باب الحيرة مونولوج فكري محرك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بيروت من جورج جحا (رويترز): عمل الكاتب الاردني يحيى القيسي "باب الحيرة" يشكل في مجموعه قراءة ممتعة وفي شكل عام كلاما فكريا محركا وان بدا انه أقرب الى مونولوج لشخص واحد لا يتغير صوته ولو اتخذ من شخصيات أخرى ألسنة ووجوها يختبيء خلفها. في الكتاب الذي وصف بانه رواية نلتقي افكارا وحالات مألوفة وشخصيات يحملها الينا كلام الكاتب من الموروث الفكري والادبي القديم ومن عالم عصرنا الحالي ايضا وذلك عمدا او عن غير تعمد.
في عمل القيسي نلتقي "حواء" معاصرة ونلتقي شهزاد كما بدت لتوفيق الحكيم. ونعيش مع الكاتب حالات من "صوفية" مختلفة واشراقية خاصة.. وكذلك حيرة الامام الغزالي وضياعه في بحثه عن اليقين قبل ان يبعث الله في قلبه نورا يهديه.الا أن هداية بطل القيسي تأتي في شكل مختلف.. اذ جاء عبوره الى اطمئنان القلب والعقل عبر امرأة لا نعرف في نهاية الامر اذا كانت حقيقية "صنعت" من بطل الرواية شخصا جديدا.. ام انها من نسج خياله وقد "صنعها هو لتعود هي فتصنعه. باختصار ..هل كان خلاصه عبر امرأة حقيقية مدت اليه يد الانقاذ ام انه صنعها وسط وحشته ووحدته لينقذ به نفسه. وفي الحالين تبقى المرأة عنده.. رمز خلاص. لغة القيسي تحمل كثيرا من جيد القديم.. تركيبا ومفردات وايقاعا حتى حين تنهال علينا بمصطلحات ايامنا في الفلسفة بشكل خاص.. وفي السياسة والاجتماع. وصوته وافكاره تسيطر على الرواية وان دفع الى مسارحها شخصيات اخرى.
وردت الرواية في مئة صفحة متوسطة القطع وصدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" وبلوحة غلاف للفنان زهير ابو شايب.
اتخذ عمل القيسي شكل روائيا دون شك لكن هذا الشكل الروائي لم يتجاوز "الشكل"..وهو هنا يشبه اعمالا تتخذ من عملية السرد مركبا يحمل الى القارىء افكارا ومواقف.
وعلى رغم كل مظاهر وسمات عالمنا الحديث في الرواية.. فاعتبارنا هذا العمل رواية بالمفهوم الحديث هو من نوع اعتبارنا اعمالا.. منها "حي بن يقظان" مثلا.. رواية حديثة.
البطل اردني يدرس في تونس وبين تونس وفرنسا وبلدان عربية.. تمر مشكلات واحوال فردية واحوال واوضاع عامة انسانية وقومية.. التاريخ والاندلس.. والحروب العربية الاسرائيلية.. وامور الحرية والمساواة والرجل والمراة والشرق والغرب.. والجنس وغيرها.
ومع ذلك فالكاتب مصر على التمسك بحبل صوفي يشير الى ما هو ابعد من الكلمات. قبل البداية نقرأ قولا للحلاج هو "من لم يقف على اشاراتنا لم ترشده عباراتنا."
القيسي في كتابته النثرية هو اقرب الى الشعر مما يكتبه في مجالات اخرى على نمط شعري. الاستهلال ابتهالي جاء اقرب الى السجع وحمل عنوانا هو "اغفر لي يا رب" وفيه يقول ما سيظهر للعوام (في هذا الكلام) من اضاليل وزندقات (و احابيل ولعنات) سامحهم على تفرقهم (بعيدا عنك) في مدارات الحيرة (بين الشرائع والديانات) والسنن والعبادات (علمني الصبر) وتشرب الحكمة (وعلمهم النجاة من الجهل وسؤ التدبير." اسلوب كتابة القيسي يتسم "بعراقة" ونفس على كتابة فيه مع حركيته وايحاءاته وموسيقاه.. كلاسيكية وسمات بلاغة تذكر بكثير من الغابر الجيد. يحمل الينا ما يذكر بالامام الغزالي. يقول مثلا "فقد اوشكت على شفا الهلاك من قوة الاسرار وضعف البدن وتشتت النفس وما لي قدرة على البوح غير خط هذه الاوراق حتى اتخفف من ثقل الاحمال عسى يأتي يوم بعد مفارقتي لهذه الحال."
قدرته القصصية "وصفا وسردا" جيدة كما نقرأ في البداية مثلا "كنت أسير في شارع الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاة وابواق السيارات ورنين المترو وصليل عجلاته على قضبان الحديد ورفرفة العصافير على الاشجار التي تتوسط الشارع وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات.." وفي جوه الغزالي هذا.. وان سار في اتجاه مناقض لسير الامام الكبير.. يشرح لنا وبكثير من الرمز فضل "هاديا" عليه فيقول "حدثت هاديا عن عوالمي الصغيرة التي كبرت وعن تلك الافكار التي تسربت عبر الكتب والنقاشات فيما بعد فاجتاحت كياني وجعلتني استيقظ ذات صباح وقد اشرق قلبي بالخواء.
"استغربت هاديا وصفي ذلك بالاشراق وحرت كيف اشرح لامراة مثلها تلك الحالة التي استيقظت عليها بالضبط وقد تخلصت من عبء عظيم فلا عقاب ولا حساب بعد اليوم ولا جنة اطمع اليها ولا نار ارتعد من خشيتها.. ورأيتك يا هاديا تأتين وبيدك شمعة وانت تقولين لي (تعال يا قيس معي.. آن اوان الخروج)."
ونتذكر وصف الحكيم لشهرزاد عبر شهريار الذي خافها والذي حار كيف يمكن لفتاة مثلها لم تخرج الى العالم ان تعرف كل اسرار الاشياء فكأنها هي الطبيعة نفسها فهي ليست مجرد عقل وجسد وهي اكثر من مجرد امراة واحدة.
نقرأ "وسألتها بشيء من الاستفزاز.. من أين لك كل هذه العلوم وانا اعرف ان جامعة الزيتونة للشريعة واصول الدين لا تعلم مثل هذا الكلام.. لكنك.. لغز محير احيانا لا اعرفك البتة كأنك سواك.. كأنك نساء عديدات مجموعات في واحدة وقادمات من بلاد شتى."