجية للتأويل الذاتوي والموضوعي. إنها، صورة شعرية للحدّ المائع والوهمي بين الذات والموضوع. وإنها تقولُ الأنا السيكولوجية والذاتية والموضوعية والتاريخية، كل ذلك، معاً. بصفةِ هذه الصورة الحيّة واقعاً سعته الحاضر. إنّ خطاب قصاصة مجهولة في يدي كحضورٍ، هو خطاب العراّفة التي تقرأني، وتحجب المستقبل. هذه القصاصة تظهر لوعيي بما هي خطاب الذات والموضوع، الذي يجرحني. فهنا يَظهرُ الحلُم يُجَسِّدُ الوهمَ، والحالمُ يستعمل الجسد. إنّ الحلمَ إرادة الحالم، وتوزيع الوهم هو الموضوع. حركة الذات حين تتجاوز الموضوع. الحلُمُ كحاجةً (كفراغ) و كإشباع (ملء) فراغ. والوهم بصفته مادّة التجاوز (الأعطية) المُوزّعة، بإرادة الذات الإستعارية الحالمة، على الحضور المحلوم. وماذا ستفعل الذات أمام الموضوع عندما ستدّعي امتلاكها إرادة غياب وتفكيك هذا الحلم بوصفه هذا الواقع الطيفي والمثالي الشعري الإيجابي الذي يُظهر - الآن - عدالة التوزيع، ويحجبها و يخفيها بالوهم، إلى جانب تجلي البنية المثالية العطوفة والمفرطة في التفاعل الحميمي المتبادل بين الأنا والآخر ؟؟!!
1+1=3-1. أنا أحسب، أنا أعادلُ، أنا أعدّ. نعم أنا -الآن- أعدّ، ذلك لأنّ ظهور ناتج المعادلة الحسابية [ 2 ] في فكري، وظهور الأرقام المستخدمة بشكل موضوعي وخارجي [ 1+1 = 3-1 ]؛ ظهرا لي كعالم واحد، ككتلٍة خام وصارمة. وأنني -الآن- أتجاوزها بالتخفف والتحسين، بالعدّ والتسلسل : [ 1، 2، 3.. ]. لكنني أريد أن أكشف عن أن ثمة حالة حدس نتجت من نبره عدي؛ فوراء هذه المداعبة وُلدت فكرةُ أن أهتمّ بالعد والغناء لتحقيق ذاتي لمفكّر عصري. كان بوسعي أن أبدّل الفعل الخبري، فأقول : أنا أغني. لكنني أفكّر في هذا الحد المائع والوهمي، لكن الفكري والجمالي في القوت ذاته، بين : أنا أعدّ، أنا أغني. إنّ العدّ من أعمال العقل، والغناء من أعمال العاطفة. إضافةً إلى أنّ العدّ جاف، والعدد حاسم وصارم وميتافيزيقي. وأما الغناء فإنه رطب شعوري، والإيقاع أو الموسيقي ترويحية وترفيهية. وفي حالة كحالتنا، فإنّ من الأهمية بمكان، التفكّر بعمق في حدسية موضوعية الربط بين العدّ والغناء. بالإضافة إلى التفكر بالعمق ذاته في حدسية وموضوعية المعادلة [ 1+1=3-1] التي فيما أنا أختزلها الآن في : أنا أحسب، أختزلها في : أنا أعادل. لقد بدا لي شرط ظهور الأنا بأفعالها الخبرية الأربعة : ( أحسب، أعادل، أعد، أغني ) بصفته المداعبة، والتي هي الأخيرة مشروطة، بشكل لا واعٍ وغامض محايث، بمبدأ ضرورة التجاوز. دون أن يكون ثمة إخلال بسلامة منطق الناتج والميزان. إنها مداعبة فكرية فردية تكمن وراءها ذاتيه التجاوز. تجاوز الثابت والصارم و النمطي، بالبساطة والتسلسل والمنطقي، لكن الفردي المغاير في الوقت ذاته. إن هذه العملية الحسابية والمفروض أنها تمت بالشكل والعادة هي تؤول لتصبح معادلة من طرفين يتصفان بحقيقة التساوي الثابتة والمنطقية. حيث يختزل كل طرف في المعادلة إلى الناتج [ 2 ]. مع الانتباه إلى تناقض الإشارات الحسابية الفعالة في المعادلة، ولكن المؤدية إلى الناتج، في الوقت ذاته. إن الناتج [2] هو ثنائي متوحد متصالح بشكل منطقي وراسخ. وإن العملية الحسابية التى آلت إلى معادلة، هي قي حقيقة الأمر، تعبّر بإرادة فردية، فيما هي كذلك، عن ترك النسق والمنهج، وتبنّي المذهب الفردي في البحث عن الحقيقة، ليس داخل الرياضيات، كما رأينا في التو، ولكن لنأخذ ما سبق كقياسٍ، لحصوله وتجلياته داخل العلامة، اللغة. داخل النصّ، في الخطاب، بالأحرى.
