عالم الأدب

الجواهري: وعي على ذاكرتي (5)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

... وهل يعود طائر السنونو ؟! المقطع الاول

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

لمصطفى (البلا ّم) مهام عديدة توفيها رجولته الفتيه، وجسده ذو البنيان المرصوص، واريحية اخلاقه . فهو يرعى
مع ثلة صغيرة من البلا ّمة نقل (العبرية) من شريعة الجعيفرفي جانب الكرخ، الى شاطيء (المجيدية)
المقابل لـ(المستشفى المجيدي) نسبة الى ُمنشئه مجيد باشا والى بغداد، والذي أ ًلصق به لاحقا -في الحقبة الملكية - لقب (المستشفى الملكي)، الذي لم يعترف به الناس .
في الاوقات الخالية من العبرية يهب مصطفى، والذي يناديه الجميع تحببا بـ(مصطاف)، لمساعدة هذا وذاك ممن يقطنون على جوانب شريعة النهر، فهنا تنور يُنصب، وسطح يُطيّن، وستارة سطح ترمم، ونقل اثاث ثقيل في بضع بيوتات موسرة كـ (المدلل) و(الريس)، او في منع سباحة(صبوحي) وحيد (ام صبوحي) الخياطة من الاقتراب من شريعة النهر او ضفته الحجرية القريبة .
...الويل كل الويل لمن يتعرض لاي ٍ من صبايا (الطرف) بالتحرش او إلايذاء، فصرخة " وينك خوية مصطاف! " تكفي لأي بطل همام منهم، ان يختفي عن(الطرف) وعن عيون مصطاف وقبضته لامد غير قصير .
دجلة الخير موسكو 1963
بريشة فلاح الجواهري
لايقبل مصطاف اي اجر لقاء كل هذه الخدمات العابرة - غير اجر وظيفته كـ (بلا ّم) - الاّ من موسري المحلة وبعد
إلحاح، وعلى ان تسمى " هدية الويلاد " .. مع ان الكل يعرف انه غير متزوج، وانه صريع غرام يائس لـ(غنية
الخبازة) جارتنا، و الموعودة لابن عمها.
يفخر مصطاف امام صحبه بانه هو دون غيره " بلا ّم عمي الجواهري "، والحقيقة ان هذه المهمة التي اصّر
ان يقوم بها دون مقابل، لولا حلفان الجواهري بأن يقبل الد ينار، لا كأجر شهري ولكن كـ" هدية الويلاد " .

يعرف مصطفى مواعيد مغادرة الجواهري الى الجريدة صباحا فيكون في انتظاره لا في شريعة المنطقة ولكن
على الضفة الترابية المتراكمة بكتل سدة النهرالحجرية (المسناية) القديمة المنهارة والواقعة اسفل دارنا والتي
كنا نصل اليها عبر بقايا سلم حجري خرب يكاد يتحدر بصورة عمودية الى حافة النهر .
كما ويعرف مواعيد عودته فيكون القارب في انتظاره على الشاطيء الرملي امام (المجيدية) من جانب الكرخ
وعلى مقربة من حدائق بيت (المدفعي) الغنـّاء المنسرحة الى ضفاف دجلة .
ينقل مصطاف (سفر طاس) غداء الجواهري من البيت الى شاطيء المجيدية، حيث يكون في انتظار استلامه
ساعي جريدة الراي العام الوفي (جاسم عريبي)،الذي سمّى كل ابناءه وبناته على اسماء اولاد وبنات الجواهري
تيمناً .
- عمو مصطاف ! عمو مصطاف ! ..بطتي طارت!!، الله يخليك عمو مصطاف !
كنت اصرخ بلوعة تقرب الى البكاء وانا امد راسي من الشرفة المطلة على النهر متوجها بنداء الغوث الى الشريعة المجاورة حيث ترسو القوارب..وكم هي المرات التي طارت بها هربا من ملاحقة اخي الصغير، او شوقا ممضا الى ماء النهر القريب، و تلك مهمة خطيرة، كانت عندي هي الاسمى، بين مهام الشهامة الاخرى لمصطاف .

في بعض الاماسي وبعد قيلولة تطول او تقصر اعتمادا على انحسار فترة الحر الشديدة افرض نفسي في مرافقة
والدي مثلما كنت افرضها في مغادرته المبكرة على الاقدام عند الفجر .
لم تكن متعة المرافقة الى اجواء الجريدة والمطبعة هي وحدها ما كان يشدني،فهنالك ركوب القارب، الذي غالبا
ما تحول العبور فيه الى نزهة نهرية طويلة .
كان مثل هذا التحول يبدء بعبارة : " ابني مصطاف لاتستعجل بينا اليوم ..خلي البلم ينحدر ويه الميّ ! "
حينها أكف عن العبث بيدي ّ في الماء واجلس صا متا، سارحا في ضفاف تصلح مشروعا للسباحة، مخليا له الجو لسباحة من نوع آخر في عوالمه الخاصة، وللدندنة والحدو دون تشويش .
يصمت مصطاف عن اي حديث نهري كان يستمتع به مع (عمه)، في ايام عبور أخرى، ويترك مجذافيه دون تحريك .
...غالبا ما يسرح هو الآخر.
ولطالما اقتنصت متابعته الساهمة لبيت غنية الخبازة الطيني القريب من بيتنا و المشرف على النهر .
...كان الجواهري مسترخيا في دندتته عند مؤخرة القارب الوثيرة، مدونا من حين لآخر شفرته الخاصة على
وريقات صغيرة، حين هبت نسمة عابثة - لعينة -، فاطارت عددا كبيرا منها الى سطح النهر.
- دخيلك مصطاف ابو الغيرة !!! هب الجواهري منتفضا من مكانه والفزع واللوعة الحارقة آخذة بكل معالم وجهه . همّ بان يقفز الى عمق النهر لولا انه احجم في آخر لحظة عن ذلك ممسكا بحافة القارب ومحدقاً في الوريقات العائمة
باسترخاء فوق صفحة النهر .
...الجواهري لا يعرف العوم .
قبل ان يكرر نداء استغاثته كان مصطفى قد نضى عنه(دشداشته) وقفز الى الماء...
حين حاولت ان احذو حذوه امسك بمعصمي بغضب .
- اكَعد راحة !! ...
كانت خبرتي في العوم في بداياتها البسيطة الاولى .
حين وجد مصطاف ان فكرة الامساك ببعض الوريقات الذائبة بللا ً في قبضته، ومحاولة السباحة وراء اخريات،
هي محاولة ليست مجدية بل وضارة ايضا، توقف . فالوريقات التي كانت بيديه اصبحت نتفا مهروسة .
عاد واخذ بقاربه يتابعها مقتربا منها ببطء وهدوء، ثم ماداً صفيحة المجداف العريضة بأناة تحت كل وريقة لازالت طافبة .
...يرفعها برفق، ثم يقرب نهاية المجداف تلك من الوالد، ليزيحها عن السطح الخشبي البليل بحذر وخوف شديدين .
... كانت عيناه جاحظتين، وفمه فاغراً،وشعره قد نفر .
انامله ترتجف، كلما اوشكت واقتربت من اكثرحواف الورقة الملتصقة امانا لنزعها .
..." آخ يا بويه !! " .. . تنطلق من فمه بلوعة ممضة بين الحين والآخر كلما فشل في نزع واحدة منها فتمزقت
بيده .
وضع الاوراق المنتشلة على الواح الجلوس في القارب .
...سا حت تلك الخربشات التي كان يخطها على عجل فوق تلك الوريقات فوق بعصها البعض، واصبح العديد
منها عبارة عن بقع زرقاء شافة متلاشية .
ألقى عليها من وقفته في منتصف القارب نظرة اسف وحيرة وانتظار...
كان ينتظر ان تـُبعث الحروف حيةً من جديد وتبرز من اعماق الورق المبلول في حال جفافه .
...بقينا جميعا صامتين منتظرين رحمة الشمس اللافحة .
- ايه د نيا !! ..يلله هذا هو! ... ابتسم بحسرة، ثم بدء برفع الوريقات التي جفـّت وضمها الى تلك السليمة التي لم تتطاير الى النهر.
- اشكرك ابني ابو الغيرة مصطفى، شوف جم (كم) عزيز عليّ خلصته من الغرق !

ينحدر القارب بدعة ... لا يسأل مصطاف عن مكان الرسو المطلوب . الجميع... صامتون :
- دنيا !!، يطلقها الجواهري بين صمت وآخر .
- َطقْ، َطقْ، َطق، َطقْ، طقطقطقططقطقط
...بحيينا اللقلق بحرارة وانفعال من على قمة مئذنة (السراي) المعرش فوقها بجلال وشموخ .
...يفتر فم الجواهري عن ابتسامة عريضة ... يوجه اللقلق تحية جديدة خاصة للجواهري، بطقطقة اعلى .

* * *

..الزرقة الكثيفة الشديدة العتمة تتسرب من خلال القضبان الغليظة وتغرقني .
... اعوم الى السطح دون عناء يذكر.
اضواء نمنمية تسبح في زرقة داكنة مشَوشة الانارة
... في القعر فانوس صغير يتأرجح ويقترب..
..الزرقة ليل ...الاضواء النمنمية نجيمات تتباعد... وفانوس القعر نجمة الراعي .،
وانا افتح عينيّ بكسل..
مع حوار النقيق، اسمع همسات منغمّة .
...ادفع الاغطية ...اجلس على حافة السرير..ارخي ساقّيّ ...أنصت .
..النقيق يتواصل ...الهمس ينقطع .
...الهمس يعود غناءاً ...حدواً .
...اسرح ! ...في البعد متاهات .
ضباب زرقة يشف
... معالم أخيلة داكنة.
...انهض ...امسح عينيّ.
على حافة سياج خشبي، أتكيء
اسند ذقني لراحة كفي .
... زرقة الليل حبر يسيل ...
ودجلة زرقتها ذائبة،
تتلاشى الحدود بين الستارة المنسدلة المرصّعة بالماسات الصغيرة المتلامعة والجوهرة الكبيرة الساقطة الى القعر.
ازيز جنادب يتجاوب.
صوت ضربات مجذاف يقترب
اصوات الضربات تختلط بالنقيق، بالاضواء الذابلة .
انعكاسات متكسرة، تتحرك فوق الماء ..
يعود الحادي لغنائه المهموس.
أتأمل الحادي منسرحا فوق(شازلونج) في الشرفة شبه الدائرية الممتدة داخل النهر، ومسرحّاً بصره في الافق اللا محدود للظلمة.
...يتوقف الحادي عن الغناء وينصت .
...النقيق يتواصل و حوار الجنادب وانغام ضربات المجداف .
الانغام تقترب من حافة الشرفة ..تدور ساحة الدار المكشوفة ..تنساب- صاعدةً- فسحة الدور الثاني حيث اقف.
.. وجهي يَندى بنثّ قطرات ماء المجذاف .
ازيز الجنادب يدغدغ اذني
اتيه في الحدو ...والحادي
الحدوُ صوتٌ، ولونٌ، وماءْ،
ودجلة َفي زرقة ٍ ذائبة ْْ،
وهمس ُ نجوم ٍ...،
وصرصارُ ليل ٍ...،
ونجمة ُ راع ٍ،
وثوبُ سماءْ .


سلامٌ على جاعلاااات النقيق..
سلامٌ على جاعلاااات النقيققققْ ..
نقيق.. . الهوى
...الهوىىىى ..
بريدَ الهوى .
.. جاعلات النقيقْقققِ .
.بريد الهوىآآآ..
على الشاطئيييين. ..على الشاطئييين .
بريدَ الهوى .
...بريدَ الهوىآآ
سلامٌ على جاعلاااات النقيقِ .. على الشاطئييييين
سلامٌ على جاعلات النقيق ِ على الشاطئينِ ِ بريدَ الهوى

يستمر الحدّاء في الغناء منتقلا من صورة لأخرى وتختلط انغامه بانغام الجنادب ونقيق الضفادع وضربات المجداف وصيحة ديك مبشر بأن " بأنْ قد مضى الليل ُ إلا إنى " ..
ينهض الحدّاء فينقطع الغناء ..يتوجه الى حافة الشرفة . يقف منصتا دون حراك ومجيلا بصره من
آن لآخر، بين اضواء الجسر المترائي على اليمين، و موقع الشاطيء الرملي الذي يشّف بين ستارة الليل الكثيفة وحبرالنهر الداكن، و يسارا حيث يتمايز شعر سعالي النخيل المشتبك، كتلة مكثفة من ظلمة الليل .
..اسمع انغام الحادي تتعالى برفق من جديد..

على الجسر ما انفكَ من جانبيييه..
على الجسر ما انفكَ من جانبيه..
.. على الشاطئيييين..
على الجسرِ ما انفكَ من جانبيه
أأأأأأأأ الهوى ى آآ
يتاح ُ الهوى..
..الهوىآآآ
يتيحُ الهوى..
من عيونِ المهآآآ

على الجسرِ ما انفكَ من جانبيهْ
يتيحُِ الهوى..
من عيونِِ المهاِ

على النخلْ
على النخل ِ
ذي السعفات الطوالْ

ويستمر الغناء واستمر في السرحان في الظلمة وفي متابعة الحادي الذي يخترق الظلمة بقامته الفارهة والذي يٌنظِّم بايقاعاته سمفونية الفجر المقترب .

* * *
انتهى الصيف وانتهت مظاهر عديدة في دجلة ...فالسطح المزرّق الرائق في وسطها عند الصباح والفضي المتلامع عند الظهيرة والمرآة البنفسجية المتوردة الصقيلة عند الغروب، بدء بالعبوس ...
انطفأ تلامع الحصا وقطع الاحجار والبقع الرملية بين الحواشي الغرينية عند شاطئنا القريب، و بدأت الوانها تحول وتبهت مع زحف المياه، التي اخذت تعتدي غلى حقنا المشروع من الجرف الترابي - الرملي، المرصع بكتل حجرية مطمورة من بقايا السدة العصملية (العثمانية) المنهارة، الطافحة ببقع عشبية مخضوضرة، وأشنات بنية، وكهيفات كحلية السواد .
مساحتنا الصغيرة تلك، ما بين سداد البيوت السابحة في المجرى النهري، وبين كتل حجرية ضخمة، تعوم في الصيف مثلما نعوم نحن .
... كانت تسمح بكل كرم ومودة، ان نتسلق اكتافها ونرمي انفسنا غائصين في العمق من مياهها المحيطة .
على هذه المساحة، التي بدء زحف المياه بتقليصها، كان يسمح لنا، او على الاقل يغض النظر عما تقوم به عصابة " الزعران " ... شلتنا الصغيرة تلك .
الاصغر سنا من شلتنا، لها حقوق !
... لها حق العوم عند الجرف، و التسابق الى مبعدة مرمى حجر عن حافة النهر...لها حق التسلق فوق الكتلة الحجرية العائمة والغوص تحتها، وحق التصارع الودّي على الجرف الترابي الرملي، والذي غالبا ما تحول الى عراك يرتفع فيه صوت الخاسر بالنحيب العالي او بالشتائم الاعلى .
...هنا قد يتدخل احد الكبار من البيوتات القريبة المطلة او من قاطني زقاق الحارة فيولي الفائزبالفرار اما سباحة الى الشريعة المجاورة، اوتسلقا عبر الكتل الحجرية الى زقاق آخر.
اما حقوق الاكبر من شلة " الزعران " فهي تتعدى ما نملكه نحن الاصغر، الى المقامرة الصغيرة بـ (لعبة الحفيرة
والحصى) او ال(طرة كتبة) او المقامرة بلعب (الورق) وهذه ام الكبائر، المحفوفة بكثير من مخاطرتدخل الكبار
، لذا كان لها وكر خاص، بين الكتل الحجرية الاكبر والاكثرخفاء ً و امنا .
لهذه المجموعة من الشلة، حق مقدس آخر كنا نحسدهم عليه، الا وهو حق التشاتم بالاعضاء المحرم ذكرها علينا، بل وحق التحرش بهذه الصبية او تلك ممن يحاولن ان يسبحن، بكامل ارديتهن، في ركن من هذا الجرف او على الاقل اسماعهن عبارات " الغزل المكشوف " او تأكيد ذلك الغزل بالكشف عن العضو المحرم ... عن بعد .
...مع اعتداء النهر التدريجي على جرفنا، تختفي وبالتدريج كل هذه الفعاليات .

...تختفي من الشاطي الرملي المقابل (سوابيط) السباحة المسيجة بالحصران، وقدوم قطعان الجاموس النهري
مع رعاتهن من النسوة والصبايا القادمات (من وراء السدة) .
...في الليل، تشح اصوات الموالات وترجيعات الناي الحزينة .
تقل الفوانيس المضاءة في القوارب السابحة في عتمة ليل دجلة العذ ب .
...يقل عدد القوارب المزاحمة لـ(مصطاف) في نقل العبرية الى (صوب المجيدية) .
يهجر طائر السنونو - ببدلته (السموكنج) الكحلية - وصغاره، عشهم الطيني .
(...يبني السنونو عشه على الطريقة السومرية من الطين والحلفاء ومواد لاصقة ...زقورة مقلوبة، في احدى زوايا الغرفة الباردة نصف المعتمة، والتي نتخذها مكانا لقيلولتنا في الصيف) .
...يهجر اللقلق الوقور عشه الضخم، المحاك من الاعواد الطويلة، والذي يشبه سلال بائعي الخضرة، المتوّج لمنارة السراي المطلة على النهر .
مع ارتفاع منسوب المياه الى مستوى يحتل فبه ساحلنا الصغير بالكامل، يصبح لون دجلة غرينيا شافا، وهنا
تقتصر السباحة على الرجال البالغين فقط .
تنقطع التحذيرات المتكررة لنا نحن الصغار من مخاطر النهر .
...يقل عزف فرق موسيقى الآلآت النحاسية والطبل والدفوف عند شريعتنا، لتشنيف اسماع غرقى الاعماق، الرافضين لمغادرة مواقعهم لاكثر من ثلاثة ايام، وترغيبهم بالموسيقى الصاخبة، في أن يطفوا على سطح دجلة .
...يختفي نقيق الضفادع ويشح ازيز الجنادب وصرصار الليل المضيء .
...يقل سهر الجواهري على الشرفة العائمة في النهر وتنتقل اصوات دندنته الليلية الى غرفة مطلة .
تًبدل الاطواف المتحدرة، المحملة بالبطيخ و(الرقي) والمتعرضة ابدا الى غزواتنا في عرض النهر، بأطواف
من عدة طبقات متقاطعة من جذوع اشجار القوّق .
...نبدء بالتراكض عند التنقل بين غرف الدار رافعين اطراف من ثيابنا فوق رؤوسنا بين آن وآن .
...تظهر الاوحال في الزقاق .
تـُغمر الكتل الحجرية الكبيرة التي كنا نتسلقها في النهرتماما .
...مصطاف يرسو بقاربه كل مساء فوق جرفنا المغمور القريب من باب الدارلنقل (عمه الجواهري) . بدلا من شريعة(الجعيفر) التي كان علينا ان نلتف بعد عبور الزقاق، قاطعين بضع عشرات من الخطوات وصولا اليها .
...يندر السماح لي بمرافقته في عبور- النزهة النهرية - الا بعد الحاح وتوسل، او باستباقه في النزول الى قارب مصطاف والجلوس في انتظاره عند موخرة القارب .
الجواهري ينزل الى القارب على السلالم الحجرية العتيقة الخربة بحذر اشد .
...يوجه اليّ نظرات غضب مفتعل بين لحظات متابعة عينيه لموطيء قدمه باتجاه القارب .
حالما يستقر آمنا داخل حوض القارب، يشد راسه الى صدره، يتظر اليّ، يهزرأسه بحيرة،ثم يبتسم حال
اقترابه من مكاني
....يجلس الى جانبي .
ينحدر القارب بسرعة اكبر .
...عند المرور بعش اللقلق وسلة خضاره الفارغة الموحشة :
-ابتاه، الى اين يغادرنا اللقلق وطائر السنونو ؟
- الى اماكن بعيدة قصية .
- وهل سيعودان ؟
يصمت بذهول ...يسهم ببصره ابعد بكثير من اطواق الجسر المقترب .
-أيه دنيا !!

فلاح الجواهري

* * *

سلام ٌ على هضباتِ العراق ِ
وشـَطيه ِ والجـُرفِ والمـُنحنى
على النـَخل ِ ذي السَعفاتِ الطوال ِ
على سـَيد ِ الشجرِ المـُقتنى
ودجلة َ إذ فارَ آذيّها
كما حـُمّ ذو حـَرد ٍ فاغتلى
ودجلة َ تمشي على هـَونـِها
وتمشي رُخاء ً عليها الصَبا
ودجلة لهوُ الصَبايا المـِلاح ْ
تخوض ُ منها بماء ٍ صَرى
تـُريكَ العراقي َ في الحالتيـ
ــن يُسرف ُفي شِحه ِ والــَندى
سلام ٌعلى قمر ٍ فوقـَها
عليها هـَفا واليها رَنا
على الجسرِ ما انفـك ّ َ من جانبيه
يـُتيح ُ الهوى من عيون ِ المـَهى
سلام ٌ على جاعلات ِ الــَنقيق
على الشاطئين ِ بريد َ الهوى
تــَقافزُ كالجن ِ بين الصخور
وتندسّ ُ تحتَ مـَهيل ِ النـَقا
الجواهري

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف