عالم الأدب

الشعر في زمن اللاشعر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


أ. سعيد أراق من أغادير (المغرب): حين اتصل بي "سعيد المباركي" وقدم لي نسخة من ديوان شموع، كان الموقف منفتحا على كل احتمالات المفاجأة والدهشة والتنويه والافتخار. كان ثمة شيء جديد تطفح به نظراته، روح متوقدة آسرة كانت تتلبس مقاسات الإنسان فيه، ولم تكن هذه الروح سوى روح الشعر التي تحولت إلى كلمات ترتقد صفحات هذا الديوان. وكما يتحول الصبي إلى شاب يافع أو يتحول الشاب إلى شيخ جليل، كان سعيد قد تحول في وعيه بذاته، إلى شاعر. وكان عليه أن يفصح عن هويته الجديدة، وأن يشهر ولادته وتطلعه لسبر أغوار شوط الشعر الطويل. فأن تكون شاعرا ليس معناه أن تتأمل ذاتك في إسار من أغلال وظلال، بل معناه أن تشق دربك نحو الحياة، لأن الحياة هي النزل الوارف ، هي المدى الأرحب، وهي القصيدة المشتهاة. الشعر مسار يطوف بصاحبه مدارات الجنان ومفازات الجحيم، والشعر أيضا بوابة من بوابات العبور الموجع نحو الأيام. تحكي لنا الأساطير الإغريقية أن "أورفيوس" كان شاعرا يغني للحب والحياة، كان شعره هو لمسة السحر فيه، هو فتنته المهيبة، وهو طلعته المجللة بوضاءة الفجر وأحزان المساء. عشق "أورفيوس" زوجته " أوغيسيد" لكن الموت حرمه منها، فقرر "أورفيوس" أن يلحق بها في العالم الآخر لكي يحررها ويعيدها إلى الحياة. ومن أجل أن يجتاز بوابة عالم الموتى، كان عليه أن يقنع حارس هذه البوابة واسمه " هاديس" بالسماح له بالدخول إلى عالم الأموات من أجل استعادة زوجته، ولم تكن في يد "أورفيوس" من وسيلة لإقناع "هاديس" سوى سحر الشعر وطراوة الغناء. تأثر "هاديس" تأثرا بالغا بشعر "أورفيوس" وموسيقاه، ومنحه الإذن بإخراج زوجته من الموت إلى الحياة لكن شرط أن لا ينظر خلفه مهما حصل، وإلا ضاعت منه زوجته إلى الأبد. لكن أورفيوس، لم يتمالك نفسه من النظر خلفه لمطالعة وجه زوجته المنبعثة من كمد الموت ورميم اليباب، فكان عقابه أن ضاعت منه زوجته بشكل أبدي ونهائي. فظل الشعر بعد ذلك هو موئل وجعه وملاذ روحه وبلسم آلامه وأساه. هذه الحكاية الأسطورية، ليست حكاية أورفيوس وحده، بل هي حكاية كل الشعراء. إنها حكاية المصير الذي يقدم فيه الشاعر على تحدي الموت من أجل الانبعاث الغض الندي المفعم بشبق الحياة. الشعر محاولة لتكسير طوق الصمت، لأن الصمت مخترع ثقافي ولأن الأصل في الإنسان هو الكلام، ويخبرنا التبريزي في كتابه "شرح المفضليات" أنه حين وقع الشاعر الجاهلي عبد يغوث الحارثي في الأسر نتيجة الحرب التي كانت بين قبيلته بني سعد وقبيلة بني تميم، أراد آسروه أن يوقعوا به أشد أنواع العقاب والتنكيل، فلم يروا له سجنا أقسى من ربط لسانه بخيط نعله لكي لا يقول الشعر، فلم يقو عبد يغوث الحارثي على تحمل ذلك وطلب منهم أن يفكوا لسانه ويقتلوه قتلة كريمة بأن يسقوه خمرا ويقطعوا عروق يده لينزف حتى الموت. والواقع أن مثل هذه الحكايات، تمنح أبعادا رمزية للشاعر، لكن ليس من منظور ثنائية الصواب والخطأ، أو العقل واللاعقل، بل من منظور ثنائية الكلام والصمت والحكمة والجنون. لقد اختار عبد يغوث الحارثي أن يموت بدل أن يُحكم عليه بالصمت والانقطاع عن قول الشعر. لا شيء ينهك الشاعر أكثر من الارتكان إلى صمته المطبق. الشعر احتفال، ولا يستقيم الاحتفال إلا بالجلبة والزغاريد وقرع الطبول. والسؤال إذن هو:لماذا ديوان شموع؟ أي حكمة بالغة أو أي جنون سافر جميل كان وراء إخراج هذا الديوان إلى الحياة والوجود؟ الواقع أن هذا السؤال ظل يلاحقني بدون أن أجد له ردا مقنعا أو جواب. لكن الجميل في ما حصل هو أن هذه التجربة التي خاضها سعيد المباركي وابراهيم أوحسين، تنطوي على قدر كبير من الشجاعة، لأنها تريد لنفسها أن تكون اختراقا وتطلعا إلى إرساء علاقة جديدة مع الذات ومع الآخرين من خلال الشعر وعبره. لذلك فأنا أعتقد أن قراءة هذا الديوان لا ينبغي أن تكون مجرد قراءة أبجدية مفصولة عن روح المبادرة التي كانت سببا في خروج الديوان إلى الوجود. هناك مثل صيني يقول :"أشعل شمعة بدل أن تلعن الظلام"، وما قام به سعيد وأوحسين هو إشعال شمعة بصيغة الجمع، لذلك اختارا لديوانهما أن يحمل عنوان شموع. وهو بالتأكيد عنوان يعلن رمزيا أن الشعر قد يتحول هو أيضا إلى تجربة حياة ومسار تعلم ومجابهة لليأس ومبادرة لتخليص الذات من رهج الظلام واللامبالاة والنسيان. الشعراء يفكرون ويحيون بمنطقهم الخاص، ولولا وجود أشخاص يؤمنون بجدوى الشعر، لما كان للشعر أن يكون. ما يشهده العالم اليوم، يقود إلى موت الشعر وإفلاس الثقافة وتمكن اليأس من النفوس وتراجع روح الإبداع والمبادرة. وحين نرى شابين تلتحم شاعريتهما لإصدار ديوان شعر، فمعنى ذلك أنهما يملكان قدرا كبيرا من الجنون لأنهما يراهنان على الشعر في زمن اللاشعر، لكنه جنون جميل، لأنه بكل بساطة جنون الشعراء.
في يوم من الأيام، تلقى الشاعر النمساوي المشهور راينار ماريا ريلك Rainer Maria Rilke ، مجموعة قصائد من شاعر مبتدئ يسمىKappus. وكان هذا الأخير قد كتب هذه القصائد وفكر في إرسالها إلى "ماريا ريلك" من أجل أن يوجهه ويبدي رأيه فيها. فكان ذلك بداية لمراسلة امتدت من سنة 1903 إلى سنة 1908. ثم تم تجميع هذه الرسائل في كتاب يحمل عنوان Lettres agrave; un jeune poete. وفي هذه الرسائل، يتوجه ماريا ريلك إلى "كابي"، ليحدثه عن تصوره للشعر ويوجهه نحو ما ينبغي أن يلتزم به شاعر مبتدئ مثله. يرى "ريلك" أن أول شروط الخوض في غمار الكتابة الشعرية، هو ثقة الشاعر في شخصيته الداخلية واندفاعاته الباطنية. على الشاعر أن يقبل العيش في الوحدة التي تترتب عن متطلبات الإبداع. وعليه أيضا أن يعود نفسه على الاقتراب من الطبيعة وأن يهتم بالحقيقة اليومية أكثر من اهتمامه بطرح حلول لـ " القضايا الكبرى "، التي ينبغي أن يؤجل الخوض فيها إلى حين " أن يصبح هو نفسه عالَمًا قائما بذاته". ومعنى هذا أن تطور التجربة الإبداعية للشاعر - حسب رانيا ريلك Rania Rilke- ، ترتبط بمسار خلق الذات والدفع بها نحو معانقة الحياة، لكن مع التزام التواضع والمراهنة على الصبر والمثابرة.
وإذًا في صلب كل اختراق أو اقتحام، مع مطلع كل قصيدة وخلف صدى كل الكلمات التي تملأ نزل الوجدان، هناك رغبة ثاوية لا تكتمل إلا حين يتحول الحلم إلى أمل، والأمل إلى إيمان، والإيمان إلى عمل نرتاد على هامته مطاف الحياة لنجابه أنفسنا ونشاكس أشياء هذا العالم. لمن ينشد الشعراء؟ هل ما زال في الحياة متسع لكل هذا الشعر؟هل ما زال بالإمكان أفضل مما كان؟. لقد قال نزار قباني: " أن يكون الإنسان شاعرا في الوطن العربي ليس معجزة، بل المعجزة أن لا يكون ". وإذن ما هو حد الكينونة في ديوان شموع؟ هل هي كينونة بصيغة المفرد أم هي كينونة بصيغة "سعيد" و"أوحسين"؟. لقد قال العرب قديما: " ليس للنفس من مُسْكِرٍ كالثناء ". لذلك لن أكثر من الإطراء، لكني أريد أن أقول أن قصائد هذا الديوان، بداية قد تقود إلى غرة اكتمال أو مدرج إقلاع نحو الأبعد والأرحب. فالشاعر يولد مع بداية كل ديوان أو مطلع كل قصيدة، والدياجي تنزاح كلما تتابعت مواسم الهجرة نحو الشعر عبر ضوء الشموع وطقوس الكتابة. ولسان الشاعر دوما يقول: أيها الشعر بيني وبينك الأيام. وياأيها الناس غطست عميقا في يم الحياة وأتيتكم بما لا تعلمون. أما القول الفصل يا أصدقائي، فهو ما قاله نزار وهو في مقام تأبين الذات والتنكر لحب النساء:
لا تطلبي مني حساب حياتي
إن الحديث يطول يامولاتي
كل العصور أنا بها فكأنما
عمري ملايين من السنوات
[... ]
أنا عاجز من عشق أي نملة
عن عشق أي حصاة
مارست ألف عبادة وعبادة
فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
فمك المطيب لا يحل قضيتي
فقضيتي في دفتري ودواتي
كل الدروب أمامنا مسدودة
وخلاصنا في الرسم بالكلمات. /.

فهل الشعر فعلا خلاص أم وهم انعتاق؟ هل هو فورة التجلي أم غمرة الانمحاء؟ هل هو السعير المقيم أم الجِنانُ الخَضِرُ الخصيب؟. إنه بالتأكيد هذا وذاك، هو درب ارتحال السندباد، والمغامرة الطويلة المنهِكة لـ"أوليس". هو التدحرج العبثي لصخرة سيزيف، وهو دبيب تأوه الحلاج: "أنا أتألم لأنني إنسان". هو احتفال الروح قبل الرواح، وهو الإشراقة المُطاوِلة لغسق المغيب. وهو فوق كل هذا وذاك، حكاية كل المجانين والحكماء، وكلِّ الشعراء والمبدعين والعشاق، الذين يومنون بضرورة الكتابة "بحق " والكتابة "بصدق " على حد تعبير الكاتب الفرنسي جول رونار Jules Renard (1864-1910).
حين كان الحلم ببناء مجتمع اشتراكي، يراود خيال "ماركس"، قال إن هذا المجتمع لن يكون فيه رسامون، بل سيكون فيه
مجرد أناس يرسمون. وبما أن الأمر يتعلق هنا بالشعر، فهل بالإمكان اعتبار الشعراء الذين يجاهدون من أجل نشر قصيدة أو إصدار ديوان، شعراء أم مجرد أشخاص يكتبون هروبًا من عزلة قاتلة أو تطلعًا إلى انفلات من وطأة الوحدة، أو مراودةً لحلم بعيد المنال، أو إقبارًا للذات في هيكل التعبد بالكلمات وأداء فروض الصلاة بالكتابة؟. هل الشعر مَدْرَجٌ من مدارج السالكين نحو الطفوح بنبض الامتلاء أم هو الهوة السحيقة التي تتردى فيها الذات تلمسا لخلاص أو بحثا عن شبه انعتاق؟. لماذا تتحول تجربة الكتابة إلى نوع من التصوف الحالم بحضرة صَمَدَانِيَةٍ تعانق فيها الذات اكتمالها عبر بوابة الحلم أو غصة القهر أو فورة التمرد أو ذروة الاستسلام؟. إن أي محاولة للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، لهي بداية التورط في مكابدة حلاوة أو مرارة "الجرح والكتابة". ولهذه المكابدة عشاقها الذين يَنْسِلُونَ إليها عبر كل سبيل، ساهرين يأتون إليها، راكبين صهوة الكلمات، ممتقعين بِـلَطَخَاتِ المداد أو إهاب الحزن والحداد، متوشحين بالريشة والأقلام، متلفعين ببياض الأوراق كالمتلفعين بالأكفان. ولهم في ذلك - مثل المتصوفين - مشاهدات ومقامات وأحوال، ولهم في ذلك احتفال.. وجرح.. وجمر.. وشموع.. وتَـَرقٍّ إلى ما كان يسميه "هنري ميشو" بحكمته الحزينة البالغة: الحياة المضادة التي تولد من رحم الكلمات.
فَعِمَا مساءً أيها الشاعران القادمان إلى حياض الشعر مشيا على الأقدام، ولْيَطِبْ لكما المُقام حيث اختارت شموعكما أن تكون. ومَهْمَا تَشَعَّبَتْ بكما سُبل الشعر، وحيثما حللتما وأينما شددتما الرحيل، لكما مني ألف تحية وسلام. وعسى شعركما الذي أتاح هذا اللقاء، يتيح التنعم بموسم شموع آخر.. ذات ديوان جديد. متمنياتي لكما بمسيرة موفقة والسلام.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف