طبعة جديدة من في الشعر الجاهلي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
القاهرة من سعد القرش (رويترز) - في كتابه "في الشعر الجاهلي" قال عميد الادب العربي الدكتور طه حسين قبل 80 عاما "نحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين" كأنه يتنبأ بأن يظل الكتاب موضع مناقشة كما تسجل ذلك طبعة جديدة بمقدمة اضافية لناقد مصري بارز. ويبدو الكتاب الان كأنه سياحة ذهنية في التاريخ واللغة والشعر والاديان والاساطير. كما يشير تقرير النيابة بعد التحقيق مع المؤلف الى سعة أفق وتسامح بعيدا عن استسهال توجيه الاتهامات لكتاب يؤرخ في الدراسات النقدية الحديثة بما قبله وما بعده. ورغم انقضاء سنوات على صدوره لاول مرة فان الناقد المصري عبد المنعم تليمة يرى أن أهمية هذا الكتاب "الباقي" هو أن مؤلفه الذي رحل في مثل هذه الايام قبل 33 عاما تصدى لمحاور كبرى في التاريخ العربي والادبي بعيدا عن التواتر الاسطوري والغيبي من خلال ثلاثة محاور هي.. من العرب وما تاريخهم وما تاريخ لغتهم وأنه في اجابته عن الاسئلة الثلاثة كان واعيا بفلسفة التاريخ وعلوم اللغة والتعامل مع النصوص. وأشار الى أن في الكتاب مادة صالحة لبيان سبل النهوض وتحرير العقل والاصلاح الثقافي.
وتقع الطبعة الجديدة من الكتاب في 292 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار رؤية بالقاهرة وأدى الكتاب الذي صدر لاول مرة عام 1926 الى مثول مؤلفه للتحقيق الذي حفظ في النهاية. وفي العام التالي أعيد نشر الكتاب بعد حذف بعض سطوره مع تغيير عنوانه الذي أصبح (في الادب الجاهلي).
كان العميد (1889 - 1973) في فورة الشباب والحماسة لما يؤمن به حين لم يطمئن الى ما استقر عليه الاقدمون فنفى أن يكون معظم الشعر الجاهلي كتب في عصر ما قبل الاسلام مشددا على أن هذا الشعر لا يمثل الحياة الدينية والعقلية واللغوية للعرب. وقال "شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك أو قل ألح علي الشك فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر حتى انتهى بي هذا كله الى شيء ان لم يكن يقينا فهو قريب من اليقين ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وانما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الاسلام فهي اسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر ما تمثل حياة الجاهليين...ان ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة (بن العبد) أو عمرو بن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء في شيء وانما هو انتحال الرواة واختلاق الاعراب."
ويخلص حسين في "هذه النظرية الخطرة" على حد وصفه الى أن القران هو الذي الاكثر دقة في تصوير ملامح العصر الجاهلي نافيا أن يكون الشعر الذي يسمي بالجاهلي من الوجهة اللغوية والفنية "قيل أو أذيع قبل أن يظهر القران. لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القران وتأويل الحديث وانما ينبغي أن يستشهد بالقران والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله... القران أصدق مراة للحياة الجاهلية." وفي تقسيم الرواة واللغويين للعرب يفرقون بين العاربة وهم القحطانية في اليمن والمستعربة وهم العدنانية في الحجاز "وقد اكتسبوا العربية اكتسابا" وهم أبناء النبي اسماعيل بن ابراهيم.
ولعل ما استوقف معارضي العميد وهز معتقداتهم الدينية جملة شهيرة قال فيها "للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل وللقران أن يحدثناعنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقران لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها."
ورأى أن لغة قريش ولهجتها سادت في منطقة الحجاز قبيل الاسلام "حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل الى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الاجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية" مشيرا الى أن الاسلام ساهم بقدر كبير في فرض لغة عامة واحدة هي لغة قريش وتعميمها على العرب.
وقال ان معظم الشعر الجاهلي ضاع بسبب عدم تدوينه وبعد قتل كثير من رواته في الحروب كان بنو أمية في حاجة الى الشعر "تقدمه وقودا للعصبية المضطرمة فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء." واستشهد بكتب تراثية منها (طبقات الشعراء) الذي قال مؤلفه محمد بن سلام ان قريشا كانت أقل العرب شعرا في الجاهلية "فاضطرها ذلك الى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الاسلام."
وكان حسين أول من حصل على درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914 قبل أن يذهب في العام نفسه الى فرنسا لدراسة العلوم الاجتماعية والفلسفية وينال درجة الدكتوراه عام 1918 في الفلسفة الاجتماعية لمؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون من جامعة السوربون. ثم تولى تدريس التاريخ والادب بالجامعة المصرية منذ عام 1919 الى أن عين عميدا لكلية الاداب بجامعة فؤاد الاول (القاهرة) عام 1930.
وقال تليمة وهو أستاذ للأدب العربي بجامعة القاهرة إن خصوم العميد رأوا أن دعوته إلى إثارة مسألة الانتحال في الشعر تزلزل قاعدة ثقافية مهمة "ويمكن أن تنسحب إلى موروثات عزيزة فتضعها موضع الريبة والإبهام والإنكار." وأضاف في المقدمة التي بلغت 45 صفحة أن الشك في بعض الشعر الجاهلي يعود إلى القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي) حيث تحرج ابن هشام كاتب سيرة النبي محمد من قبول بعض روايات ابن إسحق لأشعار منسوبة إلى السابقين. كما أشار إلى تنبيه مؤرخين آخرين إلى أن بعض القبائل وضعت شعرا نسبته إلى شعرائها الجاهليين أداة في صراعها مع قبائل أخرى بعد الإسلام.
وقال إن للمستشرقين دورا في إثارة قضية الانتحال مشيرا إلى أن صمويل مرجليوث (1885 - 1940) نشر عام 1925 -قبل عام واحد من كتاب العميد- نشر مقالا ذهب فيه إلى أن "القرآن الكريم هو أول نص بلغة عربية موحدة وإلى أن الشعر المنسوب إلى الجاهلية قد جاء بهذه اللغة فهو إذن موضوع بعد الإسلام ولو كان جاهليا لجاء بتلك اللهجات واللغات المختلفة التي كانت سائدة بين العرب قبل القرآن الكريم.
"ونص مرجليوث على أن الإسلام كره الشعر فأهمل المسلمون الشاعر الجاهلي المعبر عنه حتى نسوه. ونص أيضا على أن الإسلام ضد الوثنية فأهمل المسلمون الشعر الجاهلي المعبر عنها حتى نسوه. وما ينسب إلى الجاهلية بعد ذلك قد وضع بعد الإسلام وضعا. وبدهي أن طه حسين قد قرأ عمل المستشرقين في هذا الشأن."
ومن قراءته لنتائج دراسات حديثة في التاريخ والأجناس وعلوم اللغة يرى تليمة أن السنوات التي تلت صدور هذا الكتاب أوضحت أمورا جديدة منها أن شبه الجزيرة العربية شهدت في القرون القليلة السابقة على بعثة النبي محمد لغة موحدة أعلى من اللهجات القبلية وهي لغة الإبداع والتعامل الاجتماعي والديني والتجاري المشترك "وعندما نزل القرآن الكريم كان النبي يرسل القراء والرسل والمعلمين إلى جميع القبائل ولم تنهض صعوبة تلق وفهم عند أحد من أبناء تلك القبائل شمالية وجنوبية بل تلقاه العرب أجمعين واضحا مفهوما. "صار الأمر إلى لغة واحدة وبقي التعدد اللهجي فهذا شأن اللغات جميعا."
وقال إنه في القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي) جمع الرواة اللغة العربية بمعيار القرب من لغة القرآن وأهملوا لهجات كثيرة وضيقت وجهة نظرهم في جمع تلك المواد من مدى اللغة العربية وتاريخ العرب "وحصرت العربية في نقاوة مثالية مجردة وحصر الأدب العربي في هذا الضرب من الشعر الغنائي الذي نعرفه" مشيرا إلى أن تلك الموروثات التي أهملها الحس المحافظ واستعلى عليها وجدت مسالكها إلى أشكال عربية موروثة القصص والسير والملاحم. وأضاف "ولم يعتد أصحاب ذلك الحس المحافظ بكل ذلك بل وصفوا تلك الآثار الفنية بالإقليمية والمحلية والعامية والشعبية" لافتا النظر إلى أن الأدب العربي الموروث محصور في الشعر الغنائي وصور النثر "الفقيرة" في حين تتسع مادة الأدب العربي في رأيه لتشمل كل النصوص الدينية والأسطورية والملحمية القديمة.
وتضمن الكتاب تقريرا "شجاعا" كتبه رئيس نيابة مصر محمد نور الذي يعتبره كثيرون الآن أكثر استنارة من بعض رجال الدين الإسلامي ورموز الليبرالية المعاصرين لأزمة الكتاب ومؤلفه. وبدأت الأزمة يوم 30 مايو ايار 1926 حين تقدم "الشيخ" خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ للنائب العمومي يتهم فيه كتاب (في الشعر الجاهلي) بأنه "طعن صريح في القرآن العظيم" ثم أرسل شيخ الجامع الأزهر يوم 5 يونيو حزيران بلاغا للجهة نفسها به تقرير رفعه علماء الأزهر الذين اعتبروا الكتاب طعنا في القرآن والنبي محمد.
ويعد التقرير الذي يقع في 40 صفحة وثيقة علمية وتاريخية ودليلا على سعة صدر رئيس النيابة الذي لم يبادر إلى التشكيك في نية المؤلف أو دينه فلم يتهمه بالكفر مثلا بل كان ندا علميا له إذ سعى إلى تحليل الكتاب وتفنيده أيضا. ولم تنتقص الأسئلة الموجهة إلى المؤلف من قدره ومكانته فلا يخلو أي منها من كلمة "حضرتكم" كما لم يشر رئيس النيابة إلى حسين باعتباره متهما بل يقول دائما "الأستاذ المؤلف" أو "بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين" وفي الوقت نفسه كان صارما في توجيه اللوم إليه فعلى سبيل المثال يسجل أن المؤلف يتحدث عن أسرة النبي محمد "بعبارة خالية من الاحترام بل وبشكل تهكمي غير لائق ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو."
كما سجل في موضع آخر أن المؤلف "كان سيء التعبير جدا" لكنه أشار إلى أن لكل إنسان حرية الاعتقاد والرأي والإعراب عنه قولا وكتابة "فيجب لمعاقبة المؤلف أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه... ولا بد هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل وما يتصل بهما مما جاء في القرآن ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث."
وقرر نور "بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر... كان يجب عليه أن يكون حريصا في جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي." كما قرر أيضا أن "للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط في بحثه حتى تخيل إليه حقا مما ليس بحق أو ما لايزال في حاجة إلى إثبات أنه حق" وحفظت أوراق القضية إداريا بتاريخ 30 مارس آذار 1927.