القدس التي لم يعرفها أحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أسامة العيسة من القدس: بصدور الجزء الثاني من مذكرات الموسيقي والمؤرخ الفلسطيني واصف جوهرية، عن مؤسسة الدراسات المقدسية، تكتمل هذه المذكرات الفريدة والنادرة، والتي كان يمكن أن يشكل صدورها بجزئيها في مجتمعات أخرى أو ظروف أخرى حدثا ثقافيا بالغ الأهمية. وصدر الجزء الثاني بعنوان (القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية) مع عنوان فرعي (الكتاب الثاني من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية 1918-1948) والجزء الثاني من المذكرات مثل الجزء الأول من تحرير وتقديم عصام نصار
والمذكرات بجزئيها يمكن أن تصنف كواحد من أهم ما كتب عن القدس الحديثة إن لم تكن الأهم، وهي تعيد الاعتبار للدراسات المقدسية التي تعرضت لكثير من الإساءة العلمية، نتيجة الخفة والكسل البحثي لدى كثير من الباحثين والأكاديميين الفلسطينيين والعرب.
والمذكرات كما يعتقد تحتاج إلى بحوث وتحقيق من قبل باحثين مستقلين أو دارسين في الجامعات الفلسطينية، التي لا يوجد ما يدل على أنها أولت اهتماما للمذكرات أو أن أساتذة التاريخ فيها قرأوها أصلا، في حين أن الجزء الأول من المذكرات حظي باهتمام أكاديميين غربيين مثل الكسندر فلورس: أستاذ التاريخ في جامعة بريمن-ألمانيا، وجيمس غالفن، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا-لوس أنجلوس، بالإضافة إلى اهتمام الباحثين الإسرائيليين في الدراسات المقدسية.
وصاحب المذكرات هو مواطن فلسطيني من الطائفة الأرثوذكسية المقدسية، بالإضافة إلى كونه موسيقيا، فانه ارتبط بعلاقات واسعة ومتشعبة مع كافة فئات المواطنين من رجال دين وسياسيين وصعاليك وباعة متجولين وتجار ومسلمين ومسيحيين ويهود، واقترب من كل هؤلاء، بحب يستوي في ذلك الشخصيات المقدسية البارزة في أواخر العهد العثماني مثل سليم الحسيني رئيس بلدية المدينة الذي سلم مفاتيحها لقوات الاحتلال البريطاني، والذي كان بالنسبة لواصف بمثابة الوالد الثاني، أو رجالات العصر الجديد عصر الاحتلال البريطاني مثل راغب النشاشيبي زعيم المعارضة الفلسطينية، والحاج أمين الحسيني الزعيم البارز للحركة الوطنية الفلسطينية حتى وقوع النكبة عام 1948، أو المرحلة الأكثر جدة بعد وحدة الضفتين مثل الشيخ محمد الجعبري أو عجاج نويهض وغيرهما، مما يجعل الوصف بان الكتاب يغطي الفترة حتى عام 1948 يفتقر للدقة.
وواصف شخص عادي منتم لمدينته واهلها على تنوعهم، دون أن يحمل أي أيديولوجية، وهذا ساعد كثيرا في العفوية الموضوعية التي ميزت المذكرات.
وبدأ واصف حياته العملية كموظف عادي في حكومة الانتداب البريطاني، واصبح من موظفا كبيرا لديها، ومن خلال عمله الوظيفي تعرف عن قرب على رجالات تلك المرحلة الحاسمة من البريطانيين ودخل بيوتهم ليقدم للقاري نوعا من الذكريات الفريدة بلغة بسيطة وتعابير نافذة، تستوجب من الباحثين إعادة النظر في مذكراتهم التي كتبوها عن مرحلة خدمتهم في فلسطين والشرق الذي كان يمور بالغليان وبالجواسيس والرحالة والحكام العسكريين.
وتضفي المشاهدات اليومية والمذكرات الشخصية لواصف جوهرية حياة نابضة على كثير من الحوادث الهامة في الفترة التي تتحدث عنها المذكرات، مثل التفاصيل التي تتعلق بالتفجيرات التي نفذتها العصابات الصهيونية كتفجير فندق الملك داود الذي أحيا حزب الليكود الإسرائيلي قبل اشهر ذكراه الستين، ويعتبر هذا التفجير أحد الحوادث الهامة في تاريخ الإرهاب العالمي المعاصر.
ومن الجوانب المهمة في المذكرات تلك التي ترتبط بالحياة البوهيمية لجوهرية كفنان، وليس من المبالغة القول في انه يمكن اعتبار قسم كبير من المذكرات تاريخا لجوانب من حياة شخصيات فنية شهيرة وأخرى مهمة وان لم تنل نفس الشهرة عرفهم واصف معرفة حميمة وكثير منهم نزلوا في بيته بالقدس مثل نجيب الريحاني وبديعة مصابني، وتحية كاريوكا وأمير الكمان سامي الشوا ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ويحيى اللبابيدي وعشرات من الفنانين المصرين والفلسطينيين والشوام، يقدم واصف صورة شخصية حميمة لهم لا يمكن أن توجد لدى أي مؤرخ آخر للفنون، لانه ببساطة يذكر يومياته معهم بدون أي حرج أو تصفية حسابات من أي نوع كانت، بالإضافة إلى إيراده ملاحظاته النقدية عن تطورهم الفني، وردود الفعل على ذلك التطور.
وضمن واصف الذي يظهر معرفة فنية واسعة، مذكراته كثيرا من النصوص المغناة بعضها يمكن أن يعتبر الان نادرا ومنها بعض الموشحات الأندلسية والطقاطيق والقصائد.
ويطلع القاري على التطورات التي شهدها الفن الموسيقي العربي، بدون أن يقصد جوهرية ذلك، ولكن من خلال شرحه ودهشته وملاحظاته وإعجابه بما ادخله هذا الفنان أو ذاك مما اعتبر تطورا في حينه بينما الان يعتبر أمرا عاديا.
وتعيد المذكرات رسم جغرافية مدينة القدس قبل تقسيمها عام 1948 إلى شرقية وغربية، والى العلاقات بين مسلمي ومسيحي ويهود المدينة الذين يصفهم واصف باليهود الأصليين.
ولا يلاحظ أي تصنع من قبل جوهرية وهو يتحدث عن دفء العلاقات بين المسلمين والمسيحيين مثلا، وكذلك فيما يلاحظ من الثقافة الإسلامية الشائعة في ثنايا مذكراته ويتضح ذلك من استرشاده بكثير من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية بشكل عفوي.
وتقدم المذكرات وصفا للحياة اليومية ليس فقط في مدينة القدس ولكن في ريفها، وتمتد إلى مناطق أخرى مثل مدينتي أريحا وبيت لحم وما يحيط بهما، والى مدن خارج فلسطين خصوصا القاهرة وبيروت.
وضمن واصف مذكراته كثيرا من الملاحق مثل رسالة من الأديب خليل السكاكيني، وأخرى ذات أهمية بالغة يورد فيها أسماء الشوارع والأسواق والحارات والقناطر في القدس ومواقعها.
والمذكرات بالغة الجرأة، وفيها يتعرف القارئ على جوانب لم يتطرق إليها أحد فيما يتعلق بمدينة القدس، وعن طريق واصف جوهرية يتعرف القارئ على العالم السفلي والقبضايات والخليلات والقضاة والأدباء والسياسيين والفنانين وغيرهم..وغيرهم وحكاياتهم التي لا تنتهي.
إنها القدس التي لم يعرفها أحد، والتي تجعل صاحب المذكرات الذي فقد كل شيء عام 1948، وتوفي في بيروت عام 1973، كثيرا ما يردد في كتابه عبارته الأثيرة "سقيا لتلك الأيام ما أحلاها"، أو شيئا من هذا القبيل.