عالم الأدب

معسكراتُ الأبَد: إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

(1 / 2)

أولاً ـ حولَ الرواية الفنتاسية

ما كان لمحاولات سليم بركات، الروائية، إلا أن تثيرَ إشكالية بينة في مسألة الشكل الفني للسرد، كما في تقنيته ومعماره، على حدّ المساواة؛ وهيَ محاولات، أخذت القاريء العربيّ، على حين غرة، بما إعتمل فيها من لغة بليغة، عصيّة، وأجواء سحرية (فنتاسية)، غير مألوفة: صفتان، إعتاد قارئنا مصادفتهما خلال مطالعاته في كتب التراث؛ كما في تصانيف المتصوفة، على سبيل المثال. على أنّ ذلك الإشكال، الموصوف، في واقع الأمر، مرده تغرّب الرواية المكتوبة بالعربية عن الحداثة، والمعبّر عنها في تلك الصيغ التجريبية، التجديدية، المكتنفة للأعمال الروائية الأوروبية، بشكل خاص. فلطالما راهن روائيونا على المدارس الكلاسيكية، كالرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها، وخاضوا على هديها تجاربهم الكتابية أسلوباً ومضموناً؛ مما نتج عنه بالتالي "رهن" ثقافة قرائهم، الأدبية، في حدود تلك التجارب، حدّ الإدمان عليها. حقيقة أنّ الرواية، كبنية أدبية متكاملة معمارياً، هيَ حالة مستجدة على ثقافتنا، بما كان من بداياتها، المتأخرة، العائدة إلى مستهل القرن العشرين؛ هكذا حقيقة، ليست بالمبرر المستوفي شرط الإقناع، فيما تشهده معظم الأعمال الروائية العربية، المتأخرة، من مراوحةٍ في مواقعها الرومانسية أو الواقعية، وما يستتبعه ذلك من الجمود والبلادة. وعلى هذا يكون الفنتاستيك، في الرواية العربية: " نصاً كفيلاً للإطاحة بالواقع وتمريغه في لوثة رماد الإنهيار، من أجل إغتساله، قصد تحريره من سكونيته، وليس لتقديم أجوبة جاهزة، لأن الفنتاستيك سؤال يتعيّن، بدءاً، إمتحانه لتلمس تجلياته، وتجليات كل من ساهم في رفده أيضاً ". (1)

ما سلف من تأكيدنا على حقيقة حداثة عهد الرواية بأدبنا، يضيء أيضاً حقيقة اخرى: أنّ ثقافتنا المشرقية ـ المعاصرة زمناً، لا تفاعلاً ـ قد تقبلتْ الرواية، كشكل أدبيّ جديد، فيما تقبلته من جهة الغرب؛ وفي الآن ذاته، رفضتْ أيّ مواكبة للحداثة، القادمة من الجهة نفسها. هذا الرفض، له أسباب شتى لا مجال هنا لعرضها ومناقشتها. بيْدَ أنه من المفيد، إستطراداً، القول بأنّ تلك الحقيقة، الموصوفة، كان لا بد لها ترسيخ حالة " التغرب " في الرواية، ليس لكونها شكلآ أدبياً، مستحدثاً / مستورداً، حسب؛ بل وخاصة لتموضعها في بيئة إجتماعية، متخلفة، رافضة للحداثة ومستنفرة على الدوام للمنافحة عن كل " تابو "، محتمل، دينياً وسياسياً وثقافياً. إلا أنّ المرء ليستغرب حقا، حينما يعلم مدى تأثير كلاسيكيات تراثنا المشرقي، كألف ليلة وليلة، على بواكير الكتابات الغربية، الحداثوية. فحكايات شهرزاد تلك، بما هيَ عليه من تماهٍ بين التاريخيّ والخياليّ، وبين الواقعيّ والميتافيزيقيّ، كان من الطبيعي أن تلهمَ أولئك الكتاب الأوروبيين، ( كافكا، مثلاً )؛ ممن إهتدوا إلى ما صار يُعرف نقدياً بـ " الرواية السحرية ". إننا لا نرفعُ هنا أسواراً مصطنعة بين الغرب والشرق، في هذه المسألة أو في غيرها. على أنّ واحدنا ليثير عجبه، خصوصاً، إهمال أغلب كتابنا، الفادح، لتراثهم العظيم الذاخر بالأجواء الفنتاسية؛ كما في حكايات الجان، الذين يتلاعبون بمصائر البشر الأنسيين ويشاركونهم مأكلهم ومشربهم ومسكنهم، وحتى عشق حبيباتهم.. !

بدا سليم بركات، منذ بداية تجربته، الروائية، كما لو أنه قرر القطيعة التامة مع أشكال الكتابة العربية، السائدة في هذا المضمار. لكأنه " ولدٌ لقيط "، متروكٌ بإهمال على حافة الكون الأدبيّ؛ أو بالأصح، ربما، " ولدٌ عاق " يرفضُ الإعتراف بأيّ أبوّة أدبية. الصفة الأخيرة، المفترضة، تحيلنا إلى الكاتب نجيب محفوظ؛ الذي خرجت الرواية العربية، مجازاً، من " معطفه ": فكاتبنا هذا، الراحل، وبالرغم من مرور تجربته، المديدة، بمعظم الإتجاهات الأدبية، الروائية، المعروفة؛ إلا أنه كان واقعياً، لدرجة أن نصوصه ملتصقة بشدة بواقع المدينة الكبرى، ( القاهرة )، وخصوصاً الحيّ الشعبيّ العريق، ( الحسين )، الذي فتح عينيه فيه وألفه وتغنى به؛ حدّ أنّ رواياته تدعوه ببساطة بـ " الحارة ". وواقعية محفوظ، إنعكست حتى في رواية " أولاد حارتنا "، المستلهمة لقصص الأنبياء بشكل جليّ لا يمكن لأحد دحضه؛ واقعية، أحالتْ رموزاً دينية، معروفة، إلى مخلوقات بشرية، فانية، تسكن تلك الحارة القاهرية نفسها جيلاً بعد الآخر. بيْدَ أنّ الخيال والتناص والرؤى، الخاصة بأسلوب كاتبنا المحفوظيّ، ظلتْ في حدود ذلك الواقع ودونما أن يخترقها حضورُ الفنتاسيا، بشكلها الغيبيّ، على الأقل. لا غروَ والحالة هكذا، إنّ تكون " أبوة " محفوظ، المفقودة، بالنسبة للكاتب سليم بركات، إشكالاً آخر لهذا الأخير. فتأثير الأعمال الأدبية العالمية، المترجمة للعربية، على الكاتب المنتمي لبيئتنا، ثقافة ولغة قبل كل شيء، لا يغنيه عن التكون على ما تراكم في ثقافته ولغته من أعمال أدبية، كلاسيكية أو معاصرة. هذا الإشكال، الموصوف، تثيره فيما يتعلق بمحاولات بركات، الروائية، الإيحاءاتُ المعلنة، أو الخفية، المستمدة ثيماتها من تراث " الواقعية السحرية " الغربيّ والأمريكي اللاتينيّ، سواءً بسواء. وفي روايته هذه، قيد القراءة، " معسكرات الأبد "، ما كان لبعض النقاد إلا التساؤل عن مغزى خلفيتها التاريخية، الضائعة في زحمة من الكائنات والأحداث والأحلام، الفنتاسية بمعظمها: " يخيب هنا مسعى من يبحث في هذا العمل عن تسجيل روائيّ لفترة من تاريخ الشعب الكرديّ في المنطقة، خصوصاً عندما يرى في الحدث وحده العلامة الفضلى لهذا التاريخ ". (2)

ثانياً ـ اللحظة التاريخيّة

كنا في دراسة سابقة، قد أشرنا إلى الملامح الفنية التي يتسم بها أدب سليم بركات إنطلاقاً من عرضنا لأعماله الأولى. وفي روايته الرابعة هذه، " معسكرات الأبد "، نتتبّع تلك الملامح، الموسومة، منطلقين بدءاً من شكل الحكاية. هذه الحكاية، نجدُ أنها تسجيلٌ فنيّ لحقبة زمنية، معينة، أكثر منه تاريخياً. أبطال وشخصيات تسجيله، الموصوف، هيَ كائنات بشرية أو بهيمية، إستمدّها الكاتبُ من بيئته وبالتالي مما ترسّب من وجودها في وعيه ولا وعيه، على السواء. وعطفاً على إشارتنا لما سلف من أعمال بركات، كان لنا في حينه ملاحظة حول روايته الثالثة، " الريش "، كونها العمل المبرز بجلاء للمسألة التاريخية. وهيَ المسألة، المرتبطة بأحداث فترة زمنية، سابقة للحدث الراهن المبني سرد الرواية عليه: بمعنى أنها مرحلة ساقها المؤلف في إتجاه واحد، مضطرد، بما يجسّد تاريخيتها وكونها خلفية مصاحبة / ومتوازية لمصير شخصيات تلك الرواية. هكذا مرحلة، تاريخية ومطوية، يسترجعها سليم بركات في روايته، " معسكرات الأبد ". وهوَ هنا، يُعيد قارئه إلى حقبة من تاريخ منطقته، لا لكونها حلقة مفقودة في أدب بلاده حسب؛ بل ولرغبته الإفضاء بما عرفه عن أشخاص حقيقيين، يمتون إلى داخل نفسه وخارجها، أيضاً. هؤلاء الأشخاص، وإن وجدوا مرة في بيئة الكاتب، المحلية، بيْدَ أنهم سيحظون بنعمة " الخلود " في أدبه، بوصفهم نماذج فنية.

" معسكرات الأبد "، كرواية تتمثل شخصيات حقيقية أو متخيلة، يمتون للواقع بعديد من الروابط، فهيَ تعالج فترة زمنية لا يصحّ فيها القول، أنها صدىً لتجربة ذاتية. بيْدَ أنّ كاتبنا، لم يقحم الوقائع التاريخية، في عمله هذا، دونما تمهيد؛ كما إعتدنا من بعض روائيينا في مواضيع متشابهة. لا بل، ليحق للقاريء الدهشة، حقاً، حينما ينتهي من الفصل الأول من رواية بركات هذه، دونما أن تتاح له إلتقاط إشارة واحدة دالة على الإطار الزمني، المفترض. يكاد القاريء، المراقب لصراع الديكيْن، " المهرجيْن "، أن ينتابه الضجر من تلك التفاصيل الأكثر دقة؛ على الرغم من كونها مشغولة ببلاغة كاتبنا، الأخاذة. إلا أنّ إقتحام الغرباء، الأربعة، للهدوء والرتابة في حياة بنات " موسى موزان "، في هذه الهضبة المتوحّدة، يأخذ القاريء على حين فجأة، وبالتالي يشده للنصّ: إنه عنصر المتعة، الذي طالما أكد عليه " بارط "، الناقد الفرنسي، مؤكداً أن لا غنى عنه في بنية السرد القصصي (3). يتكرر، إذاً، في الفصل الثاني، مشهد الصراع الضاري بين الديكيْن، وكذلك الأمر فيما يخصّ لقاء الغرباء ببنات " موزان ". على أنّ إشكالاً وجودياً، سيدهَمُ الحكاية بظهور أشباح الموتى، من آل هاته البنات: وهم " موسى " وزوجته وصهره؛ إشكالاً يتفاقمُ، بتمكن هؤلاء الأخيرون من محادثة الغرباء، الطارئين على حياة الهضبة والذين يُضفى عليهم منذئذٍ الغموض والإلغاز.

الإطار الزمني، المبنيّ عليه السرد في روايتنا، لن يتأخرَ كثيراً لكي يجذب القاريء إليه؛ وهوَ الإطار، الشاهد لحدثٍ تاريخيّ في حياة المكان ( الهضبة )، متمثلاً بثورة الأهلين ضد الفرنسيين، المستعمرين للبلاد، في أواخر ثلاثينات القرن العشرين. بل إن التحديد الزمنيّ هنا، صار من الآن فصاعداً عنصراً بالغ الأهمية في بناء الحدث التاريخيّ، الموصوف، وتطويره: كأن نعلم، مثلاً، بأنّ تلك الثورة، التي قادها " سعيد آغا "، في بلدة " عامودا "، قد نشبت قبل ستة أعوام، تماماً، من حلول الغرباء في الهضبة ولقائهم بأشباح الموتى من آل " موزان " (4). هكذا تحديد زمنيّ، ما كان مسألة إعتباطية، أو مفتعلة، في بنية الرواية؛ إنما هوَ تجسيدٌ لتنظيمها الداخليّ، فيما يخصّ العلاقة بين الشخصيات والحدث. هذا، دونما إغفال ملاحظتنا، المبنية على حقائق تاريخية، والتي تجعلنا لا نتفق مع الروائي، فيما ذهبَ إليه من أنّ " سعيد آغا " قد إنطلق في ثورته على الفرنسيين من هذا الإعتبار: " ريثما يتحول إستقلال فعليّ لـ " عامودا " على الأرض إلى إمتدادٍ لنسبه العريق، البهيّ، في شمال سورية " ( معسكرات الأبد، الصفحة 87 ). علاوة ً على تأكيد السرد، بأن قائد الثورة ذاك، قد إلتجأ مع عدد من رجاله إلى جبال الأكراد، في الجهة الأخرى، الغربية، من الإقليم الكردي. وفي المقابل، يلقي السردُ الروائيّ ظلالاً قاتمة من الريب على تحركات الأمير " جلادت بدرخان "؛ أبرز شخصية كردية، متنورة، في النصف الأول من القرن المنصرم. ذلك الأمير، كان قد سعى لإقناع العشائر في الإقليم الكرديّ ( الجزيرة )، لقبول العرض الفرنسيّ المقدم لهم بشأن إقامة دويلة هناك، على غرار ما إشترعَ للأقاليم الاخرى في دمشق وحلب وجبليْ العلويين والدروز . هذه التحركات، العامل في إطارها أميرنا ذاك، كانت وفق السرد من قبيل: " دخول عشيرة كردية ـ دمشقية على خط المصالحة بين الإفرنسيين وعشائر الجزيرة ". ( ص 93 )

لسنا هنا بصدد تفنيد معلومات الكاتب، التاريخية، أو مناقشة آرائه بخصوص ما سلف من أحداث. فهذا، يُعتبر خارج حدود دراستنا. فالرواية، بشكل عام، هيَ خلق فنيّ قبل كل شيء، يغض الطرفَ، أحياناً، عن مطابقة ثيماتها للواقع المستمدة منه موادها. إلا أنّ تلك الحقيقة، الموصوفة، لا تسمحُ بالتعميم، الإعتباطيّ، بما يودي بالرواية إلى فوضى الزمان والمكان. وإذ تحتفظ رواية بركات هذه، بقيمتها الفنية، إسلوباً وبنية، فإنها لن تصمدَ أمام مسألة التأريخ، علمياً: بمعنى أن ينبري أحدهم، ليكشف بأنّ ثورة " سعيد آغا " في أواخر ثلاثينات القرن المنصرم، كانت بمنأى عن الوعي القومي، الكردي، وأنها تلبّست شكلاً طائفياً واضحاً. هذا الشكل، عبّر عنه طرفا النزاع من سكان الإقليم؛ بدءاً بتبادل الإتهامات بين مسلميه ومسيحييه، ومروراً بالصدامات المسلحة وإنتهاءً بالنزوح شبه الجماعي لأولئك الأخيرين من بعض بلداتهم وقراهم. ما كانت تركية الكمالية آنئذٍ، ببعيدة عن مجرى الصراع ذاك؛ هيَ التي أججته للضغط على المنتدبين الفرنسيين، كيما يتخلوا لها عن لواء إسكندرون. هذه الحقيقة، يؤكدها لجوء الزعيم " سعيد آغا "، إلى الأراضي التركية وطلبه حق اللجوء هناك: فيما تذهب رواية بركات بالآغا نفسه ـ إعتباطاً أو جهلاً ـ إلى حِمى الجبال الكردية، في سورية. دون أن ننسى الإشارة، بإن العقلية العشائرية لهذا الزعيم الثوري، كانت معروفة للملأ، وقد أفضى بها السردُ بكل بساطة. إذ نقرأ في روايتنا، عن سبب إنضمام " موسى موزان " للثورة تلك: " لأنه دقوري النسَب " ( ص 92 ): أيْ أنه ينتمي لعشيرة الاغا، نفسها.

ملاحظاتنا، آنفة التوصيف، قد تبدو كما لو أنها قناعة ٌ بصدع ما، في البناء الفني لرواية " معسكرات الأبد ". على أنه رغم تلك الثغرات هنا وهناك، فيما يخصّ واقعيتها التاريخية، تبقى رواية بركات هذه، عملاً فنياً على قدر وافر من الصدق والشفافية. فها هو بطلها " موسى " يقع صريعاً وزوجته برصاص دورية فرنسية، عابرة: فيما أنّ روائياً آخر، غير سليم بركات، ربما ما كان في تلك الحالة من أعمال الثورة، ليقبل بأقل من عرضهما كشهيديْن، وطنييْن، في ميدان المعركة أو خلال الغارة الجوية، مثلاً. ثمة صورة صادقة اخرى، طريفة، عن سذاجة القرويين؛ حينما يتوقع الناسُ إندفاعَ أولاد " حسين آغا "، الذي إعتقله الفرنسيون، بخيولهم ورجالهم للثأر من هؤلاء المستعمرين. ولكن المتحاورين، يحيرهم هذا السؤال: " أين تقع فرنسة ؟؟ " ( ص 155 ). بيْدَ أن إشكالية الرواية تاريخياً، تتقلب من وقائعها إلى لغتها وأسلوب سردها. هكذا إشكال، يستبينه المرءُ في توقفه أمام لغة الحوار وأسلوب السرد، بشكل خاص. كما في إلتقاء " سعيد آغا "، إثر عودته للإقليم، بأشباح الموتى من آل " موزان "، فتجري بينهم محاورة على جانبٍ من العمق بلاغة ً وفلسفة: وهمُ القرويون، أنفسهم، الذين ما إنفك السرد يبوح بخلقهم البسيط، الساذج. ثمة أيضاً، تلك الأسطورة المتداولة، عن مرور " تيمورلنك " في الإقليم؛ والتي ترويها زوجة " موسى " لبناتها وبأسلوب غاية في الطرافة والمأساوية في آن: وهوَ أسلوب بركات، بطبيعة الحال.

هاتان الملاحظتان، الأخيرتان، نحيلهما إلى ما سبق وأكدناه من كون الرواية، أولاً وأخيراً، بنية فنية يتماهى فيها التاريخ بالفنتاسيا. و " معسكرات الأبد "، إذاً، تعيد تسجيل حقبة زمنية، مطوية، تسجيلاً فنياً أكثر منه واقعياً. فضلاً على أنّ شخصيات الرواية، قد خضعت لصنعة الكاتب، الحاذقة، كيما يتسنى لها التجسّد كنماذج فنية: أيْ ما كان بوسع هذه الشخصيات، ربما، إلا أن ترْسَمَ من الخارج بريشة الكاتب وأن تتكلم بلغته العربية، البليغة؛ بالرغم من حقيقة أنها لم تجدْ غير لغتها القومية، الكردية ! من جهة اخرى، الروائيّ كما يعلمنا النقدُ، يقولُ ما يعجز التاريخُ عن قوله. فها هوَ بركات، يتقمص أيضاً دور المؤرخ الإجتماعيّ، فيجلي لنا مغامض عنوان روايته هذه؛ " معسكرات الأبد ": حينما بُفاجيء قارئه، بأنّ تلك المعسكرات الحاوية لأبنية متعددة الطبقات، وسط العراء المحيط بالهضبة، ما هيَ سوى منشآت المطار العسكريّ. معسكرات ٌ، إقتحمت به الحضارة الحديثة عتمة َ ذلك الإقليم، الكرديّ، الغارق في لجة الجهل والتخلف والبؤس والظلم. فلا غروَ، أن يحظى ذلك الإكتشاف المتمثل بتحليق الطائرة، الأولى، في أرض ذلك المطار، بتسجيل فريد، معبّر عن مشاعر سكان الإقليم . إذ نتابع بنات " موزان "، وهنّ يرقبْنَ بذهول هبوط ما إعتقدنَ لوهلةٍ، أنه طائرٌ ما، من السماء إلى الأرض المستوية، المرصوفة، الملاصقة للهضبة. ( ص 266 )

الهوامش

1 ـ شعيب حليفي، شعرية الرواية الفنتاستيكية ـ مجلة " الكرمل " الصادرة في قبرص، العدد 40 / 41 لعام 1991، ص 116
2 ـ كاظم جهاد، " معسكرات الأبد " لسليم بركات ـ مجلة " الكرمل "، العدد 48 / 49 لعام 1993، ص 330
3 ـ رولان بارط، درس السيميولوجيا / الترجمة العربية في الدار البيضاء 1986، ص 40
4 ـ سليم بركات، معسكرات الأبد ـ الطبعة الأولى في بيروت 1993: وجميع إستشهادات دراستنا، مأخوذة من هنا

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف