الصور التي تثبت أزمنة اللذة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"نادرا ما نتذكر شيخوختنا" (من ملصق إشهاري في المترو)
عبد الله كرمون من باريس: تَأتّى كتاب أني إرنو حول "استعمال الصورة" من مفصل الحب ضد الموت وإرداف الألم دائما لتدفق الحياة. الكتاب الذي أنجزته رفقة مارك ماري وأصدرته لدى غاليمار سنة 2005. لايخفى على أي متتبع للمشهد الثقافي بفرنسا موقع أني إرنو ضمن كل وجوهه المتعددة والمتباينة، اهتماما وإجادة وأجيالا، وذلك منذ روايتها
ثمة كتاب كثيرون وكاتبات كثيرات أبدوا في الأول التماعة إبداع سرعان ما تنطفئ. إذ ينخرط الواحد منهم في إسهال يرغم فيه نفسه على أن يبيض كتابا أو حتى اثنين في كل سنة. ومن تم تختفي حتى تلك الشرارة التي خلنا كونها في الأصل، رغم علاتها، بشرى خلق أصيل. ذلك لأنهم ولأنهن، لم يمنح أحدهم الفرصة لنفسه كي تنضج تأملاته ويعلو وعي العالم المتشظي لديهم كي يحجب ويفسخ تلك النرجسية التافهة لأن يكون المرء كاتبا، إذ يتحولون بعد ذلك إلى موظفين تربطهم بدور النشر، في أخبث العلائق التجارية، عقدة إصدار كتاب كل سنة. ليس يسهل بالتالي العثور على كتاب جيد وعميق في كل التراكم الذي تشهده المواسم الثقافية بباريس.
تلتقي أني إرنو في كثير من المناحي مع ألينا ريس (التي ترجم لها الشاعر المغربي محمود عبد الغني مؤخرا رواية، ليس فيها في الحقيقة ما يستحق عناء ترجمتها!) وكاترين ميليه وغيرهن. ذلك أن هاجس الحديث عن الحياة الجنسية الحميمية مهم وقاسم مشترك بين هذه الكاتبات وغيرهن مثل كريستين أوربون وكريستين أنغو ونينا بوراوي الجزائرية الأصل والحائزة على رونودو العام الماضي. غير أني لا أجد الحديث عن الجنس مهم في ذاته ومثير كيفما اتفق وإنما هو من أهم الموضوعات التي قد تنطلق منها فلسفة أكثر عمقا وثراء عن سائر ثيمات العالم الأخرى.
لست أرغب أن أتحدث الآن عن كل هذا المشهد المترامي ولا أن أخصص مجالا للحديث عن أعمال أني إرنو كلها وإنما شئت أن أتناول قليلا كتابها الذي تتناسل فيه النصوص مع الصور، نصوص تكتبها بنفسها ويكتبها في الجهة المقابلة أو الملاصقة والمطابقة مرافقها لزمن الكتابة والتقاطها مارك أني.
نشأ كتاب "استعمال الصورة" من رغبة سرية وملتبسة لدى أني في الوقت نفسه الذي شهد فيه مارك عينه نفس الإيحاء بالأمر. لست ألمح هنا إلى صناعة الكتاب وإنما إلى تكييف ذلك المعيش الذي احتواه فيما بعد وأسره في خلود بلا نظير.
قصة الكتاب لا تخلو من معنى سريالي ما مضبوط بواقعية واعية لجدوى احتواء ذلك الزمن السلس في قالب ليس يفضي إلى نسيان ومضيّ ما.
في زمن سابق لاحظت أَني إرنو أنها كلما تشابكت حواسها مع عشيقها مارك إلا وتناثرت ثيابهما، بما فيها الداخلية على الأرضية أو سهوا حيث قد لا نرسلها لو لم تأخذنا تلك الرعشة المباغتة. منظر تلك الثياب، التي تجمع بعد ممارسة الجنس بقليل جعل الطرفين يلاحظان بأن ثمة شيئا ما يتحطم وينكسر في ذلك التنظيم والتنضيد الذي يأتي مباشرة بعد النكاح.
باح كل واحد منهما للآخر بالرغبة التي ألحت عليهما على انفراد بأن الفوضى التي يخلقها هيجان ما قبل الوقوع في جوف الجنس، بما فيها التعري وعدم إتيان أي اعتبار آخر مهما كان للعالم المحيط بذوات فوران بعد ذلك، يلزم أن تلتقط في صور وتختزن في شريط يضمن لها الدوام. بعد كل ممارسة أو مداعبة أو تعرّ ما يلتقط مارك أني الصور إذ نادرا ما تلتقطها أني إرنو ذلك لأنها لا تتقن جيدا فن التصوير مثلما هو حال رفيقها.
بعد ذلك راح الاثنان يلتقطان كل مرة صور حميميتهما وصور ما ينتج عن تعريهما وذوبانهما في نار اللذة والجنس والتلاشي الصوفي المقلوب إلى الخلف تحت ثقل حرارة الجسدين. أمر مهم هو أن ثمة ميثاقا تم إبرامه فيما بينهما. فالذي يتكفل منهما بتحميض الصور في المختبر وحملها إلى البيت عليه أن يأنف من رؤيتها. مشاهدة تلك الصور يلزم أن تكون جماعية ومشتركة مثلما كان أصل الشيء سليل لذتهما معا. بعد ذلك تماما ولدت لهما فكرة أخرى. هذه الصور كلها تختزل ثراء عاطفيا، فنيا وتاريخيا كبيرا. قد نسميها اختزال قصتهما، حبا أو عائلة أو نزوات عبور عميقة. لتكتب هي وعاشقها عن تلك الصور ليس كلها وإنما عن حوالي أربعة بعد العشرة منها. ميثاق آخر تفرضه طبيعة المهمة التي ليست باليسيرة لديهما. ذلك أن كل منهما يكتب في ركن دون أن يطلع الأخر أبدا على أغراض مرافقه.
كتبت أني إرنو في البدء ما يلي: "منذ بداية علاقتنا، استيقظ في الغالب صباحا، ويعجبني مرأى المائدة التي ما تزال فوقها بقايا عشاء الأمس، والكراسي التي أزيحت عن أماكنها وملابسنا التي اختلطت ورميت على الأرض كيفما اتفق، أثناء الليلة حيث كنا نمارس الجنس. يتعلق الأمر كل مرة بمنظر مختلف. فإمكانية تدمير ذلك المشهد، بأن يستل كل واحد منا ملابسه ويجمعها يثير غصة في نفسي، ثمة يجعلني أرى بأني أزيل الأثر الموضوعي الوحيد لنشوتنا."(ص.9 ). لذلك راحت أني إرنو تفكر وتحس بأن المضاجعة ليست تكفي لوحدها لذلك يلزم، كما تقول، أن يحتفظ بأثرها المادي، ولذلك استمرا في التقاط الصور حوالي العام لكل ما يتعلق بالمناخ الداخلي لعلاقتهما. تكتب (ص.10): "الأشياء التي تخلص منها جسدانا قضت الليلة في المكان نفسه حيث سقطت في الليلة السالفة. إنها مخلفات حفل ماض. أن نعاود ملاقاتها في ضوء النهار هو أن نعاود الإحساس بالزمن الماضي."
يظهر هَم أني إرنو في كتابها هذا إذن متعلقا أكثر بالرغبة في التشبث بكل هذه الأشياء التي تنفلت سريعا وليس يبقى منها ما يمكن أن نسميه حقيقة واقعة، لذلك يؤكد فعل saisir) ( هذا الأمر الحاد، أليس يبقى إذن من دفء الجنس الذي ينسى وينزوي في لاوعي ما، أليس لا نمسك فيه سوى حقيقة أثره التي نبصرها هنا على الصور؟ (ص.13).
قلت أن ثمة جذرا، لفكرة الكتاب، اتصل بالألم والفقدان، الألم أولا حاصل من كون لقاء إرنو بمارك كان ميقاته أثناء حدوث لوثة المرض اللعين لمنطقة عليا وجميلة في جسد أني: سرطان الثدي. أما الفقدان فلأن كل منهما قد فقد أمه في زمن غير متباعد قبل ذلك. فإذا لم يكن الألم يبتعد قط عن حقول اللذة فإن بؤرة الكتاب ليست تتشكل من معنى الألم المحض على خلاف ما قد يتبادر إلى الذهن في أول الأمر ولكن الكتاب يرغب أن يحيط باللذة الآنية ويستحضر في محاذاتها، في سياج رمزي ما، ذلك الألم الماضي وذلك الخوف الحقيق بهما استشعاره من كون الحقيقة التي يرصعان بها بهاء أيامهما الحاضرة قد تختفي متى أصبح الغد حاضرا والحاضر أمسا أي تلاشيا نهائيا لملذاتهما ما دام لم يستطع أن يقبض عليها سحرٌ ما.
تساقط شعر أني سريعا جراء تأثير التداوي بأشعة الليزر ودأبت على وضع شعر اصطناعي، مثلما تحولت عانتها إلى بستان قاحل وعاد عضوها إلى براءة أيام الطفولة الأولى.
إنها فقط صور ملابسهما، الجينز والقمصان والفساتين والحذاء الذي يدوس رافعة النهد والحزام الذي يجتاز حتى يصل إلى التبان، إنها فقط وحدها التي منحت انطلاقا خاصا لأني إرنو كي تحكي عن ألمها عن السرطان، ما قد يكون من المحتمل أن ترغب عنه. تقول في نص مواز، أن كتبها ليست سوى تحقق الرغبة الجميلة لمعاودة الذهاب إلى كل مناطق وعواصف أيامها الماضية.
"الصور تكذب دائما"، ألم نقرأ هذا في الصفحة 140 من الكتاب؟ ألم تقل أيضا أن نظرها إلى الصور ليس يجعلها تفكر كذلك في اختفاء وغياب جسدها؟ ألم نقرأ كذلك في هذا المقطع ما يلي: "ليس ثمة من شيء من أجسادنا على الصور. لا شيء من الجنس الذي مارسناه. الوضعية اللامرئية. ألم الوضعية اللامرئية. ألم الصورة (...) كل صورة هي ميتافيزيقا." (ص.110).
إن الذي أثارني في "استعمال الصورة" هو بحق استعمال الصورة فيه، وإن جاء في الصفحة 148 ما يلي: "لا أدري ما تكونه هذه الصور. أدرك ما تنطوي عليه، لكنني أجهل استعمالها (أو استعماليتها). أعرف ما ليسته..." ذلك أن فكرة رصد التعري وترك قشرة الثعبان على حجر المكان، وإن تتم العودة إليها في لحظة تالية لتأمل كل تشابكاتها التي تحدث بفن بدئي وبدائي، مدهش متى تم استدراجه بجمالية عالية.
أغلب تعليقات أني إرنو ليست سوى تعليقات تفصيلية غير أن في هوامش مارك ماري كثيرا من ذكاء وقوة. فالصورة التي أطلق عليها "نهب المعبد" جد رائعة، ذلك أن مارك حمل أني إلى مكتبها حيث تكتب نصوصها، لم يكن يتوقع أن تدعه يعصف بجبروت المكان، غير أنه فعل وانساقت المرأة إلى كتابة أخرى على نفس المكتب، ليس دون نهب ما دام المكتب في منطق آخر معبد ومحراب خلق وتفكير. لسنا نرى في الصورة على كل حال التحامهما ولسنا نسمع هدير صبيبهما. في الصورة ليس من مرأى للجنس ولكن ثمة نرمق ذكراه في النهب والفوضى اللذان كانا ضروريين لتثبيت نظام آخر وإعداد هام لتداخل طبيعي تفرضه الحياة. الأقلام التي سقطت وفارقت حاملها، بعض مسودات آني التي تساقطت على أرضية المكان وبعض خيوط كهربائية ليست تحتوي، على عكس ما قد يكون ممكنا، على كهرباء الهيجان والجنس واللذة. آني هذه شاكست قارئها في البدء و ذكرت أنها لن يكون بمقدورها أن تدرج صورة التقطتها لقضيب مارك الذي انعكس ظله على رفوف الكتب وتحدثت عن كون تلك الصورة قد يمكن إردافها للوحة كوربييه في إلحاح ضروري لاكتمال أصل العالم.
في آخر الأمر، ودون أن نوهم أحدا بأن كتاب آني إرنو كتاب جميل، نشير أنه رغم كل علاته ليس كتابا سيئا. أجمل فضائله أنه اقترب من الصورة وجمالها وطاف بهيبة عالية حول النهد ورافعته وحول الفرج وثوبه الذي يخفيه وزغبه الذي يمنحه وجه وحش هائل جميل ومفترس. لست أرى مع ذلك في آني إرنو كاتبة عميقة ولكن حبها للحرية يجذب كل حر، غير أنها لم تسلم من مصائد التمتع بالحرية. كتبت في آخر الكتاب: "كنت مقرفصة على (م)، رأسه بين فخذي وكأنه خارج من بطني. فكرت في تلك اللحظة بأنه تلزم ثمة صورة. لدي العنوان: ولادة." (ص. 151).
لم أكن قريبا من المكان لحظتها، لأني قد ألتقط الصورة، واختصم مع كل مترجم أولى كلمات العنوان:!.usage
kermounfr@yahoo.fr