عالم الأدب

حمامة باتريك زوسكيد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عن الواقع ونظيره

بعد نجاح منقطع النظير لعمله الروائي الغرائبي (العطر) حاز الكاتب الالماني باتريك زوسكيند على شهرة عالمية واسعة في اوساط القراء، وضعته بجوار عدد من الروائيين المرموقين في عالم الادب امثال: كونديرا، لوكيلزيو، ماركيز، غالا، كويلهو واخرين. ولد هذا الروائي الشاب في مدينة امباخ 1949، درس التاريخ في ميونخ وفرنسا وتنقل عمله بين التجارة والصحافة والكتابة للتلفاز. وقد اظهر اهتماما مبكرا بكتابة القصة القصيرة التي احب عوالمها الخيالية الغريبة. حصل عام 1987 على جائزة " غوتنبرغ " لصالون الكتاب الفرانكوفوني السابع في باريس، ويعيش الآن بين باريس، وميونيخ، متفرغاً للكتابة.عرف من اعماله الاولى مسرحية ذات فصل واحد تسمى (الكونترباص) عدت من اشهر العروض على خشبات المسرح الالماني، كذلك (حكاية السيد زومر) والمعركة وقصص اخرى، وروايته القصيرة (الحمامة) الصادرة عام 1999 عن دار ورد في سوريا بترجمة عدنان عبد السلام ابو الشامات، والتي نتوجه الى قراءتها هنا في سياق كشف براهين الخيال الروائي.
لنا ان يرى في رواية (الحمامة) حكاية صغيرة، مدهشة وبليغة، ترتكز على حدث رمزي طريف، يتلخص في المغزى البعيد للانقلاب المفاجيء في حياة حارس البنك الباريسي (جوناثان نويل) لدى ظهور الحمامة في يوم حار من ايام شهر آب 1984. وقد يحبذ البعض مواصلة الوصف المختزل للحكاية المفجعة بالقول: ان نويل الذي تعدى الخمسين من عمره، وهو يعيش منعزلا ووحيدا على هامش حياة بسيطة ومتقشفة، قضى منها عشرين عاما خلت من اية احداث، لم يتصور يوما ان يحدث له في حياته أي شي ذي اهمية، فهو على الدوام حارس البنك الباريسي العتيق الذي اعتاد رتابة حياته اليومية داخل غرفة صغيرة على السطح في احدى العمارات المهملة. يكره الفوضى التي يمكن ان تهدد كيانه، ويرى ان الفائدة الوحيدة لعمله الوضيع تكمن في دعة الشعور بالاستقرار والهدوء النفسي. لكن (نويل) هذا يصبح بين ليلة وضحاها رجلا مذهولا ومرعوبا ومشردا بسبب الحضور العبثي لتلك الحمامة، حينما تستقر بجوار باب شقته، وتهيمن بعينيها العاريتين وريشها المنسدل على ضفاف وجوده، مهددة بلامبالاة جسيمة حياته واتزانه وهدوءه ذاك.
انها بالتاكيد حكاية مؤثرة لعمل روائي يراهن على شفافية التلقي وعفويته، ككل الاعمال الروائية الكبيرة التي تبنى على خرافة ما قابلة للتصديق. إلا ان التركيز على غرابة الحكاية بمعزل عن ادراك خيارات النص الاسلوبية في سرد مادته الروائية وتوصيلها بحساسية فائقة، ينبغي ان لا يدفعنا لقراءة النص بشكل مجازي كليا، لان ذلك قد يفقدنا - في المقابل - فرصة استكناه الابعاد الدلالية الاخرى لسياق العمل الابداعي والوقوف على تجليات النص الروائي بابهى صوره.
من المناسب القول ان زوسكيند الذي تفوق في رواية (العطر) ينجح هنا في سبك عمل روائي جميل يقرأ دفعة واحدة دونما توقف، ولا يبدو الكاتب في العملين مهتما بحرث الطريق امام القراء من اجل ان يتسنى لهم تقبل غرابة حكاياته، ولا حتى منشغلا بازالة العقبات المحتملة لتراث الواقعية الاصيلة المغروس فينا عبر طرائق وتجارب مختلفة لتوجيه النص وجهة محددة. وقد يجوز مثل ذلك بسبب اعتقاد الكاتب انه روائي شديد الموهبة لدى تناوله هموم الفرد المعاصر في قصص اقل ما يقال عنها انها تحقق استجابة عالية، بوصفها الاستعمال المجازي المتقن الذي ينحو الى اتخاذ اشكال غريبة تنطوي على دلالات ضمنية تلهم خيال القراء وتعزز حرية تاويلاتهم لما يتلقون. وربما يصح الافتراض: ان الرغبة في تلقي الحكاية الخيالية بكامل معانيها والتعاطي السحري معها، يشير الى قدم هذا النظام التعبيري الذي تقيم عناصره وشائج قوية ومتبادلة، غالبا ما تكون غنية بالايحاءات والتداعيات والاوهام الجذابة، خاصة مع التصور الذي يرى في طبيعة الاساليب الكتابية نوعا من صيرورة بنيوية ما انفكت تتسع وتتغير وتوظف داخل عالم يتطور ويتعقد وينحرف بالوعي نحو افتتان متباين نسبيا يحدد بالتلقي الشعري لمآساة العالم، صعودا او هبوطا.
هكذا يمكننا ان نرى كيف تمكن زوسكيند وبصفحات قليلة من صنع حكاية فريدة، مكتملة التاثير يصعب نسيانها طالما يتم استيعابها ككابوس يهدد الاستقرار الواهم لحياتنا الخاوية. ومهما حاولنا الاعتقاد ان (حوناثان نويل) مجرد رجل عادي ذو حظ عاثر لا يشبهنا في شيء مطلقا، فان اطياف قصته المريرة تسجل في خيالنا صورة دالة عما نخفيه. اما (نويل) نفسه فهو مؤكد اقدر الناس على التحدث بأسى عن ذاته المتلهفة لمتعة عابرة او ذكرى جميلة تخفف شيئا من احساس الاكتئاب والوحشة والذكريات الباردة التي تصنعها المدن الكبيرة. رغم ذلك وبسببه لا يكترث حارس البنك لكل ما يحتضر وجعا تحت سطح المألوف واليومي، بقدر انشغاله بتمرير لحظة حياتية هادئة من ثقب صخب العالم الخارجي، بعيدا عن دويه المفزع.
ان رواية عصرنا تدفعنا الى البحث عن حل الاحجية فيما وراء السببية الظاهرة التي تمتزج بشيء من التشويش والتمويه الحلمي المتعمد الذي يقترب احيانا من مرتبة التصعيد الغرائبي والفنتازي. لذا تصبح قضية استعادة الحياة بشكلها السابق امرا مستحيلا في هذا النمط من الاعمال الروائية. وكلنا يتذكر هنا رواية (المسخ) لكافكا - مع امكانية مقارنتها مع الحمامة - التي تعد نموذجا للفنتازيا الموضوعية المبنية وفقا لنظام لغوي ودلالي صارم يشبه عملية نصب للكمائن للقارئ، بدءا من تقبل الصدمة وانتهاءا باعتياد الحدث بلا ادنى احتجاج. يمكننا القول - بمعنى اشمل - ان (غريغوري سامسا) عندما افاق ليجد نفسه قد تحول الى حشرة مقززة، وضعنا كقراء امام حلم مرعب هو ذاته طيف الواقع الجديد منزوع الخيارات، فيما سحبنا (نويل) صوب جهة اخرى يبدو فيها ذلك الواقع كابوسا مزعجا لا فكاك منه، يعمل الخيال الروائي فيه على توليد الافكار بمهارة ودقة تُسلّمنا الى حدس الخوف من الالتحاق بالنهايات والمصائر، تحديدا في قذفنا الى رعب محتمل تتداخل في ثناياه صورة الواقع ونظيره. وكلما تصورنا ان مصير جوناثان نويل بات نهائيا وميؤوسا منه، زاد اعتقادنا بلا معقولية هذه الحياة وبالجنون المتربص بها ابدا.
بحال من الاحوال يبقى انجاز الفن الروائي رهن قدرته على اختبار صدق الفكرة التي تذهب الى اعتبار ان حياة الكائن مأساة عظمى يمكن روايتها مرارا، فاذا استطعنا اكتشافها ورؤيتها كحقيقة ابدية غير مبتذلة اقتربنا بامان ناحية اكثر دلائل الابداع حضورا وتاثيرا ومتعة.
لكننا نتساءل عقب استنشاق رحيق الرواية هذه: هل ستكون نهاية العالم مزحة مؤوَلة، طريفة او ثقيلة، كتلك التي تبلغها رواية اليوم؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف