هل علمت أنهم ضربوا نجيب محفوظ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلوى اللوباني من القاهرة: رن جرس الهاتف وجاءني صوت الصحفي "مصطفى بكري" هل علمت أنهم ضربوا نجيب محفوظ؟ كانت هذه المكالمة في 12 أكتوبر عام 1994 للكاتب جمال الغيطاني، التي ذكرها في كتابه الجديد لعام 2006 "المجالس المحفوظية" الصادر عن دار الشروق، الكتاب عبارة عن خلاصة لقاءات الكاتب بالاديب العالمي نجيب محفوظ، ويضم نص المجالس التي جرت في عام 1978 كل يوم اثنين على امتداد 4 شهور صيفية، وقد صدرت سابقاً في كتاب "نجيب محفوظ يتذكر"، بالاضافة الى نصوص ومجالس خاصة بأحداث معينة، الكتاب هو رصد وتسجيل لمعالم رفقة ممتدة على مدى أكثر من 44 عاماً كما ذكر الكاتب جمال الغيطاني، ٌيلقي من خلالها الضوء على عالم الاديب نجيب محفوظ وآرائه وأفكاره، وأشاد محفوظ في أحد مجالسه قائلاً "هذا الكتاب أغناني عن التفكير في كتابة سيرة ذاتية، لما يحويه من حقائق جوهرية وأساسية في مسيرة حياتي، فضلاً عن أن مؤلفه يعتبر ركناً من مسيرتي الذاتية".
بدأ الاستاذ "جمال الغيطاني" مقدمة كتابه بمحاولة اغتيال محفوظ عام 1994، الذي اعتبرها علامة فارقة في حياة محفوظ، وبدورنا وجدنا أنه من المناسب أيضاً تسليط الضوء على هذه الحادثة من خلال عرض الكتاب، بمناسبة تصريح الأديب نجيب محفوظ بشروطه لطبع ونشر روايته "أولاد حارتنا"، (حيث يشترط موافقة الازهر قبل طبع الرواية، كما يشترط أن يقوم أحد المقربين من جماعة الاخوان المسلمين بكتابة مقدمة له)، ومن الجدير بالذكر أن الرواية منعت من النشر عندما نشرت لأول مرة في صحيفة الأهرام لمدة 3 شهورعام 59، وشنت الحملات الصحفية ضد محفوظ آنذاك بأنه يتعرض للذات الالهية والأبنياء، وهي الحملات التي مهدت كما ذكر الغيطاني لمناخ يوم الجمعة، يوم محاولة اغتيال محفوظ، وظهرت ايضاً كتباً ضد محفوظ وروايته، ووقتها رفض الحراسة قائلاً "لا أتخيل نفسي ماشياً في الشارع ومعي حارس"، فقد كان لديه ايمان عميق ويقين داخلي، أن أذى لن يلحقه، كما جاء في كتاب المجالس المحفوظية.
تجريح محفوظ: علامة فارقة في حياتنا
وقد أثار التصريح ردود فعل كثير من الأدباء والمثقفين، وذكر البعض منهم (من وجهة نظره) أسباب محفوظ لاطلاق التصريح، وجاءت ردود فعل القراء متطرفة ومتشددة، فتحوا النار على محفوظ، وانطلقت أعيرة نارية مكبوتة لتنال منه شخصياً، وكأنه سبب مصائب الوطن العربي، لتكشف عن تطرف فكري كبير، والبعض أعطى لنفسه الحق في تجريحه وحذف تاريخه الادبي بلحظة، وتمادى البعض الى درجة الاعلان بأنه كان يستحق أن يُغتال ذلك العام، وعادت موجة التكفير ثانية لتطال محفوظ، ونوضح هنا أننا لسنا ضد انتقاد الرموز الثقافية والأدبية، ولكن كان من اللائق عند انتقاد رمز مثل محفوظ، الأخذ بعين الاعتبار قيمته ومكانته الأدبية، بالاضافة الى احترام سنه (94 عاماً)، تجريح محفوظ علامة فارقة في حياتنا، لانه "عصر بأكمله مختزل في انسان"، كما وصفه جمال الغيطاني، "عاش المجتمع المصري، وعبر عنه طيلة 70 عاماً من الكتابة المتصلة، وهي حالة فريدة في تاريخ الادب والادباء"، انتقاد بعض المثقفين والأدباء لتصريح محفوظ أفسح المجال أمام الكثيرين من المتطرفين فكرياً لاهانة شخصه في انتقاداتهم، بغض النظر عن مدى تأثير مثل هذا التصريح على المناخ الثقافي المصري والعربي كما علل البعض في كتاباتهم، ولكن كنا نرجو أن لا نٌصدر الاحكام السريعة عليه، أن لا نصف سلوكه بالمهزوم والمخذول، أو حتى الخيانة لنصوصه.
نظام محفوظ الصارم:
ذكر الغيطاني أن انتظام محفوظ الشديد يٌسهل على من يرصده، توقيت الهجوم عليه، ووضح نظامه الصارم كالآتي ..."فيوم الخميس كان مخصصاً للقائين، الاول في مقهى عرابي بالعباسية مع أصدقاء الطفولة والشباب، كان يمضي ساعتين بالضبط من السادسة الى الثامنة، ومن ثم يسير على قدميه الى كبابجي شهير قريب من ميدان الجيش، ومن ثم الى الحلواني، ويستقل عربة أجرة الى الهرم، حيث لقاء الحرافيش في منزل الكاتب "محمد عفيفي"،.... وهذا اللقاء امتد لأكثر من 3 عقود كما ذكر الغيطاني"، وأضاف .. "أما بالنسبة ليوم الجمعة، تنقل اللقاء بين أكثر من مكان، واستقر حتى السبعينات في مقهى ريش، ثم انتقل الى كازينو قصر النيل، وكان من ضمن نظامه الصارم يوم محدد للأسرة وهو يوم السبت، بينما أيام الاحد، الاثنين، الثلاثاء، والاربعاء للكتابة، ويتوقف عن الكتابة في فترة الصيف، بسبب حساسية في العينين تبدأ مع الربيع، "في الصيف كان يقضي شهراً في الاسكندرية، وكانت له هناك ندوته يتحلق حوله الادباء والمصطافون"، والجدير بالذكر أن محفوظ توقف عن الذهاب الى الاسكندرية منذ بداية التسعينات، بسبب ضعف بصره وبعد إجراء العملية الجراحية.
عصر يوم الجمعة:
تغير نظام محفوظ وتغيرت عاداته، منذ عصر يوم الجمعة الموافق 15 اكتوبر من عام 1994، يوم محاولة اغتياله،... "تقدم من السيارة التي ركبها محفوظ بجوار الدكتور فتحي هاشم (طبيب بيطري)، شاب ليصافحه بيد، وليغرس بيده الاخرى سكيناً في رقبة محفوظ، وبدأ محاولة الذبح.....كان يستهدف قطع الشريان السبائي الرئيسي، موصل الدم الى الدماغ والمخ،
وبدأت السيارة بالاهتزاز بسبب اهتزاز محفوظ"، ووصف محفوظ فيما بعد شعوره "بعد أن صافحني شعرت بوحش من نار يطبق على رقبتي"، وأكمل الغيطاني .."تم نقله الى المستشفى وايقاف النزيف، تم نقل 8 ليترات من الدم (14 كيساً)"، ووصف الغيطاني محفوظ في غرفة العناية المركزة" لأول مرة في حياتي اراه بدون نظارة طبية، بدا منفعلاً، صوته به رعشة وحشرجة، كان يصافح باليسرى، واستعدت ما قاله الدكتور عن تأثر العصب الواصل الى اليد اليمنى"، وذكر الغيطاني أن ما أنقذ محفوظ هو شيخوخته، انحناؤه الى الامام بسبب السن، فمرت المطواة بسبب ذلك قرب الشريان الرئيسي.
عاد محفوظ الى الكتابة بعد 4 سنوات من العلاج الطبيعي اليومي، عندما قال للغيطاني "اليوم تمنكت من الكتابة دون أن أنزل عن السطر"، توقف عن الكتابة وعندما عاد اليها كان يتمرن أن لا ينزل عن السطر،... "محفوظ تعلم الكتابة مرتين في حياته، الاولى في طفولته، والثانية في العقد التاسع، وتلك الاشق والاصعب، ولكم نظرت الى يده، الى ما تخطه من حروف كبيرة مضطربة، لحظة توقيعه على نسخة من مؤلفاته"، يتمتع محفوظ بارادة قوية وصفها الغيطاني ارادة محفوظية، فقد رتب أوضاعه خلال السنوات الاربع، متكيفاً مع الظروف، ولكن بتقدم العمر ضعف بصره فلم يعد يستطع القراءة،..."وبدأ يهل على اصدقائه في تمام الساعة السادسة مساءاً، يتبعه حارسه الخاص، وهو الذي أمضى عمره كله ساعياً في الشوارع والاسواق والمقاهي...ومنذ عام 94 لم تطأ قدما محفوظ أرض الجمالية (مكان ولادته) ومواقع صباه.
انتهى زمن التجوال:
تم القبض على الشاب، وعندما سألوه في مقابلة تلفزيونية، عما اذا كان نادماً على محاولة قتل محفوظ...."أجاب بأنه غير نادم... وأنه لو سنحت له الفرصة سيقوم بذلك، وعندما سأله المذيع اذا كان قرأ شيئاً له، قال لم يقرأ له حرفاً.. لكن أميره أصدر فتوى بتكفير محفوظ"، ويقول الغيطاني..." وبذلك يكون انتهى زمن التجوال في دروب القاهرة القديمة وحواريها، بسبب طعنة وضعت حداً لحقبتين متمايزتين، مختلفتين في حياة الاستاذ، طعنة وضعت حداً لكل عادات الاستاذ، من سعيه بين الناس، وخروجه اليومي في الصباح الباكر، وسيره حتى مقهى في ميدان التحرير".
وضعت حداً للكتابة الابداعية التي كان يعتبرها حياته، ولا يزال....فلماذا نستغرب أن محفوظ يمكن أن يكون خائفاً من تكرار الاعتداء عليه، ولماذا نستغرب بأن محفوظ يسعى بتصريحه ليضمن سمعة اسمه بعد وفاته، بأن لا يتعرض للتكفير، هل بعد هذه التجربة المريرة في حياة محفوظ نستكثر عليه اهتمامه فقط بالهدوء في حياته، بعيداً عن أي شئ يكدر علاقته بالسلطة السياسية والاجتماعية؟ هل نستكثر عليه الهدوء في حياته بعد أن بلغ 94 عاماً؟؟؟؟
وصفه جمال الغيطاني في كلمات بسيطة "محفوظ لا يرد أي انسان، صبر عجيب، يصافح ذاك ويرد التحية لهذا، تواضع جم، سماحة متناهية...عندما يجلس الاستاذ للكتابة فانه لا يعبأ بشئ، وفيما يتعلق بآرائه المبدئية فانه لم يظهر خلاف ما يبطن، وليس لديه حسابات صغيرة... متزن في مواقفه التي تتعلق بالسلطة، ولكن اذا جلس للابداع فانه يلبي النداء.....
كثيراً ما اختلفت معه، وأثبتت لي الايام أنه كان أبعد نظراً........