الفلسفة والفكر إشكال مفاهيمي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كانت الفلسفة في العالم العربي أول العلوم تدهورا في العصور الوسطي، كما كانت آخر ما تم الانتباه له في العصر الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين، فرغم أن المدرسة الإصلاحية - بريادة الأفغاني وعبده - اعتبرت الفلسفة إحدى دعائم تصورها للذات ودعوة الإحياء وانتصارها لها في مواجهة الآخر المتغلب إلا أن الاهتمام بالمجالات الفلسفية المختلفة لم ينشط إلا بعد إنشاء الجامعة المصرية واستقدام عدد كبير من المستشرقين للتدريس بها وبدأ الصوت العربي الإسلامي في التبلور مع جهود صاحب التمهيد الشيخ مصطفي عبد الرازق ومدرسته في الفلسفة الإسلامية، حيث نشطت الدراسات الفلسفية - ترجمة وتحقيقا وتأليفا - منذ بداية العقد الثالث من القرن العشرين، وقبل ذلك كانت مقتطفات وترجمات تعريفية وهو ما رصده أحد الباحثين في سيميائية ودلالة عنوان إحدي أوائل المجلات كـ"المقتطف" حيث كان النقل يمثل قطفا غير منتظم ومبعثر في الغالب(1) وكانت أسبق الرؤى الفلسفية للتبني هي الفلسفة الليبرالية تأثرا بأسبقية البعثات لفرنسا والتأثر بثورتها ثم كانت الفلسفة الماركسية تأثرا بالثورة البلشفية التي كانت مثلت زخما جاذبا للتعرف عليها، ثم سائر المدارس الفلسفية الغربية. ورغم تأخر التعاطي العربي الرصين مع تيارات الفلسفة الغربية، حتى الثلاثينيات بشكل كبير إلا أنها تجاوبت سريعا مع مقولاتها نقدا وتبنيا وتعريفا وهو ما كان له أثره في استنفار منظورات الهوية والأصالة في وجه هذه الموجات المعاصرة الحديثة والتي تحمل اتجاهات نقدية ونقضية لكثير من معهودات الفكر العربي الإسلامي على مدار ثلاثة عشر قرنا مضت، في السياسة والاجتماع ومختلف مناحي الحياة ورؤية العالم، فضلا عن كون هذه المجابهة كانت واقعا سياسيا وفكريا في وجه الاستعمار والنزوع الإمبريالي الغربي، مما وفر مناخا مواتيا لبروزها "استنفارا لتصور الهوية على الأقل وتصور المرجعية ثانيا".
الفلسفة والفكر فض الإشكال المفاهيمي:
كثيرا ما يختلط مفهوما الفلسفة والفكر، ليس فقط لمجانية إطلاق المفاهيم في الواقع العربي المعاصر، ولكن كذلك لتداخل شديد بين مجاليهما في الفكر العالمي عموما، ولكن هذا التداخل ليس دقيقا فلكل من المفهومين دائرة مخصوصة، فدائرة الفلسفة تنتمي للتفكير النظري المحض غير المقيد ويكون أكثر قربا من المسائل الكلية أما الفكر فينتمي لدائرة التأسيس النظري التفسيري أو التغييري لواقع متعين سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، وبينما تنزع الفلسفة نحو العالمية والشمول قد يركز الفكر على دوائر جيوثقافية محددة ولكن أهم الفروق - برأينا - هو أن الفيلسوف يبني بناء نظريا مستقلا أو يطور بناء قائما تطويرا جوهريا ومفصليا في تاريخ أفكاره فيكون من أصحاب المقولات الفلسفية أو النماذج التفسيرية الخاصة أما المفكر فلا يبني بناء مستقلا ولكن على أساسات سابقة وغالبا ما ينشئ رؤى وآراء وليست مقولات فلسفية جوهرية ومفصلية، وهو ما يلخصه الجدول التالي يوضح الفروق بين المفهومين من وجهة نظرنا:
مسلسلالفلسفةالفكر
1- ناء نظري عقلي تأسيس نظري واقعي
2-رؤية كلية رؤية كلية أو تفصيلية
3-متعالية أو مفارقة في الغالبمحايثة أو موضوعية
4-إنسانية وعالمية قومية أو وطنية تنتمي لدوائر الهوية غالبا
5-لها مقولات فلسفية خاصة ونماذجتفسيرية غير مباشرة يستفيد من المقولات الفلسفية ويوظفها في تفسير الواقع وتغييره في آن واحد.
6المجال نظري وعقلي محض المجال لا ينفصل عن الواقع غالبا
7اللغة مكثفة ومفارقة اللغة تفصيلية محايثة
وهذا التفريق قد يضع حدا مهما في تناولنا للمجالين ويفض اشتباكا بين جيلين ومدرستين في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، فبينما عرفها عبد الرحمن بدوي على أنها "التفكير العقلي الخالص الذي لا يعترف بملكة أخرى للتفلسف غير العقل النظري المحض"(2) والذي يلح على كون شرط إنتاجه هو إثبات الذاتية وعدم إنكارها أو ذوبانها في كل شامل فيقول " لقيامها على التفكير الحر والعقل الخالص(3) بينما يلح الدكتور حسن حنفي صاحب مشروع التراث والتجديد على دور الفلسفة في الواقع ليس فقط تفسيرا ولكن تغييرا بشكل أساس ويعتبر هذه المشاريع الفكرية التفسيرية التغييرية هي التجلي الفلسفي الحقيقي في فضائنا الفكري العربي رابطا بينه وبين مشروع النهضة العربية الذي بدأ منذ مائتي عام والذي يحدد له ثلاثة جذور: "أولها في الماضي البعيد وهو التراث القديم، النهر الجوفي الذي يمد الفكر العربي المعاصر بالثقافة الشعبية التي يرتكن إليها، ويتعامل مع الجماهير العربية من خلالها. والثاني: جذر في الماضي القريب وهو التراث الغربي منذ اتصالنا بالغرب الحديث منذ أربعة أجيال على الأقل."(4) "وهو يرى أن الدور التغييري والتثويري هو الدور الأهم الذي ينبغي ألا يتقلص لصالح التعريفي وهو ما رآه حدث عند عبد الرحمن بدوي بشكل كبيرالذي تقلص مشروعه الفلسفي لصالح المشروع التاريخي(5) وهو ما يلتقي بشكل كبير مع تصور مفكر آخر للفكر من أنه " مسعى تفسيري إدراكي عام، يقوم بتنظيم وإعادة تشكيل مجموع الحالات التي تتكون منها وبها الأشياء والأحداث والوقائع وأشكال السلوك والممارسات والتعابير المختلفة. فهذا التشكيل والتنظيم يضيؤها ويضفي عليها معنى أو دلالة كلية... فهو الوعي المنتظم المتسق الموضوعي الكلي الذي تتسق به خطواتنا وممارستنا الفكرية والعملية والتقييمية"(6) وإن كان تصور محمود العالم السابق يتسم بالاتساع ليشمل الممارسة وهو ما قد يصطدم بمفاهيم أخرى كالخطاب وكذلك مفهوم الثقافة بشكل كبير. بينما يظل حسن حنفي واضعا أمام عينيه مشروعه ومشاريع شبيهة كنموذج للتجلي الفلسفي العربي المعاصر، والتي نشأت عقب هزيمة يونيو 1967 مثل التراث والتجديد له و"نقد العقل العربي"(7) و"التراث والثورة"(8)
ونقصد هنا بالمجال الفلسفي العربي الجهود المتنوعة والمتعددة للباحثين والمفكرين العرب في ميدان الفلسفة والتي يصنفها الدكتور جميل صليبا في ثلاثة مواقف رئيسية هي:
الأول موقفهم إزاء الفلسفة القديمة، ويبرز لنا هذا الموقف في ثلاثة مظاهر هي: أ - تحقيق النصوص الفلسفية ونشرها ب - وضع الدراسات الفلسفية باللغة العربية واللغات الأجنبية للتعريف بالفلاسفة القدماء ج - ترجمة بعض النصوص الفلسفية القديمة إلى اللغات الأجنبية. والثاني: موقفهم إزاء الفلسفة الحديثة ويبرز هذا الموقف في مظهرين هامين هما: 1- ترجمة بعض الكتب الفلسفية من اللغات الأجنبية إلى اللغات العربية 2- وضع الدراسات الفلسفية للتعريف بالفلاسفة الأوروبيين ومذاهبهم.
والثالث: تأليف الكتب الفلسفية الأصيلة في الموضوعات المختلفة كالدراسات النظرية التي نشرها بعض المحدثين باللغات العربية أو الأجنبية.(9) والتحولات في المجال الفلسفي أقل وطأة ووضوحا منها في المجال الفكري والأيدولوجي بشكل كبير، لما سبق أن وضحناه من استقلالية البناء الفلسفي واستقلاله، وما يتسم به من ذاتية وفردية وحرية، مما يعطي مساحات مستمرة للتطوير، فضلا عن اتساع مجاله في الدراسات العربية الحديثة وشرعية كل منها، مما يجعل البعض من الباحثين بها قادرين على تطوير مواقفهم وتنويعها، ما بين تأليف وتحقيق ونشر وترجمة، فضلا عن كونها نخبوية في الطرح مما يجعل احتمالات صدامها المباشر مع الواقع والثقافة السائدة أقل منه في المجال الفكري والأيدولوجي، لاتسامها بالتعالي على الواقع وإن لامسته وكذلك بنزوعها الإنساني والعالمي في الغالب، رغم أن كثيرا من الباحثين والمؤلفين في المجال الفلسفي العربي، خاصة منذ آواخر الستينيات، كثيرا ما يلامسون مفهوم الهوية ويعالجون الحوار أو الصراع مع الآخر وقد ينتمون لأحزاب وأفكار أيدولوجية تعبر عنها، ولكن ظلت سمة النخبوية والتعالي النظري سمة أكثر وضوحا واستمرارا منها من سواها. وإن ظل الدارسون والمؤلفون في مجال الفلسفة المثالية وغير العملية "الماركسية" خصوصا أقل إسنادا أو اتكاء على تصور الهوية ورؤيته للعالم الذي يتنافي مع مرجعياتهم الغربية التي تنتمي لمنظومة هذه الهوية، ولا يمثل استثناء في المجال الفلسفي العربي سوى مدرسة "الأصالة والمعاصرة" التي وقفت على الاهتمام بالفلسفة الإسلامية بشكل رئيس وكانت المقدمة عندها، أو أصحاب الدراسات المقارنة بينها بين غيرها. أو من التزموا منهجية نقدية من الحداثة الغربية ابتداء من مرجعية إسلامية - مستندة لتصور الهوية والمرجعية - أو اختيارا ممن رأوا ضرورة التعاطي والاعتماد على المرجعية السائدة في المجتمع العربي والإسلامي(10)، أو تأثرا بأطروحات نقدية لها في الثقافة الغربية ذاتها لدى اليسار الماركسي(11) أو تيارات الحداثة العليا التي تمثلها "مدرسة فرانكفورت" هابرماس وآدورنو وهوركهايمر بالخصوص، وغادامرأو جهود التفكيكية وما بعد الحداثة في نقدها حيث قامت على أنقاضها(12). وهو ما يمثل رافدا لنقد الغرب وحضارته أو الانتصار لمعارضته والخروج عن تبعيته لدى مختلف التيارات الفكرية - الأكثر انغماسا في الواقع - أو الفلسفية - الأكثر التحاما بالعقل النظري المحض. ولعل أصعب مواجهة للفصل بين المفهومين الآن هو ما جد في الفكر الفلسفي العالمي عموما من ضعف الإنتاج المعرفي المحض وغلبة الرؤى التفصيلية التي تنتمي لعلمي السياسة والاستراتيجية، فظلت النظريات والمشاريع المنتجة جدلا داخل مجالي هذين العلمين بشكل كبير وليس في التفكير المعرفي أو الفلسفي المحض ولكن يوصف أصحابها بأنهم فلاسفة، وهو ما نجد شبيها به ولكن في حدود "الثقافة العربية الإسلامية" بشكل كبير في المشاريع الفكرية منذ آواخر الستينيات، مما يجدد الخلط بين المفهومين. ولكننا سنقف في هذا الباب عند "المجال الفلسفي" سواء ادعى صاحبه أو أنصاره أنه من المجددين في رؤيته الفلسفية أي يؤكد كونه فيلسوفا أو بانتمائه للتفكير الفلسفي الخالص المعتمد على العقل المحض.
إحالات
1- هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مداخلته بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء مجلة المقتطف ضمن كتاب " المجلات الثقافية العربية " كتاب العربي مجلة العربي الكويت سنة 1974
2- بدوي: الفلسفة والفلاسفة ضمن موسوعة الحضارة العربية والإسلامية 2/ 5-7
3- بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية دار النهضة المصرية ط 2 1946
راجع حسن حنفي: الفكر العربي " الجذور والثمار " في كتاب الفكر العربي على مشارف القرن الحادي و العشرين العدد 19 إراف محمود العالم دار قضايا فكرية.
5- راجع مجموعة مؤلفين " إشراف أحمد عبد الحليم عطية " عبد الرحمن بدوي دراسات مهداه الهيئة العامة لقصور الثقافة 2002 ص 21
6- محمود أمين العالم " الهشاشة النظرية في الفكر العري المعاصر " كتاب قضايا فكرية 19 الفكر العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين ص 9
7- مشروع نقد العقل العربي للمفكر المغربي محمد عابد الجابري وصدرت مؤلفاته عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. من سنة 1984 وحتى الآن.
8- هو مشروع فكري ذو مرجعية ماركسية للمفكر السوري الطيب تزيني بدأه في السبعينيات راجع طيب تزيني: من التراث إلى الثورة دار ابن خلدون بيروت
9- راجع مجموعة مؤلفين " إشراف أحمد عبد الحليم عطية " عبد الرحمن بدوي دراسات مهداه الهيئة العامة لقصور الثقافة 2002 ص 21
10- جميل صليبا: الفكر الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة تأملات معاصرة بيت الحكمة كندا سبتمبر 1985 ص 22
11- يمكن أن يراجع في ذلك كتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي و أبي الحسن الندوي ومحمد الغزالي ومحمد البهي وغيرهم من المفكرين الإسلاميين المعاصرين.
12- وهو ما يتضح في جهود فكرية لسمير أمين وجلال أمين وأنور عبد الملك في رفض التبعية وحسن حنفي في حديثه عن علم الاستغراب ورمزي زكي وعادل حسين - رحمهما الله - في رفض التبعية الاقتصادية وعبد الوهاب المسيري في حديثه عن ثمن التقدم و عن التحيز المعرفي تأثرا بالماركسية ونظرية التبعية الثقافية والاقتصادية
هاني نسيره كاتب وإعلامي مصري