عالم الأدب

ماسنيون في بغداد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لعل عنوان علي بدر أعلاه لكتابه المرموق يتضمن صيحة المبتهج بلقية نادرة: ماسنيون في بغداد. وهي، حقا، كذلك رغم أن الكاتب لم يكن الأول الذي أعلن عن لقيته، لكنه حولها إلى مفتاح يخصه للدخول إلى عالم تلك اللحظة الفسيحة، الملتبسة، لحظة الجدل الحضاري بين الشرق الروحاني والغرب المادي، اعتمادا على الوثيقة الخام(رسائل ماسنيون إلى الكرملي) التي جعلها مادة للبحث والنقد والسؤال بشأن التصدي لواحدة من "السرديات الكبرى"، حسب تعبير الكاتب، وإعادة "سردها" بروح المواجهة الثقافية والحوار المتكافئ، بخلاف الصورة الدونية التي أبداها المثقف العربي وهو يستخذي أمام المنجز الغربي باعتباره" فكرة كلية أبدية" غير قابلة للنقد، انطلاقا من مواجهة معرفية مزدوجة: " مواجهة ثقافتنا وثقافة الآخر معا". هذا الكتاب على ما يجعله، افتراضا، كتابا يعنى بالتاريخ، وإن كان قريبا، فإن مؤلفه نجح بأن يستنقذه من غبار المخطوطة وضجر البحث والباحث والقارئ ويعيد العافية لطرق البحث الأكاديمي التي كثيرا ما يشوبها الترهل وبرودة الورق العتيق، فجاءت أفكاره متدفقة وعلى ثقة عالية بالنفس تدفعها حماسة الباحث الشاب ودأبه النشيط في تتبع الأحداث ورصدها وتقصيها وهو يقرأ رسائل المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون إلى الأب أنستاس الكرملي، بعد مغادرة الأول بغداد إلى باريس واستمرار المراسلة حتى وفاة الكرملي.
إذ يتعقب بدر رحلة صاحبه( ماسنيون) إلى بغداد ومنها فإنه يتعقب أفكاره وكشوفاته وحيرته الدرامية، بدءا من انبثاق الحسين بن منصور الحلاج أمام ناظريه كحمامة تهدل قرب نافذة سجنه معتقلا بتهمة التجسس خلال الفترة العثمانية وانتهاء أمام تلك المواجهة الذاتية بينه كمثقف مسحور بالروح الشرقي الإسلامي وعاطفته الحارة أزاء الصحراء كنبض إنساني وليس مجرد امتداد جغرافي شرقي وبين دوره كموظف في البعثة الفرنسية ومساعد شخصي (مستشار) لجورج بيكو أحد طرفي المعاهدة المعروفة عام 1916( سايكس ـ بيكو).

يقول علي بدر في معرض خياره البحثي ومن ثم ترجمته لتلك الرسائل:" ... هو شعوري العميق بأن هنالك عالم من القوى المرتدة التي تريد عزل الثقافات عن بعضها ينهض في الشرق بقوة، وهنالك عالم من القوى المرتدة يريد بناء السياج الصلب الذي كان يسور المدينة الكونيالية بشكل رمزي على اساس العرق واللون والطبقة والثقافة ويعزلها عن السكان المحليين، وهو ينهض اليوم في الغرب بقوة، فهذه الرسائل تعلمنا أن الوصفات الثقافية والأنثربولوجية لتعليمنا تهكمية برمتها، ولم يكن أمامنا نحن جيل المثقفين الشباب العرب، الذين عشنا مجال الحروب المتكررة، ومجال الثقافات المحتدمة وصراعاتها، ومجال التأريخ، ومجال الاحتلال، غير أن ننشبك بحوار واضح وصريح مع الثقافات في العالم..".

والرسائل من ناحية ثانية تكشف جهد ماسنيون، شبه الرسالي، للتقريب بين الإسلام والمسيحية وجملة الجهد الشخصي الذي قام به من خلال متابعته للثقافة العربية عبر مطبوعاتها المتعددة، ثم طبيعة عمله كداعية استعماري تنفيذي في مرحلة خطيرة من التاريخ العربي الحديث، كان فيها المجتمع العربي على بوابات المجهول والمفترقات الغامضة بعيد الإنهيار العثماني وقبيل ما يسمى الإستقلال الوطني.

أمام الإحتفاء الخاص الذي يبديه الكاتب بشخصية"روايته" باعتباره نموذجا معرفيا لعاطفة معرفية أبداها مستشرق غربي وسط بيئة عربية وعالمية كثيرا ما تسترشد بنظرة المؤامرة التقليدية والنظر المريب لتاريخ الاستشراق، فإن نظرة هذا الكاتب تتفحص نقديا تاريخانية الاستشراق بعامة وصورة ماسنيون باحثا من طراز مختلف رغم ازدواجيته الدرامية أو فصامه الثقافي بين منذورات مشاعره لشرق روحاني دافئ يمكن أن يغني مادية الغرب الباردة، وبالعكس، ويجعل من لقاه المحفوظة فوق رفوف دار المخطوطات العراقية/ بغداد مناسبة لتهدئة العلاقة الصاخبة( بيننا وبينهم) وإزالة الغبار عن جهود تلك النخبة العراقية الرائدة التي احتضنت ماسنيون وضمدت جراحه الجسدية( بفعل الإعتقال العثماني) والروحية بسبب انكساره الشخصي جراء ما تعرض له، الأمر الذي لم يشكل عقدة ثقافية ولا حجر عثرة على طريق بحثه عن روح الشرق في الإسلام لأنه" كان بحق مثقفا كونيا واسع المعرفة وعميقا، وقد اتصفت أعماله بالمسؤولية الفكرية والرصانة التاريخية والأكاديمية، وكان ممثلا ـ بين النخب المثقفة ـ للمثقف الذي يتصف عمله بالبعد الأخلاقي والقيمي، وكان رافضا للعنف بصورة مطلقة ورفض بشكل حاسم كل منطق للقوة والعنف في حل النزاعات البشرية أو منطق الكراهية والتقزز في النظر إلى عقائد الآخرين".

.. وإذ أنوه بالجهد البحثي الممتازلكاتبنا علي بدر لأنه اقتحم مرويات في صلب الجدل المحتدم وأطلق أحكاما قيمية وتحليلات قصدية، واحتفاءات شخصية ببطله الدرامي المخصوص بالبحث، فلا أخفي احتفائي أيضا به وبكتابه باعتباره علامة على طريق باحثينا الجدد وهم يسجلون ويساجلون معطيات أوشكت على الموت اليقيني، ويعيدون الاعتبار لفرح الكشف عن حركات العقل والاستجابة الضرورية لمشروع الآخر الذي أريد له غالبا أن يبقى بعيدا عن السؤال والسؤال المضاد أو إدراجه على قائمة المتهمين، بشكل مسبق.
على أن الكتاب ، من ناحية أخرى، يحرض على طرح أسئلة استطرادية تنبثق منه وتتماشى معه وقد تتعارض معه، أيضا، بشأن مقولات فكرية أو نظرات تحليلية أو طرق أخرى في النظر، وهذا في صالح الكاتب وكتابه بالتأكيد، فهذا ديدن تاريخ الثقافة الإنسانية عبر سجالاتها وحواراتها وصراعاتها على مختلف جبهات التاريخ والجغرافيا، فهو يشير بصواب إلى "المشروع الكوبرنكي العظيم ذو الطابع الأكاديمي الحر والمؤكد على النقاش والخلاف والامتياز الخاص والانفلات من التسييس المفرط( عند النظر إلى ثقافة الآخر)" فإنه سرعان ما يعطف:".. و الاعتماد على المعرفة بديلا عن الآيديولوجيا" وهذا أحد أحلامنا الثقافية ولكن هل ثمة معرفة بعيدا عن الآيديولوجيا في عصرنا الراهن؟ أعتقد، بل أتمنى، أن يكون القصد هنا هو ضرورة أن لا يتخلى العقل الثقافي، خصوصا العربي، عن استقلاليته المعرفية عند شروعه في مغامرة البحث والإبقاء على تلك المسافة الضرورية بين العقل النقدي العربي وبين المؤسسة الثقافية لإتاحة الفرصة لممارسة النظر الطلق إلى "الحقائق" المكرسة، تاريخيا وأخلاقيا، على أن هذه الإستقلالية، هي الأخرى، ليست صافية من شوائب الآيديولاجيا، مهما كانت شخصية، فالكاتب المولع بكلمة/ تعبير: "انشباك" ومشتقاتها ومترادفاتها، تحتم عليه "التسلح" وهذا ما يبرر خوفي عليه من استمراء خوض معاركه الشرسة" مسلحا" بآيديولوجيا ما، وأقترح عليه عبارة بديلة: الجدل أو السجال، فهما أقرب إلى لغة الباحث المحاور من احتدام الباحث المشتبك، وعذرا على التدخل، بصفاء نية، بقاموسه الخاص.

وكم كنت أطمح لأن يتوقف الباحث، أكثر مما فعل، عند ما أطلقت عليه" لحظة الدراما" الداخلية الهائلة( وليست تلك المتعلقة بالحكم عليه بالإعدام كما ذهب الكاتب) التي كابدها "بطلنا" المقصود ذلك الفرنسي العبقري، بين شغفه بالتراث الشرقي وعواطفه الخاصة أزاءه وبين كونه ضابطا معتمدا في البعثة الكولونيالية الفرنسية، وأن يشبع رغبة قارئه في البحث عن أسرار تلك الدراما ومسبباتها ونتائجها وأعراضها الجانبية على حيادية استقلالية المعرفة التي ينشدها المؤلف نفسه. ثم ألم يكن التصوف الذي أفرد له ماسنيون أبرز مؤلفاته" وجد الحلاج" حركة فكرية انشقاقية على أكبر معتقدات الناس وأقدسها.. الدين، أي إنها "آيديولوجيا" عقائدية أودت بأبطالها إلى الموت في التاريخ الإسلامي كسائر أضحية الآيديولوجيا الصلبة خلال الصراع المحتدم داخل الدينة العربية المعاصرة؟

إن الحكم على ماسنيون بالإعدام يمكن اعتباره تجربة شخصية سرعان ما انقشعت رغم تأثيرها على اللاحق من مسيرة حياته، لكن مكابداته الكبيرة هي تلك التي لازمته طويلا حتى موته بشأن قدريته المزدوجة: ضابط في جيش محتل وامين خزانة فرقته العسكرية ومستشار القائد السياسي كمساعد في انجاح تلك المهمة ورؤيته الخاصة للمنطقة وثقافتها وانحيازه المطلق لأبرز تجلياتها الفكرية والروحية في تجربة الصوفية وبطلها الحلاج القتيل.

كتاب علي بدر جهد عربي ممتاز وله وقع خاص هذه الأيام وكلمتي هذه واجب للتنويه بهذا الجهد واحتفاء بباحث دؤوب وصادق يغني قارئه ويضيف له، وهذه بعض الشروط النادرة في مكتبتنا العربية الحديثة.
Nasir_awad@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف