عالم الأدب

الجواهري وعي على ذاكرتي (7): خدمة بخدمة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

القسم الثاني

في الساعة الرابعة كنت قد وصلت الى ابنية جريدة الثورة... الحرص على المواعيد عادة تأصلت منذ مطالع الشباب ولكن لم يكن الحرص على المواعيد وحده هو الذي كان دافعي في ذلك هذه المرة... الفضول والقلق هو سيد الدوافع ذلك المساء... "ما هي (الخدمة) التي يريدها رأس هذه (الوزارة) الهامة في السلطة : جريدة الثورة... ولكن اليس الحلقات السابقة هو الصديق ذاته الذي توده!... ما هذه الخشية اللا مبررة!... الم يخلصك من عذابات ذلك السادي مدير تلك المحرقة الرهيبة، معهد (الهولوكوست) للطب الذري ؟!... (خدمة) بــ (خدمة)، اذا فهي مشروطة!!... ولكنه لم يضع شرطا حين نفذ ما كان يخشى تنفيذه وزير الصحة آنذاك... حين وصفه بانه (خواف) ورفع سماعة التلفون ليتصل بوكيل الوزير، صديق حميد الحميم ويطلب منه بحرارة ان يوقع امر النقل الذي يتحاشى الوزير توقيعه خشية انتقام آمر معسكر(بوخينفالت) الذري...
ووُقع الطلب وانتقلت الى زاوية الفئران الآمنة في مستشفى الكندي، ولم تمض الا اشهر معدودة ويـُرمى بالوكيل خارج الوزارة، ليعين طبيبا في مستوصف بائس في مدينة نائية... الشرقاط، منفى كبار البعثيين حين تحل بهم لعنة الحزب فيقبعون سعداء، اذ انهم يدركون ان البعد بين قرار الحكم بالنفي الى هذه المدينة اوحبل المشنقة إن هو الا شعرة القدر. "
ها قد اجتزت الآن الساحة المؤدية الى الباب الرئيسي... تصاعد الوجيب في صدري.
"... السبعينات... مهرجان المربد في البصرة... وليمة للجواهري في داري... انت معهم بالطبع وسعدي يوسف ومحمد الفيتوري وعبد الرزاق عبد الواحد وحشد آخر من الادباء الشباب.
... تقع انت في غرام لوحة (البادية) وتطلبها بوجه محمر شوقا وخمرا... اعدك بها، حالما اقضي وطري منها، فهي جارية حلوة جديدة على (حرمي وحريمي)... "
" لكن انت الآن كبير، رأس في الزعامات!!... انت على شاطيء آخر بعده يتناءى... فما هي (الخدمة) يا ترى ؟!... "
" قل : تعال على كوب شاي على رواق مثلا وخلصني من عذاب جحيم القلق هذا! "
"... وفي مربد آخر... الجواهري ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد وعلي الحلي... ومجموعة بين جالس وواقف يرقبون الجواهري وهويمازح لميعة بغزله... او يغازلها بمزاحه...
لميعة ترد ممازحاته الغزلية فتذوب غنجا ً.
- يا ابن السبعين!! ما راح إتوب!!
- وراك ِ وراك ِ يا اجمل (ام اربعة واربعين).
يضحك الجمع ويتكاثر الحشد حول الجواهري ولميعة... ارقبك من مكاني من مجموعة الشباب الواقفين... "
تجلس انت والبياتي منفرد ين ضجرين غير بعيد عن الحشد.
- مرحبا ابا علي، مرحبا ابا بادية... هيا بنا
- الى اين يا فلاح ؟... يتسائل البياتي.
- جولة في خمارات البصرة وازقتها بعيدا عن اجواء العشاء الرسمية في فندق (شط العرب)
... ينظر البياتي الى حميد مبتسما ومنتظرا استجابته للدعوة.
وكانت جلسة في خمارة مكتضة من الدرجة الثالثة على كورنيش شط العرب يمتزج فيها غناء السكارى برائحة العرق المستكي، بقطع متكسرة من صوت ام كلثوم آتية من مذياع الخمارة، بنداءات عالية تطلب المزيد من ارباع وانصاص (البطحات) وقناني البيرة، الى الندل بمرايلهم المتسخة وصحونهم واقداحهم الدائرة فوق رؤوس الزبائن الذين يشكلون بتجمعاتهم حول موائدهم جزرا مستقلة ذات عوالم متنوعة في ذلك البحر الصاخب الملفوف بضباب كثيف من دخان السجائر.
البياتي يتأقلم مع العوالم هذه اسرع من حميد... يساعد في ذلك العرق المستكي، الذي تـُُخرق الاعراف العريقة لهذا المكان ان طلبت شيئا غيره.
سرعان ما سرى الدفأ والحياة في جزيرتنا الصغيرة فاعلنت استقلالها سريعا واضحت كيانا جديدا اضافيا في عوالم الخمارة المتنوع. "
... اجتزت الاستعلامات... اسمي مدون لديهم. هو في الانتظار.
"- لم يبق عشاء في الكازينو!!... الساعة الآن تقارب الواحدة. يجيب النادل. كان المفروض ان تطلبواعشاءكم قبل ساعتين على الاقل.
- احسن!! كان جوابي.
في زقاق صغير نصف مظلم، خلف ملهى في شارع الوطني، كنا نجلس على صفائح فارغة قرب بائع (التكة) والاكباد المشوية (الفشافيش) نأكل بلذة السكارى ما يعدّه ويقدمه لنا اسياخا بعد اسياخ.... تلاها ابريق شاي (مخصوص لضيوف البصرة) اعدّ ه البائع.
- هل تعرف ان معرفتي بفلاح تعود الى دمشق عام ستة وخمسين... ، ثم موسكو فالقاهرة بعدها. اني احبه اكثر من ابيه
- ولكن اما ترى يا ابا علي ان من الصعب ان تحب جزءا من كل، والكل هو "ابيه!"... الجواهري.
- قد تعجبني بوابة عتيقة اثرية في عمارة كاملة.
- اوافقك تماما الجواهري عمارة ضخمة فيها الكثير من التفاصيل الجميلة. بوابتك الاثرية تلك التي تحب، جزء سهل الرصد لكل عابر. تمعن! ارصد! ادرس كما يدرس المعمار لا المشاهد المستطرق، در حول هذه العمارة... ادخلها تمعن في بنائها، اركانها، زواياها الخفية، ريازتها قد تجد اجزاء كثيرة غير الباب الاثري العتيق... هذا شرط ان تتوفر الرغبة لمثل هذه المشاهدة المتعمقة.
... مع ذلك أشكرك يا ابا عليّ على هذه المحبة، رغم اني لست بابا عتيقا بعد.
... حميد صامت... "
... اصعد السلالم المرمرية العريضة المؤدية الى الدور الثاني.
"... لقاءي الاخير به كان وديا قبل ما يقرب العام، وفي نفس هذا المكتب الذي اتوجه اليه الآن... كنت احمل (البادية)، اللوحة التي اغرم بها حميد من اول نظرة، والتي ورغم اني لم " اقض وطري منها " بعد، غير انها محظية موعودة لحميد منذ زمن، وقد حان آنذاك اوان ايفاء ذلك الوعد،.. خصوصا وان ايفاء الوعد متزامن بطلب. "
"... كنت اعرف انك كنت وراء مقال(غالي شكري) المسموم عن احتفاء المغرب بالجواهري.... قصدتك لنشر رد كتبته على هذا المقال تمشيا مع (حرية النشر)، فانا اعرف مرافق الجواهري هذا، ذلك الذي كان يدور حوله موسوسا، اثناء حضوره حفل التابين لمرورسنة على رحيل جمال عبد الناصر، قبل خمسة عشر عاما، واعرف تماما من وراء الزج بتلك الرفقة، وكنت شاهدا ومشاركا للكثير من حواراتها، فقد حضرت الى القاهرة على عجل لافشال مؤامرة غالي ومن وراءه على الجواهري... ونجحت.
رفضت يا حميد نشر الرد - الجواهري كان بعيدا كالعادة حين يهاجم - وكنت اتوقع ذلك، وكانت حجتك انه ليس من الصحيح توسيع هذا الموضوع... ووضعت صفحات الرد في احد ادراج مكتبك. "

انا الآن في فسحة الدور الثاني وارى القطعة النحاسية الانيقة (رئيس التحرير)... اتمهل قليلا قبل دخولي الى بيت الاحاجي...
... " اي خدمة يريدها رئيس الثورة ؟!! "
***

الغرفة الفارهة بنوافذها الواسعة العارية عن الستائر والتي يغمر النور كل زواية منها، لا تزال هي هي مثل ما كانت قبل عام، بعيد ة عن الشبه بغرف الوزراء والمدراء العامين و رؤساء المراكز المهمة، تلك الغرف المصمتة المعزولة عن كل ما يمت الى مظاهر العالم المحيط بها وانفاسه.
لايزال اثاثها بسيطا جدا، مع وفر من اجهزة تلقـّي المعلومات وآخر الانباء، واجهزة الفاكس والطابعات... يمكنك ان تستشف نسائم قليلة من عطورالحبر والورق المنبعثة من فوضى القصاصات والصحف و لفائف الاوراق في مشروع طباعتها الاولية، المنثورة دون تنسيق فوق المكتب الواسع الذي يجلس وراءه حميد وفوق بعض المقاعد وطاولات الاجهزة.
... تهدا اعصابي المتوترة قليلا.
- اهلا ً... اهلا ً فلاح ينهض حميد من وراء مكتبه ويغادره متقدما للترحيب بي
- اهلا بك ابا بادية.
- بشرني كيف هي اوضاعك في مستشفاك الجديدة... هل انت مرتاح فيها الآن.
- تكفيني نعمة الخلاص من الهولوكوست... والفضل لك.
يرن جرس احد الهواتف العديدة المنثورة فوق المكتب ويعود حميد الى مكانه خلفه... يختصر المكالمة
وينهيها رافعا سماعة تلفون آخر:
- لا اريد اتصلات هاتفية اخرى... قدر المستطاع " يبدو انه يخاطب سكرتيرة مكتبه... ها قد اتينا على الجد فيما يبدو... رحمتك يا إلاهي!! "
- ما الذي تشربه ؟
- شكرا لقد تناولت شاي المساء فبل قدومي اليك.
يسهم حميد للحظة ثم يبدء بالبحث في ادراج مكتبه... يخرج كتابا انيقا اقرأ عنوانه اثناء كتابته اهداء ً، (طفولة ماء)
- مجموعتي الشعرية الجديدة!!
- شكرا! اقولها مبتسما وانا اقرء اهدائه.
- كيف حال الوالد ؟
- بخير والحمد لله على اتصال تلفوني دائم به. "... لم اتصل به خلال شهر تقريبا "
- هل سيلبي دعوتنا... دعوة اتحاد الادباء لحضور موتمر الادباء العرب الذي سينعقد في الشهر القادم هنا في بغداد.
- لااعتقد ذلك... اتصور انكم استلمتم برقيته الجوابية على دعوتكم... " لاتسمح صحتي بذلك "!
- نعم استلمناها...
وضع كوعيه على المكتب واسند وجهه، الممدود تجاهي، على راحتيه
- وهنا اريد يا فلاح مساعدتك بهذا الامر. قال ذلك ناثرا ابتسامته الواسعة علي.
- هل كان هذا ما قصد ت بكلمة (خدمة) هذا الصباح في نداءك التلفوني الي ّ ؟!!
- نعم واكبر خدمة!!... ألم اخلصك من ما اسميته بـ(الهولوكوست)... اريد وساطتك لدى الجواهري، و انااعرف قيمتها لديه... وساطتك انت لا غيرك!!... " اعرف من هو المقصود بكلمة غيرك "،
.. اعتبرها لطف صديق لصديق يا فلاح!!.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف