عندما ترى اكثر تتكلم اقل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أسامة العيسة من القدس: عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في أواسط سبعينات القرن الماضي، وجد كمال الصليبي المؤرخ وأستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، نفسه يداوم على الجلوس
يكتب الصليبي في مذكراته متذكرا تلك الأيام "كان لما خبرته من اثر الحرب على راس بيروت تأثير على ما كتبت أحيانا. بقيت مداوما على الكتابة في مقهى أبو وليد العيتاني، ذهبت يوما إلى هناك فوجدت مسلحين من عرب المسلخ وزعيمهم يلقب السفير، ومعهم أسرهم، يحتلون الشقق الشاغرة في المباني المجاورة، وسكان هذه المباني يخلون شققهم هربا من القادمين". ويضيف الصليبي ملاحظا عن هذا المشهد "ربما هذا ما كان يحصل تكرار عبر تاريخ الشام، بل وتاريخ المنطقة عموما، عندما ينهار النظام القائم في المدن، فيحدث ذلك فراغا يمتص أهالي الأرياف والبوادي إليها". وعلى هذه الملاحظات العينية، بنى الصليبي أطروحته لكتاب عن تاريخ بلاد الشام في العصور الأولى للإسلام والذي صدر، مثل الكتاب الأول الذي كتبه على مقهى أبو الوليد بالإنجليزية.
ولم يكن ذلك نهاية قصة الصليبي مع المقهى، فجمع ما لديه من معلومات عن تاريخ لبنان في القرون الإسلامية الأولى واصدرها بالعربية تحت عنوان (منطلق تاريخ لبنان)، ويذكر بان الصليبي صاحب الأطروحة حول أن لبنان بتكوينه الحالي يعود للقرون الإسلامية الأولى، في مواجهة أطروحة فينيقية لبنان. وتحول الصليبي إلى تدوين ما يعرفه عن تاريخ الجزيرة العربية، فجاء كتابا نشر بالإنجليزية عام 1980 ويصفه بأنه "أول سرد لتاريخ الجزيرة يربط بين جميع أجزائها بناء على أطروحتي حول التفاعل المستمر تاريخيا بين الأرياف والمدن والحواضر في بلادنا". ويضيف "وكل ذلك انطلاقا من مقهى أبو وليد العيتاني ومشاهدتي الأولى لاستقرار عرب المسلخ في جواره بقيادة زعيمهم السفير عندما انهارت هيبة الدولة في راس بيروت".
وهكذا تمضي مذكرات الصليبي الذي عرف بأطروحته المثيرة للجدل حول جغرافية التوراة، ويسرد في الكتاب كيف أن ذلك بدأ عام 1979 عندما شارك في مؤتمر عن (تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام) عقد في جامعة الرياض، سأل على هامشه أحد المشاركين من مكة عن معنى اسم (حضر موت)، ويكتب الصليبي، تفاصيل النقاشات الأولى التي قادته إلى تطوير أطروحته التي صدرت في كتاب شهير يفترض أن موطن التوراة هو منطقة عسير، في الجزيرة العربية. ورغم أن مذكرات الصليبي، ليست سيرة ذاتية بالشكل الذي خبره القارئ العربي لدى عدد من الأدباء، إلا انه يخصص الفصول الأولى من الكتاب لعائلته، وبلدته بحمدون، بعين المؤرخ الناقد.
ويبدو الصليبي متصالحا مع أبناء بلده من مختلف الطوائف، وينقل ملحا من هنا وهناك في ثنايا الكتاب، قد تكون ذات دلالة، مثل قول أحد المطارنة الموارنة بان المارونيين اكثر عروبة من مسلمي لبنان، لانهم لم يختلطوا بالنسب مع شعوب أخرى إسلامية غير عربية، ولكن المارونيين يقولون عن أنفسهم فينيقيين لإغاظة مواطنيهم المسلمين.
ويلاحظ بان مذكرات الصليبي تخلو من أمور أخرى حياتية خاصة وشخصية، ويبدو ذلك مقصودا، مركزا على مواضيع ربما يعتقد بأنها يمكن أن تزود القارئ بفكرة عن أعماله، ويمكن بالنسبة للباحثين الشبان أن تكون دروسا، ومثال ذلك رحلاته الاستكشافية في لبنان وخارجه ومشاهداته الميدانية، فبدون البحث الميداني لا يمكن أن يكون أي مؤرخ مؤرخا، وهذا ما يفسر الأخطاء الكارثية في ما كتب، مثلا عن القدس وفلسطين، من باحثين لم يتسلحوا إلا بالعاطفتين الدينية والوطنية، وهي لا تكفي أبدا، لكتابة التاريخ، وربما غير لازمتين.
مذكرات الصليبي تربط بين حياة صاحبها ومجتمعه، بعفوية وصدق، وتختلف عن النوع التقليدي في هذا النوع من المذكرات، وما يلفت بها حديثها الطبيعي عن البلاد الشامية كوحدة واحدة، وارتباطها بمصر، وربما بشكل اقل بالعراق ودول الخليج، حيث كان الناس قبل اقل من قرن واحد يتجولون بين النيل والفرات بحرية معاشة وهو ما يبدو حلما مستحيلا الان.
أما لماذا أسمى الصليبي مذكراته (طائر على سنديانة)؟ فيجيب على ذلك بنفسه انه مستوحى من آبيات شعرية من التراث الإنجليزي للأطفال تقول:
"طائر حكيم مسن حط على سنديانة
كلما رأى اكثر تكلم اقل
كلما تكلم اقل سمع اكثر
لماذا لا نكون جميعا مثل هذا الطائر الحكيم المسن؟"
أما نحن، فلدينا على الأقل واحد مثل هذا الطائر هو كمال الصليبي