عالم الأدب

صقر القصيبي محلقاً بين لغتين

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مختارات وُصفت بأنها من أفضل ما تُرجم
القصيبي والكلالي يعزفان
بلغتين مختلفتين ومشاعر واحدة في "الصقر محلقاً"

تحفل المكتبة العربية بالكثير من الروايات المترجمة من لغات أجنبية أخرى، وكثيراً ما لقيت هذه الترجمات ردود أفعال متباينة، ولكن قليلاً ما تفاعل القارئ مع نص شعري ترجم من لغة إلى لغة، إذ الشعر لغة مكثفة جداً مختزنة في كليمات قليلة ما يمكن للرواية أن تتمدد فيها. ولكن هذا التحدي قبله نايف عمر الكلالي عندما أقدم على ترجمة عدد من أعمال الشاعر غازي القصيبي في ديوان "الصقر محلقاً" الذي تم التوقيع عليه بشكل مشترك من قبل الشاعر والمترجم في احتفالية افتتاح قاعة جائزة يوسف بن أحمد كانو.
وسيكون من الاختزال الحديث عن غازي القصيبي بوصفه شاعراً وحسب، فهو من ذلك الرعيل المتعدد المشارب، المتعدد الرؤى، المتعدد الاهتمامات، والإبداعات أيضاً، فهو شاعر في مطلع حياته، معلماً، ثم إدارياً فذاً استلم عدداً من الحقائب الوزارية في المملكة العربية السعودية استطاع من خلالها أن يترك بصمات واضحة في العمل الإداري، وهو السفير الدبلوماسي الذي أثر كثيراً - أينما حلّ - في الأوساط الدبلوماسية، يأتي جديداً إلى السلك الدبلوماسي، سواء في البحرين أو في المملكة المتحدة، ليكون الرقم الصعب، والحاضر الأهم في المكان الذي يشغله، وهو أيضاً الروائي في التسعينات من القرن الماضي بعدد من الروايات التي أصدرها، وأجاد فيها وأبدع، إلا أن الشعر هو الذي يظل الأقرب إلى صفة غازي القصيبي، فهذا ما عرفه العرب عنه أول ما عرفوه، والانطباع الأول هو الأكثر بقاء وديمومة، وليس شرطاً أن الانطباع الأول هو الانطباع الأخير، كما تقول الأمثال.
اختار المترجم نايف الكلالي، 21 قصيدة متنوعة الأزمان، متنوعة الأغراض والمناسبات ليضعها بين دفتي الديوان المترجم، فانقسمت من ناحية الموضوع إلى قصائد سياسية، وقصائد حب وأخرى قصائد حب أحادية، وقصائد شخصية، استطاع فيها المترجم أن يقدم جانباً من شعر غازي القصيبي إلى اللغة الإنجليزية.
يعتقد الكلالي أن العرب مقصرين جداً في الترجمة من اللغات الأخرى إلى لغتهم الأم، وهم أيضاً مفرطو التقصير في ترجمة ما يبدعونه إلى اللغات الأخرى، ولذا يرى أنهم إذا ما استمروا في هذا التقصير من الجانبين فإنهم سيكونون مستقبلين فقط وليسوا مرسلين "في ثقافتنا العربية - وفي كل المجالات - تتبدى التماعات عربية فذّة وجديرة بأن يعرفها العالم، ويعرف العالم العربي من خلالها بما يكتنزه من جواهر لامعة، ولكنها - عالمياً - مطموسة في التراب.. هذا التراث الثقافي والإبداعي والأدبي العربي، قلما وجد من يؤمن ظهوره إلى العالم، ليقف في مجاله بين آداب الأمم وثقافتها، وبالتالي، فإن الاتهامات الكثيرة الموجهة إلى العرب اليوم بأنهم أمة نادرة الإسهام في الحضارة الإنسانية هو اتهام صحيح، وغير صحيح في الوقت نفسه، فعدم صحته تعود إلى أن نقلنا/ترجمتنا لما ننتج خجولة جداً، وغالباً ما ننتج لأنفسنا مع نوع من العقدة التي تكتنف تفكير الكثير منا بأن العالم غير ملتفت إلينا، أو أن آدابنا أقل من تلك الآداب العالمية الأخرى، بينما يصطنع البعض ترفعاً في غير محله، ومفاده أن من يريد أن يترجم فليأتي ويترجم، من دون أن يتقدم هو - أو المعنيين بالثقافة في العالم العربي - لتعريف العالم بالنتاجات الأدبية المهمة والمؤثرة والمضيفة إلى التراث الإنساني العالمي".
الكلالي، وهو مهندس مدني، يشغل منصب وكيل الأشغال العامة في وزارة الأشغال والإسكان البحرينية، يهرب بجزء من وقته المنزلي إلى القراءة التي تشكل له نوعاً من السكينة والصفاء النفسي، وتعينه على شحن طاقته الشخصية في الابتعاد قليلاً عن جو العمل المرهق والمليء بالمقابلات والاجتماعات والمناقصات والمناقشات ومتابعة المشاريع الحكومية الخاصة بالبناء والتعمير والبنية التحتية، يهرب في هذه الأوقات المنزلية الخاصة إلى "البنية الفوقية" التي تحلق به صقر غازي القصيبي في هذه القصائد.
"أصابني ما أصاب الكثير من أصحاب المهن التخصصية من عدوى حينما يجدون في الأدب استراحة وليس ترفيها أو ترفاً زائداً، استراحة يتزودوا فيها بما يمكنه أن يؤنسن عملهم، ويخرجهم من صرامة التخصص بجفافه - في كثير من الأحيان - إلى روح الأدب ودوحته"، يقول الكلالي الذي يضيف "لقد كانت كلمة وزير العمل السعودي، الشاعر الدكتور غازي القصيبي في حفل افتتاح قاعة جائزة يوسف بن أحمد كانو وتدشين "الصقر.. محلقاً" مؤثرة جداً حينما قال: ومن براهين التقدم أن يقف المال وراء الفن، كما أن من دلائل التخلف أن يحاول المال خنق الفكر.. وأود أن أضيف أنه عندما يتلاقى الإبداع مع الهندسة، يتهندس الإبداع، وتُبدع هندسة لها أطر هي الآفاق".
تعود علاقة الكلالي بالقصيبي إلى عشرة أعوام مضت تقريباً عندما كان الأخير سفيراً لبلاده في المملكة المتحدة، وبدأت قراءات الكلالي أكثر عمقاً وتركيزاً في أعمال القصيبي، وصارا يتبادلان الرسائل والمكاتبات في الشؤون الأدبية والإدارية، ويقول الكلالي "اخترت من القصائد ما امتد عبر نصف قرن من الزمان، فأقدم القصائد تعود إلى العام 1957، وأحدثها كتبها القصيبي في العام 2005"، ولكن هذا ليس هو التحدي، فالتحدي الحقيقي الذي كان المترجم بصدده هو نقل الشعر، بشعور كاتبه وبشعوره هو، من لغة بعبقريتها الخاصة وذائقتها الخاصة إلى لغة أخرى لها عبقرية وذائقة مختلفة، ربما تتلاقيان في بعض النقاط، ولكن الاختلافات أيضاً بينهما كبيرة، كان التحدي الحقيقي كما يقول الكلالي ليس في الترجمة، "ولكن في ترجمة الشعر إلى شعر، وضع القوافي في الترجمة إلى الإنجليزية عندما يكون الشعر بالعربية - في المقابل - مقفّى، واستخدام أكثر من بحر في العروض، واقتفاء القصيدة الأصلية إن كانت على شكل ثنائيات أو رباعيات والنسج عليها بلغة أخرى ولكن بالمعنى ذاته ومحاولة الوصول إلى مرام الشاعر من حفر هذا البيت، أو إبداع ذاك التركيب".
في هذا يقول الدكتور محمد الخزاعي (وهو واحد من أكثر مترجمي الأعمال الأدبية شهرة وأطولهم باعاً في البحرين) "تم نقل بعض من أعمال القصيبي إلى اللغة الإنجليزية من قبل، إلا أن هذه المجموعة يمكن اعتبارها واحدة من أفضل الترجمات على ما نعتقد، ومردّ ذلك يعود إلى تمكن المترجم من اللغتين (..) لاشك أن مقدرته على نقل شعر عربي إلى لغة شعرية ذات نظام تفعيلي يدل على أن نظم الشعر بالإنجليزية لم يكن بالشيء الجديد بالنسبة إليه"، فالخزاعي يطرح الجدل الذي يثار في شأن الشعر واستعصائه على الترجمة ليصبح شعراً أيضاً، مقبولاً للقراءة باللغة المنقول إليها كما يحب قارئ تلك اللغة أن يقرأ الشعر بثقافته الخاصة ومذاقه الخاص، وفوق ذلك، يبقى الشعر المترجم محتفظاً بمعانيه الأصلية، هذه العملية المعقدة تحتاج إلى حسابات متداخلة والسير في حقل من محاذير ليست قليلة، فالهفوات ممنوعة هنا وغير قابلة للتعويض، لذا يصل الخزاعي إلى نتيجة بقوله "يخيل لنا أن دقة المعاني وجمال اللغة قد جاءا على خلفية للتأثيرات الهندسية والرياضية لمهنة المترجم الشاعر".
إذن، هل كانت قصائد القصيبي محتاجة إلى مترجم متمرس، أم إلى شاعر مترجم، أم إلى مترجم مهندس شاعر؟ أي هذي الصفات تسبق غيرها لو أردنا الفوز بترجمة أدبية شعرية راقية وقريبة من روح العمل في لغته الأصلية؟ يقول الأستاذ المشارك في اللغويات التطبيقية في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة البحرين الدكتور عبدالفتاح الجبر "هذه ترجمة رائعة لا يقوى على مثلها إلا شاعر ذو حس أدبي مرهف وتمكن لغوي يثير الإعجاب.. والتعبير المستخدمة ذات جرس خاص وتأكيد على المعنى الذي أراده الشاعر.. تكاد الترجمة لا تقل جمالاً وإبداعاً عن النص الأصلي، وهذه أفضل الترجمات".
ربما في "الصقر.. محلقاً" تدانت مقاربات الشاعر والمترجم إلى الحد الذي شارفت على التطابق، أو تطابقت فعلاً، وذلك ما يشير إليه غازي القصيبي في كلمته بمناسبة تدشين الديوان، وبعدما قدم التهنئة إلى المترجم لجهده في نقل الشعر من لغة إلى لغة بقوله "والشعر وليد العواطف الإنسانية، لا يعترف بحدود بين البشر، ولا يعرف فواصل بين الناس، فالحب هنا هو الحب هناك، ونبضات القلوب في الشرق هي نبضات القلوب في الغرب، الشعر سفير الخير بين الحضارات، يذكرها بوحدتها حين تعاني من تفرقها، ويعيدها إلى أصولها الإنسانية حين تتنكر لهذه الأصول. (عن "نوافذ الأدب")

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف