سارة السهيل تطرز بغداد بدموعها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قراءة في قصائد ديوان "دمعة على أعتاب بغداد" للشاعرة سارة طالب السهيل
ليس اكثر صدقاً من كلمات تنبع من محنة الروح، وليس أكثر وقعاً في نفس القاريء ما تجيش به مشاعر الإنسان يكتبها شعراً أو نثراً يؤرخ بها لحظة الانفعال، وفي تلك الانفعالات نجسد إنسانيتنا، وتتوزع ما بين ضحكاتنا المكبوتة وحنين يذبح الروح الى شمس لاتتشابه مع كل شموس الدنيا ، والى حزن تلفه الطقوس المهيبة فلا ينفع الدمع حين يحزن اهل العراق. وحين تكون القصيدة ملاذاً لنفثات الشاعر، نتلمس حرارتها ووهج بريقها بين سطور القصيدة، غير أن ما يحرك المشاعر ويهز الوجدان واضحاً كالنهار، يعبر عنه الشاعر ابياتاً من الشعر وكلمات ملونة وصور جميلة تنقلنا الى عوالم أخرى، وعبثاً تحاول الشاعرة في هذه القراءة إن تحاور وتناور غير أنها ترتد على عجل لتحضن بغداد والشمس والشهيد والتوجس الذي يغمر روحها قلقاً على وطن أسمه العراق.
وحين تمسح الشاعرة ( سارة طالب السهيل ) دموعها على أعتاب بغداد، فأنها لم تزل ترسم تلك الصورة التي طالما تحدث لها عنها الشهيد الخالد، وهو يمسد شعرها ويجلسها على ركبتيه، وطالما تحدث لها عن جدها ومدينتها وشموسها وأنهارها، وطالما غمرها بفيض من العاطفة التي لم تزل تستقر في قاع روحها رغم غربتها الطويلة.
(واقفة
ألوح للعمر المسافر مثل أعمدة الدخان
أبحث عن زهرة البهجة بين بساتين الأحزان
أرسم نجماً أبيضاً يتألق عشقاً
فوق الجدران
أنقش فيه رسائل ضائعة
أوراقاً لاتفهمها الأزمان
واقفة كالقشة في فوهة بركان)
ولطالما تحدث لها الشهيد طالب علي السهيل عن نخيل العراق وجلجامش وأوروك وبنو تميم وكلمة الحق التي لابد إن تنتصر، فأجج في مخيلتها الصغيرة كل تلك الصور المتزاحمة التي ميزتها بين أخواتها لتسلك دروب القصيدة والقصة وصناعة الكلام ، فبدأت تصنع قلائد من أشعارها للوطن الحبيب والحزين والمستباح الذي حولته الى مكان له اوسع مساحة من القلب الغريب.
فتشعر بقربها من المدينة التي ترددها في ابيات قصائدها، و التي جعلتها الشاعرة سارة السهيل رمزاً للوطن، وحينها لم تجد الا وروحها المتشظية تتضرع بكل مالديها من قوة الدعاء الى الله أن يحفظ لها العراق، وأن يزيل عنه الغم والهم وأن يعود معافى زاهياً، ليعود الحب والكرم مزنات من مطر تتزاحم في سماواته فتسقي ارضه وتبلل وجوه الأحبة وتنعش النفس كما كان يحكي لها الشهيد ، وأن ترحل كل الغربان وتنسل الأفاعي بعيداً عن الناس.
(دقت نواقيس الخطر والغيم ينذر بالشرر
والساقيات الغابرا ت تلوح اعلى المنحدر
الشمس غابت شمسها والنجم، وأنشق القمر
النهر، بل نهران عا دا كالهشيم المحتضر
الأرض ما عادت تحتنا والزرع جف وأندثر
بغداد عادت غابة الوحش أرأف من بشر
بحر الدما يجري وما في جريه من مستقر
يارب عفوك إننا آلت مغانينا حفر
حتى أغاريد المنى تروي أفانين السمر
ياملهم الشعر الضيا يرتاد معسول الصور
أحفظ لنا أرض الحمى وأجبر ألهي ما أنكسر
وأجعل طريقي أخضرا يارب وأحفظ من شكر)
وفي قصيدة دمعة على أعتاب بغداد التي اخذ الديوان عنوانه من أسمها، ناجت الشاعرة الشهامة التي عرف بها أهل العراق لإنقاذ مواطن عربي بريء ، وناشدت المروءة والضمير، غير أن أبيات قصيدتها أوخزت ضمائر القتلة والإرهابيين الذين أوغلوا في قتل الأبرياء تحدياً لحرمة الدم، وإمعانا في ارتكاب الجريمة أفساداً في أرض الرافدين، ومساهمة في نشر الوباء الأجرامي وخراب البلاد، وبتركيز عال تحدد الشاعرة وجه بغداد وسكون دجلة وسط كل هذا الجحيم فتقول :
أمواج دجلة في الإعماق تصطخب والشط حول ربى بغـــداد يلتهب
نار، جحيم، دخان، صرصر عصفت ماذا دهى القوم من بؤس بما جلبوا ؟
تعجلوا القتل حتى أنهم هدموا صرحاً من المجد لاترقى له الشهب
...........
..........
آخ لبغداد، والدنيا مداولة كيف الطفولة تلقى عندنا الرعب ؟
كيف الطفولة في الأشلاء سابحة كيف الطفولة في الأهوال تضطرب ؟
كيف الطفولة في أبهى براءتها ترمى الى النار، بالجمرات تختضب
دم البراءة مطلوا بساحتنا ماذا يقول لنا التأريــخ والكتب ؟
ياخير أمة خلق الله حسبكمو ضموا الصفوف فأن الصرح ينشعب
بغداد كانت ملاذاً، جنة، غدقاً الظل يعرفها والمــــاء والذهب
الكتب تعرفها، والفن يعرفها والمجد من نبعها، والعز والحسب
ماذا دهى الناس في هذا الزمان فلا فكر يطاع ولاديــــن ولارتب
إلا خفافيش تجري في أزقتها في ركبها البوم والأرزاء والنوب
لايرحم الله قوما جاز ظالمهم خافوا من الفعل فارتاحوا بأن شجبوا
يا أمة جمة حار الطبيب بها ثوبي الى الرشد، فالأيام تنسرب
واثقة إن الرياح لن تطفئ نور القمر، ولم تستطع مكابدات الاغتراب إن تطفئ محبتها للعراق، فيرن الاسم في مسامعها، وتبحث عن كل مايمت لبلادها بصلة، غير أنها وجدت نفسها في نهارات وليالي بغداد، منقوشة فوق المآذن الزرقاء، محلقة مع حمام الأضرحة المقدسة، راكبة تموجات الفرات حين ينساب من أعالي الأنبار، عائمة فوق دجلة، وردة في النوروز، وسعفة في نخيل السماوة، ثم طافية فوق شط العرب.
ولأن العراق مسكون في روحها فلم تزل تحلم بأمل جديد وبيوم جديد، تكون فيه الشمس ساطعة لايخدشها الرصاص ولا يلوث لونها الزاهي لون الدم القاني، وظلامها هامساً ومنعشاً لاتمزق سكونه الانفجارات ولازخات الرصاص، ونجومها قلائد لاتختفي وتتضرر من سرفات الدبابات وصوت القذائف، وشواطئها ساحرة لاتخشى التلوث والوجوه الكالحة التي تريد السوء بالآخرين، وغروب يغري الشعراء بقصائد وموالات وغناء ، وليل يشبه ليالي الف ليلة وليلة التي لم تزل ترن في الذاكرة ، وحزمات من ضوء الشمس كانها السنابل والسعفات ولون الرطب العراقي في تموز... وآخ على بغداد !!
ويبقى للشهيد أثراً واضحاً في قصائد ( سارة السهيل )، فقد تعلمت أن تكتب صفحتها الأولى بين يديه، ونقشت محبتها الأزلية الى روح ذلك الفارس المسافر والشيخ الجليل الذي منح روحه للعراق، برغم حاجتها لهذا الرجل الممتلئ بكل صفات الفارس العربي ، وبرغم كل ما عوضته لها رفيقة العمر والسراج الذي كان ينير له الطريق، وملهمة الإصرار على التواصل والتضحية في سبيل العراق والدتها التي أعطت لها دور الأم والأب بعد الرحيل ، فقد بقيت كلماتهما النابعة من باطن الروح مشتعلة في مخيلتها وعقلها، وتستذكر كل اللحظات التي كانت تفضي الى تلك الذكريات التي لاتعادلها كنوز الدنيا، فقد كان طالب السهيل يحمل سراً كبيراً، ومع انه كان يوزع أيامه بين بناته وبيته وبين المحبة والكرم والشهامة والطيب والعطاء، فقد كان يعطي للعراق الذي يحلم من روحه الكثير، حتى صار جزء من نيسان العراق القادم .