حصاة عارية، في يدي
الآن، في ذاكرتي، وفي مخيلتي، وفي تكرار الاستحضار؛ منظرُ أو حادثة أو قضية : " رَمْي حصاة في بركة ". هذه العلامة، سوف تنتج أكثر من غاية ودلالة. فحين يرمي طفلٌ حَصاةً في بركة، يكون وجيهاً أن أدركَ معنى فعلِه في سياق يجعل الحدثَ وثيقَ الصِّلةِ بالشكلانية؛ إذ الطفل - الآن - يتمتّع بالنظر في شكلِ الدوائر التي أحدثتها الحَصاةُ في سطح بركةٍ هادئ وهادئة. وفي السياقِ الاجتماعي، نحن يتوجّب علينا أن نفرّقَ بين المدلول الذي لا يتجاوز الشكل الجمالي، وبين المدلول الاجتماعي للجملة؛ التي تَطلبُ - الآن - الغايةَ بطريق ملء الدلالة بالنزعة الراديكالية، والتي بالإمكان أنْ تُحدثَ الكثيرَ من الدوائر في أوساط السياق الاجتماعي. وللعلامة، أيضاً، إمكانيةُ أنْ تُسَدِّدَ الرسالةَ في مدلولٍ سيكولوجي، يَلمسُه قارئ الزَعْزَعة النفسية، أو ينكشفُ بهِ المتزعزعُ نفسه؛ حيث هو - الآن - مليء بالحيرة والاضطرابات، منظورةً في تتالي الدوائر في سطح البركة وعمق النفس في آن؛ ذلك أنّ هذه الظواهرَ والتمثيلياتِ الخارجيةَ ما هي إلا المترجمةُ لِلَحظةِ الداخل.
لقد أتاحَ لنا التأملُ، في المَنْظَر أو الحادثة أو القضيةِ، التعليقَ متعدّداً في أوعيةٍ وأوجهٍ ودواليل ومداليل، هِي هُويّات لسياقاتٍ مختلفة. وقد رأينا، في التو، تَحْرِيكَ وتَحَرُّكاتِ المضامين. لكنْ، وهنا، سنحتاجُ أن نفرّقَ بين "تحريك" و"تحرّكات". إنّه في حال " تحريك المضامين " تَحثّنا ضرورةٌ ميتافيزيقية أصيلة لأنْ نَثْبتَ على حقيقة - أي أن نعي - أنّ ثمةَ مُحَرّكاً فاعلاً و قارئاً يُحرّكُ المضامين؛ مُحرِّكاً يحرّك ولا يتحرّك. إنه يُحرِّكُ إما بِمُوجِبِ مَلَكَةٍ ذاتية، وإما بِمُوجِبِ مَصلحةٍ موضوعية. أما في حال "تحرّكاتِ المضامين"، فسوف يكون لنا أن نُبَرِّرَ حَيرتَنا إزاء غيابِ وتخفي المُحرّك في مقابل ظهور وحضور المُتَحَرّكات( المناظر، الحوادث، القضايا). في الحالة الأولى، نحن في داخلنا، في الوعي المتّجة للخارج(للمتحرّكات). وفي الحالة الثانية، نحن مُعَرّضون للخارج، بما لا يقلّل أو يشكّك في خطورة ذلك.
وفي الحقيقة، إننى لم أكن أعلم بأنّ لـ هيليس ميلر هذه الاستعانةَ بمنظر أو بحادثةِ أو بقضية الحَصاة - البركة، إلا بعد كتابتي الجزء السابق من المقالة. فهذا الناقد الأمريكي و. ت. ويمزات، ينقل في مقالته [ طَرْقُ الموضوع : المدخل الأنطولوجي ]، عن ميلر، قولَه : " إنّ علاقات القصيدة بما يحيطُ بها تَشعّ إلى الخارج كدوائرَ مُتّحدةِ المركز، وَلّدها حَجَرٌ ألقي في الماء.. وتتكاثر هذه الدوائر إلى غير حدّ، إلى أن يتعيّن على الدارس أن يتخلّى، قانطاً، عن مُحاولة القيام بجردٍ كاملٍ لها.. وإذ يتقدّمُ في بحثه الذي لا يعرف نهاية، تذوبُ القصيدة.. تدريجياً في كثرة تداعياتها، بدلاً من أنْ تكون وحدةً مُكتفيةً بذاتها، لا تعدو أنْ تكونَ عَرَضَاً مِن أعراض الأفكار أو الصُّور الرائجة في الثقافة التي ولدتها"(3)
المقدّس والمدنّس:
هذا أولاً.. ودائماً، ما جعل الشعر يقف ضِدّ المنطق، إذ أوصى بزحزحة اللغة عن ثباتها وحضورها، بعد أن ترسّختْ، على مرّ الزمن، وأصبحت مُؤَسّسَةً على العقل والإدراكات المباشرة؛ وقد تجاوزتْ وغيّبتْ حقيقةَ نشأتها الأولى، والتي تأسّست، في البدء، على الاعتباطية. من هنا، كان للشعر أن يُذكّرَ، دائماً، اللغةَ، بأصلِها، فيما يُزحزحها، وينزع عنها القداسة والحضور؛ مُفرغها من أيقونة المعنى في معمعة الإحساسات والغموض و التأويل؛ وهِيَ الصفاتُ التي تحلّى بها الشعرُ، حتى غدا حاضراً بها. في الوقت الذي تنكّرَتِ اللغةُ لهذا الحُضور، وتقدّستْ وتزيّنَتْ بالعقل والمنطق وتقاليد الخطاب المؤدي للمعنى الأصيل في الوعي والعلامة.
من هنا الافتراق، والحديث عن مُقدّسين متقابلين : مقدس اللغة، ومقدس الشعر. وهناك إمكانيةٌ واحدة تُمكّنُ هذين المقدسين من التوحّد فيها؛ هذه الإمكانية تتأبّدُ في نظرة أفلاطون للشعر؛ حيثُ قَبِلَهُ، بشرط أنْ يكون أداةً تعليميةً وتربويةً. وقد نادى بطرده من خلاف ذلك، ذلك لأنه مُدنّس. وربما لهذا السبب عُدَّ الشعرُ من الشيطان المُوْقِع في الغواية والهوى وضياع الهدى؛ فكلّ ما يُوسّع الفجوة (المكان والزمان) بين البنية وبين الغائية؛ إنما هو في وعاء وهُوية وتصنيف الشرّاني الباعث على الشقاء والغبن والتبدد والضلال. في حين أنّ الشعرَ وهُو يَمنحُ الفضاءَ للذات، يفسح لها، في اللحظات الطاهرة الملهمة، ويَهبُها إمكانيةَ التأمل وتشوّف الكينونة وتمتين كلياتِ القرابة والتوحد بين الذات والطبيعة، و تدعم هذا التصوّر انطولوجيا هايدغر. وبين الذات والمقدس الغيبي، حيث الهناءة الصوفية. وقد نظرت أقوام إلى الشاعر بوصفه مباركاً من الكائن المقدس، فمنحه الرومان لقب " الفاتيس " Vates، وهي الكلمة التي تدلّ على الشاعر الذي باركته الآلهة بوحيها فأصبح العراف والنبيّ ومنشد الشعب ". لكن هذا لن يشفع لمقدّس الشعر الذي يَجِدُ حياتَه في التأويل والمجاز(الغياب)؛ لن يشفع له أمام مُقدّس اللغة الذي يجدُ سلطته في النصّ المقدس (الحضور). لذلك سيجد الشاعرُ نفسَه مصنّفةً، شرّ تصنيفٍ، و - بالتالي- مُحرَجَةً ومُوبَّخَةً ومنكّلاً بها أمام رجل الدين و رقيب الكتاب؛ وهما يرصدان مناظرَ وحَوادثَ وقضايا عباراتٍ، مُقدّسةٍ أو مُدنّسة أو راديكالية، لها حديثٌ الغيب والجنس، والسياسة.
إنّ الكلمات الأخيرة السابقة ترينا نماذج تقليدية وفجّة لسلطة الحضور، في حين أنّ ثمة نماذج وفيرة تتخفّى بها، تتسوّلها أو تتوسّلها سلطةُ الغِيابِ المُنْدَسّة أو المُحتجبة داخل خطاب وممارسات واقع اللغة. تعالوا نقدّم برهاناً على ذلك.
يختبئ وراء الصمت
إذا ما أردنا ملء الفراغ في جملتنا هذه، بحضورٍ أكثر تناقضاً واختزالاً؛ فإننا سوف نضع عنوان فقرتنا السابق (المقدّس والمدنّس) كإجابة مقتصدة، لكنها غير شافية. لكن، لنبقي على الفراغ فارغاً. ولنَرى، منذ الآن، إلى هذهِ الجملةِ في حدّ ذاتها، بصفها غائبةً، مقطوعةً، بلا سياقٍ معلوم. إنها تمثّلُ إنجازاً قابلاً للتواطؤ مع سياقاتٍ مُختلفة، أو هِيَ قَرارٌ مفتوحٌ على تثبيت هُويتها في سِياقٍ مُخمّنٍ ومُقترح؛ وخلْعُها - حال نفادِ المصلحةِ - بإرادةِ القوة، وبمُرونةِ التجريب؛ لتصبحَ إمكانيةً لِلمِلء. الملءُ، هنا، بمعنى كشفِ وتعريفِ وتثبيت المفهوم. الأخيران - التعريف والتثبيت - يَمْلآنِ التَرادُفَ، حيثُ هُما - الآنَ - ثنائيةٌ متصالحةٌ تَملأُ الوعاء - الهُويةَ. والتواطؤُ والاقتراحُ والتخمينُ، هنا، في طريق تَوَسُّلِ الهُوية (الفاعل) للإقامةِ والظهورِ فوق الغياب. وإنه لمن الأمانةِ والتحذير أنْ نُصرّحَ بأنها إقامةٌ مُهدّدة؛ سينسفها الغيابُ الذي يَصمتُ، الذي يكمنُ - الآن - تحتَ الحضور، بصفتهِ أساساً وبنيةً تحتية. وحال الإرادة، فإنهُ يُخلخلُ البنيةَ الفوقية.
إنّ - في الجملة الفعلية، المُعيّنة - الحضورَ هو الفراغ. أيضا الغيابُ هُوَ الفراغُ، يَحجبُ حضورَ الكائنَ؛ يحجبه بلا جسدية الضميرِ الوعاءِ الفارغِ : (هو). حيث سيتمثّلُ ملءُ الحضور لذاته في فواعل مُتواطئة ومُقترحة ومُخمّنة، مِثال ذلك : ( يختبئ lt; الجبانُ / الشجاع / الضعيفُ / الحكيمُ / السياسيُّ / المتلقي / المُهرّجُ / المَيتُ / المُذنبُ / المُفكّرُ / التاجرُ / الساحرُ / المجنونُ / الشاعرُ / النبيّ... gt; وراء الصمت ). إن ما سبق يَظهرُ كله في قبول الإمكانيةِ، كإرادةِ مُؤوّلة للكائن المتخفّي. وتتعدّدُ الهُوياتُ، أي التصنيفات والصفات (الحُضُورات) ضِمنَ غرائز وأخلاقيات وقيم وجمالياتِ الصمتِ في الخطاب التجريبي لـ : الطِباعِ، العمل، المعاملاتِ، الهبةِ، الخسارة، المنح، التخطيط، المنفعة، الضمير، التأمل، والفنّ... وهكذا، فإنّ القبول والترحيب والإيواء، هِي الصفاتُ البارزة لمدح فجوة الغياب، في الجملةِ المقطوعة، التي بلا سياق؛ والتي حَضَرَتْ - الآن - من طريق امتلاء الفجوة بمقترحات وتخمينات الحضور، العابر إلى أكثرِ مِن مَحفلٍ للقيمة والنقد والتقويم، أي للكشف والامتداح أو المعالجة : نفسي، إنساني، اجتماعي، معيشي، فني، كينوني... وهو ما سيذكّر بمقولة هايدغر أن " كينونة الإنسان مُؤسّسة على اللغة ".. و أنه " حيث تكون لغةٌ يكون عالم؛ ذلك العالم المتغير أبداً. عالم القرارات والمشروعات والعمل والمسؤولية، وعالم العسف والصخب والعطب والضلال أيضاً "(4). ولا شكّ، من جانبٍ مُفارقٍ ومُتساوق في آن، في إمكانيةِ أن تختبئ الحُضوراتُ الفاعلةُ وراء الصراخ؛ ففي هذه الحادثة إفتضاحُ أو ستر الهُويةِ (الفاعل) لما في الوعاء من جواهر ونوايا ودوافع في متناول الملاحظة والقراءة والممارسة. هذا الثالوث الأخير هو المُعيِّنُ للمواقف، وهو الداعي والساعي لتأمين الغطاء أو الحماية أو الخلاص؛ بغية حَجْبِ أو كشفِ (وفقَ مقاصد الضمير والمصلحة) العللِ الضالعة في الاختباء وراء حجاب الصمت أو الصراخ.
إنّ حضورَ السياق سوف لن يطيلَ الإقامةَ والتَحَصَّنَ وراء الميتافيزيقا، ذلك لأننا سنعاني غيابَ الهيئة والنبرة، أي عدمَ نضوج " العبارة "، بالمعنى الهوسرلي الأصيل. هذا إذا علمنا، أيضاً، بإمكانية أن يكون الـ " وراء " - وهو الذي اعتبرناه حِصْنَ الحُضور - أن يكونَ فضاءً يُفكّكُ الحِصْنَ والمُتَحَصِّنَ معاً؛ فضاءً حرّا.. وكفى، وهكذا.. مِنَ تثبيت السياق والسياج، وحتى من المجرّاتِ، عائلاتِ الدليل ! فضاءً أي " فسحة " بالمفهوم الديريدي؛ من شأنها أن تمتلئ بإرادات الاختلاف واللبس وأقنعة التشتيت والتأويل؛ من أجل عيشِ الغياب. فهذا الامتلاء إنْ هُوَ إلا إرادة القوة ( الغياب ) تُؤسّسُ مِزاجَها واختلافها ومكيداتها، بوصفِ الأشكالِ المُؤسَِّّـسةِ (معاً) سلطةً؛ تقطعُ الطريقَ على الدليل - اليقين، وتفتحُ الفجوةَ مَسْرَحاً عبثياً لرقصاتِ للامعقول واللامرئيّ والمُبهم والمُضمر والشبحي والمُنْدَسّ. في حين أنّ الوعيَ لدينا إرادةٌ، وهِيَ تمتلئ - الآن - بضعفها أمامَ سلطةِ المسرح والتأويل؛ حيث لا من وَعْيٍ مُنقذِ للحقيقة المُهانة في نصوص - خطابات : السخرية، الفَنْدَقة، الأسهم والعملات، المُعارضة، المُجاملة، أخلاقيات الودِّ متوّج المصلحةَ التجارية، الحرب على الإرهاب، وغلاء المعيشة، و رَكْلات اللسان..!
إشارات:
(1) "عقدة برميثيوس"، الفصل الأول من كتاب : " فلسفة النار" لباشلار، ترجمة : محمد صوف. الكرمل، عدد 30/1988، ص193.
(2) تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ترجمة : مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت1987، ص7.
(3) انظرْ : ص342، مختارات من النقد لأنجلو أمريكي الحديث، تأليف طائفة من النقاد، ترجمة : ماهر شفيق فريد، المشروع القومي للترجمة، مصر 2000.
(4) يُصادفنا أكثرُ من مرجع يحيلُ إلى ترجمة عثمان أمين لمحاضرة هايدغر : "هولدرين وماهية الشعر ".