(أما سمعت الكلام
من باطن الأرض ؟
حطم قيودك وأمض
للشمس، للأعلى
للعالم الأحلى
ففي ثراي أندثرت أزاهر الدفلى
تنتظر الربيع في نيسان
أقوى من الموت ومن مصائر الفناء
يداه شاطئان ممتدان
وجرحه بوابة تفضي الى السماء
أما سمعت الكلام ؟
من أمنا الأرض التي لاتموت :
في باطني الكنز الذي خبأته
على مدى الأيام والأعوام
لاالدرة، لاالياقوتة
لكنه العز الذي يعفر الجباه
لأنني قبضة نار يصطلي بها
الأنام
لأنني الحياة
في باطني الميلاد والممات
والوعد والوعيد
في باطني الشهيد)
ومابين بيروت وبغداد توزع الشاعرة محبتها الى عمان تلك المدينة الغافية بين جبالها السبعة كأنها الأسطورة، ولكونها مولودة في عمان، فهي مسكونة بتلالها وذكرياتها وأصدقاء طفولتها، فأن للمكان قدسية في كلمات القصائد.
(اينما كنت وكان المكان
أتوق أليك ياعمان)
اما مصر التي تعتبرها صنو بغداد النابتة في روحها وهي الظهير ونور العين، تنتقل الى بغداد الجنة التي يضللها سعف النخيل وقباب الذهب ويبللها رذاذ الماء الذي يطرز خاصرتها وغابة النخيل ساعة السحر التي رسمها السياب والمرسوم فوق غيومها قصائد الجواهري
( ذات يوم تراءى لي الجواهري
فقلت ياجواهري.. يا ايها المهاب
ياجدي العجوز أنت جربت العذاب
ولوعة المنفى وتبديـل الصحاب
فقال لها الجواهري :
لاأريد النأي اني حامل في الصدر نايا
عازفاً آنا فآنا بالأماني والشكايــا
البلايا انطقته سامح الله البلايـــا
فقالت للجواهري :
قلت ياجدي تمهل أن في صدري حكايـا
قد عراني الهم حتى صرت استجدي المنايا
أنت ياجدي خبير بالمنافي والرزايـــا
ولم يخل ديوان ( دمعة على أعتاب بغداد للشاعرة سارة طالب السهيل ) من قصائد أخرى توزعت بين مونولوج ليلة ميلادي، وعيناي، واعتراف بالحب ، ومناجاة الى جدي الذي لم أراه، ومطروحة في كفني، وكوابيس سعيدة، ورؤى، وجنة الحيوان، ورقصة ثنائية، ومن يطفيء نور القمر، واذكروني، وقصائد أخرى، غير أنها عادت لتمنح الطفولة جزء لم تستطع إن تتخلى عنه، فقد وظفت أكثر إمكانياتها الأدبية في خدمة الطفولة، واصدرت لهم سلمى والفئران الأربعة ونعمان والأرض الطيبة وليلة الميلاد، وهي بادرة أنسانية ولفتة تعطي مسحة كبيرة لهذه الشريحة التي تناساها العديد من الأدباء بعد أن أشغلتهم الأحداث والتناحر السياسي والديني والطائفي عنهم، لكنهم كانوا في ذاكرة الشاعرة سارة السهيل، وكانت قصيدة ( أذا برز الثعلب ألان ) جمعت بها القصد المزدوج في خدمة الطفولة، الشعر السلس واللذيذ والقصة البسيطة والجميلة والتي تحمل الدلالات والمعاني المتناسبة مع عقول الأطفال ، فتفاعلت مع الحكاية وكانت متألقة في رمزيتها وكلماتها في هذه القصيدة.
ربما تكون هذه القصائد تعبيراً عن تخطي الشاعرة مرحلة مهمة من مراحل تألقها ونجاحها الثقافي، ومع أنها جمعت القصائد الحديثة التي كتبتها مع خزين كانت تحتفظ به خلال رحيلها في محطات الغربة، الا أنها راعت التوازن الشعري في قضايا الحياة المختلفة، ويقينا كما يقول الناشر أنها جمعت بين صدق الحياة وصدق الفن.
وسارة التي حرمها النظام السياسي البائد في العراق من أعز رفيق وصديق حيث كانت متعلقة بأبيها الشهيد الجليل الكبير طالب السهيل، الذي تم اغتياله في بيروت في نيسان 1994، لمواقفه السياسية المعارضة لذلك النظام، فقد وظفت الشاعرة سارة تلك الأحاسيس توظيفاً ينشط ذاكرتها ويستعيد معها صور الماضي البعيد القريب، غير أنها تمكنت بجدارة أن تبقيه حاضراً في ساحتها، قلباً طهوراً وفراتاً يفيض بالمحبة وليل يتموج كشعر وسحر ووشم وعشق كلها في قصيدتها مناجاة الى جدي الذي لم أراه، لكنها استطاعت أن تحضره وتحيله نهراً وعشقاً وعزاً وغيماً وسراً وحلماً وبعد كل هذا تحيله الى وطن.
في قصائد الشاعرة سارة السهيل زوارق ومسافات وحكايات ونوارس ونجوم تشع باستمرار لكنها جميعاً نابعة من محنة الروح التي نشترك بها معها.