عالم الأدب

ثرثرة فوق الهاوية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الجسد وقد أسقطَ نفسه في النصّ للقارئ، كما لو أراد نفسَه قرباناً للتكفير عن الخطيئة الأولى، أو أراد التخفف من وطأة جوعه القديم، أو أراد تجسيد التمرّد والحرية؛ هو من موضوعات الكتابة الشعرية الحساسة على المستوى الفني. والشعر خليق بأن يكون متسعاً لهذه الموضوعات. ولكن، شريطة ألا يُصعّد كلام الجنس صوته على حساب الشعر. فمع أي تصعيدٍ، من هذا القبيل، سنلاحظ انقطاع المودة التي كان ينظرها المتلقي في ذروة الشعر أو في ناره البَهِجَة. إذاً، يمكن القول، مع رولان بارت، بهذه المناسبة، أن " الذوق مفيد جداً: إنه خادم مشترك بين الأخلاق والجمال، ويسمح بفتح باب دوار ملائم بين الجميل والمفيد " (1) ووفقاً لهذا، فالفنّ والذائقة يشتركان في ضرورة أن تتنادى

بريشة رسام مجهول مع اضافة من الجنابي

الرغبة والكلمة في قصيدة، في غلالة، لا تمزقها آهات الممارسة الفعلية للجسد، قدر ما تكون الكلمات أصواتاً بين اللسان والغمغمة، بين الفضة والظل؛ وأن يكون الصدى / الظلّ بطلاً يرفع الجسد ككيفية، لا كـآنيّة، لمستوى الفناء في عين الجودة. لا أن يقوم الصوت صراحة بالتباهي بإذاعة الجوع القديم إذاعة لن تنتسب أو تبلغ، بدورها، لذروة القصيدة. لأن من شأن ذلك أن يوفر المناخ الملائم ليحكم الفن والذوق على الصوت بالميوعة المفرطة، ويضعه خارج القابلية، وعلى جمانة حداد مآخذ بهذا الشأن؛ ولكن المآخذ لا يمكن لها أن تكون ذريعةً للحكم عليها موتاً بالممحاة. قد يقول قائل: إن ثمة وعياً، هو على صلة بالميتافيزيقي، بأن القصيدة هي القصيدة، هي الشيء السامي، وليست هي الغَريزة التي تُوصف بالكلام وبالرموز، وقد عَبّر أوكتوفيو باث عن ذلك، بالقول: أن الكلام مادة القصيدة وزادها، ولكنه ليس هو القصيدة. ولكني، أحاول، في هذه المقالة، أن أقدّم قراءةً خاصة، بما تيسر لي من أدوات، عن مجموعة: "يدان إلى الهاوية "، وهي الآن بين يدي، أو بالأخرى، أمام عينيّ، لكوني أحتفظ بنسخة المجموعة الالكترونية من موقع أو "مؤسسة": " جهة الشعر ". وسواء أكانت النسخة بين يديّ أو أمام عيني؛ ففي الحالتين، ستبلغ الإثارة لحواسي. والإثارة كلمة شائعة وشاسعة و حمّالة للمُثير والمبهر في الإنسان والطبيعة والفن وعالم الصورة. وأما الجميلُ، لدينا كشعراء، ليس هُو المُبهر. وإنما هو، بحدّه الاستطيقي، ما يثير حواسنا وتفكيرنا ( لا غرائزنا ) ويحرّض على الكتابة، قدر الابتعاد عن "الاهتمام " الصحفي بالصورة والاسم - مركز جاذبية الشاعرة. ولقد آثرتُ التأمّلَ في: " يدان إلى الهاوية، الصادرة عام 2000، شروداً بنفسي عن الأضواء التي رافقت جمانة حداد في هذه الهاوية أو الهوية الزمنية المحسوبة بين 2000 و 2006، وهي التي ردمتها الشاعرة بالصعود الإعلامي السريع. وعلى أية حال، ما بين الخلق والذوق، فإننا نسمع لسانَ حال العين، نقلاً عن لسان عين جمانة حداد، يقول: " بنهم البرق تسرقين النوم ". وأما نيتشه المتفوّق والمتغلغل، والذي سيزيد من تواجده لاحقاً، فبدوره، يقول: " أنا كاللهيب النّهِم، احترق، وآكل نفسي. نورٌ: كلُّ ما أُمسكُهُ، ورَمادٌ: كلُّ ما أتركُه أجلْ! إنّي لهيب حقّاً ". وهي الكلمات التي تحيل على العظمة وإرادة القوة والتحوّل. وسواء أكان هذا امتداحاً وامتناناً من لدن الشاعرة لنفسها، أو كان امتداحاً وامتناناً لعين النقد؛ فإنّ المديحين، بالأول والأساس، من مستحقات أي عمل نبحث عنه لنحبّه (كـ سيميائيين) عن جدارة، لكونه ينطق عن دلالةٍ كبيرة؛ لا تعرقلها المآخذ بقدر ما تنقلب المآخذ على نفسها، بذكاء، أو عن عمد من الشاعرة التي " نذرت يديها لأغلاط حميمة.. وتعودت أن تأثم لتكون لها ذنوب مستحقة "؛ لتصبح، إذاً، هذه الاعترافات إضافةً للمأخذ هي مفصلة العمل وثيمته. سأمعن في تفكيك أجزاء الدلالة، وردّها إلى أصلها، بأمانة. ولعلّ قارئاً ما يفكّكني قائلاً: دلالة كبيرة أو شعرية كبيرة؟ إنك في هذه المقالة النزقة تريد أن تتذوق الدلالة الكبيرة، وحسب! وهذا بؤس النقاد ( إذا كنت حقا ناقداً )؟! وإنني لأعترف أن سؤالاً كهذا هو بمثابة صفعات متناسخة عن صدى صوت السائل الواعي لما يدور. فمن الممكن أن نصل إلى الدلالة الكبيرة من خلال تركيب أجزائها في أي عمل مكتوب؟ والسؤال الآن مني: هل يمكن للشعر أن يأتي تركيباً؟ هذا إذا علمنا بأن جمانة حداد مترجمة! ولكني سأكون عملياً في ردي على السائل وعليّ، بمعنى أنني سأحاذي نيتشه المتفوّق بجمانة حداد المتفوّقة!

***
ولكني أودّ أن أضيف، بشكل عام، أن الحديث عن لغة الجسد، لا يجب أن يقودنا إلى الجنس، وحسب، وإنما إلى الأفعال التي يقوم بها الجسد. وكان زميلنا الشاعر والناقد الفلسطيني علاء كاتبة قد لخص ما وصله حول هذه الفكرة بقوله مع التصرّف: هناك شكل أول بدئي للترجمة، هو لغة الجسد، عبر ديمومة حركته، أي ديمومة أفعاله المتعددة: الجنس، الرقص، رقص ظلاله، العمل، النوم، الكسل: " هناك الكسل ما يزال دعوة "، السير: "سرت طويلاً في صحبة الظلّ ".. كذلك: " فصرت أدفق من التمرّد إلى الشغف "؛ ومع الأخيرة نحن نقرأ كيف أن ديمومة الحركة هي صيرورة الحبّ، " حب المصير " . وهذه الأفعال مرتبطة بجانب التفكير الغريزي البيولوجي في الإنسان. حيث يعيش الإنسان المبدع في هذه المرحلة كينونته ما قبل اللغة، ويا لها من سعادة حقيقية، تلك التي يحيا بها الكائن معناه الآن غريزياً في مطلق الحركة الممكنة للجسد. ولكن تعاسة الإنسان مقارنة بغيره من الكائنات، تكمن في تفوّقه، أي في قدرته على التفكير باللغة، وفي معنى آخر قدرته على امتصاص طاقة الجسد، أي تحويلها من طاقة حركية تعبيرية إلى طاقة ساكنة مفكّرة، تصبو بمجرد حضورها إلى فعل وحيد هو فعل الكلام، أي " اللافعل "، من أجل بلوغ روح المعنى.." (2). ولاحقاً، سنجد أنّ هذه الفكرة هي فكرة نيتشه عن "مبدأ التوازن والجمال في العمل الفني. وقد يكون من قبيل الحب أن نقبض على زخم أنسي الحاج في نصوص جمانة حداد، كون أنه يتكلم عن " الحب "، كما لو أنه حصل عليه من النزعة النيتشوية المتمثلة في "حبّ المصير" عند نيتشه: " وَتقدَّمتُ / لا للشعر ولا للعفوية ولا لأجلكم / تقدمت لأني في الحب! / وأصبحت الطعام / أصبحت طعام الحب / أكلني / حناناً شفقةً / نشوةً غيرةً / شكّاً ندماً / افتراساً انصلاباً / غباوةً تنازلاً / خوفاً قهراً / فشلاً غربةً / من كتفي وعينيّ وقلبي ومن أسناني / وجعل في رأسي خلخال العذاب / جعل رأسي يدور ويرن بين يدي ويرن بلا يدي ويرنّ / بلا وقت / لأني أهديتُ حتى النهاية وتقدمت بعد النهاية." فهو، أنسي "لا يفصل فصلاً أخلاقيًّا عدائيًّا بين الخير والشر "( 3)، وهو نيتشه يرى في "حب المصير" موقفاً، يجب أن يتبناه الإنسان في الحياة، ذلك أن الإنسان كاملٌ بتناقضاته الخير والشر معاً. وكان عبّر الشاعر أنسي الحاج واصفاً العلاقة بينه وبين المسيح بقوله: "علاقتي بالمسيح علاقة شخصية، حرة، علاقة إثم وحماية، علاقة paranoiuml;a "
***
إذن: تغطي جمانة حداد مجموعتها: "يدان إلى الهاوية "(4) بغطاء أسطوري، وفي الوقت ذاته، هي تكشف اللغة عن اللذة محتفظة بغلالة لإثارة القارئ بشكل ومعنى الأنثى، بوصفها جوهراً حسياً يحيل على جماليات ومتع الحياة؛ في مسعىً حرٍّ لتحقيق واقع الترادف بين الكتابة والأنثى، وملء الهاوية، إذاً، على أساس الحرية والاختيار:" اخترت لعريي جسد امرأة ". و" العري، حسب تفكيك دريدا للكلمة، هو النقاء والدعارة معاً ". وهنا لا يقف الحد بالشاعرة عند الاكتفاء بمساواة الهاوية بمستوى الأرض، بل يتجاوز الأمر ذلك؛ لتحيل دلالة ولادة الهاوية للجبال على إرادة ألوهية، أسطورية، نيتشويه وهايدغرية. بمقدار ما تحيل الولادة على بقاء الحياة: " لأنه من إرهاب الهاوية تولد الجبال ". من هذا الباب العالي تطلّ مجموعتها "يدان إلى الهاوية ". ففيها تؤله الذات لذّتها كأنثى هي ثمرة نفسها في المطلق الحسي، خارج الفصول، لأن " الفوضى راعية الفصول ". وهي في زمنها أو لحظة توحدّها، أبوابها موصدة، منفية في عليائها. ولكن سرعان ما تحرّر الثمرةُ نفسَها بالسقوط في الهاوية، في العالم الحسي، طريةً كلذة (=كثمرة)، كلذّة تتفتح ( = كشجرة، كغابة ): " لم تلدكِ شجرة / ولا اكتمل نضجكِ في الفصول / أبوابكِ موصدة / لكنّك طريّة كلذّة تتـفتّح ". هكذا جرّدت وجسدت الذات أنوثتها بثمرةٍ من شجرةٍ، كحال الجزء من الكل. فحين هي تجزم أن تكون ثمرةُ نفسِها وُلِدتْ من شجرة، فإنّ هذا يضعنا أمام هوية الانتماء واللاانتماء. وسيثير انتباه وتفكير حواسنا في هوية ذاتٍ منقسمة على نفسها، للوهلة الأولى. ولكنها هوية تجمع التناقض وتحافظ على مبدأ التوازن . ولنشير إلى أنّ " مبدأ التوازن والجمال في العمل الفني لم يرجعه نيتشه إلى حال سباتية بقدر ما يرجع إلى حال حركية، إذ شأنه شأن السائر على الحبل يعكس توتراً مستمراً للقوى المتعارضة. والإبداع الفني إنما هو، بدوره، تعبير عن الصراع والمنافسة وثمرة الانفعال الجياش، لذلك يذهب نيتشه إلى القول بأن الإثارة هي الدافع وراء الفن كما هي الدافع وراء الإبداع والخلق والتغيير، بها نفرض إرادتنا على موجودات العالم وبها نغير هذه الموجودات. وبهذا التغيير نرى أنفسنا ونعرفها.. ومن هنا يرى نيتشه أن أعظم عمل فني يستطيع الإنسان إبداعه إنما هو نفسه، أي أن يكون ذاته.."(5) فهي الشاعرة تفرض إرادة اللذة لتغيرَ وتحولَ الهاوية جبالاً. في الوقت الذي هي تحيّرنا بشأن انتمائها؛ فهي لا منتمية إلى نفسها ولا يحجبها عنها غياب.. حرةّ تغيب في السراب، لا هوية تحجم عنها ولا انتماء يهددها، لا تحيا تماماً ولا تغيب، متمردة وشغوفة، وحرّة بالأصالة.. وباللذة تستطيع الحياةَ والانتماء والعودة والتحول والتحويل، عبر التجريد والتجسيد، من ثمرةٍ إلى شجرةٍ إلى غابة. فسيان، أكانت ثمرة ولدت من شجرة أم لم تكن وُلدت، أو إذا كانت لم تولد بَعدُ، ويسبقها إلينا الوهم؛ فإنّ الولادة هنا متحققة بولادة الثمرة و الشجرة والغابة للظلال. بل هي الأشياءُ ظلال. إذاً، المبادرة للظلال، لا للكلمات كما عبر مالارميه. لذا، نجدها في نصّ: " محض ظلال " تُعرّف الظلال بالوهم الذي يسبقها إلينا - بوصف الذات حقيقةً معلومة وخفية. والحقيقة يطبعها متخفية أو تؤخّر تجليها عنا. ولعلها دعوة من قبل الشاعرة لنا لنستحضر تعريف نيتشه للشعر أنه محض خيال عبره تتجاوز الذات موضوعها. وقد جاء هذا التعريف متقدماً زمنياً على رأي هايدغر الذي رأى أن الشعر إنما يكشف لنا الحقيقة بوصفها لا تحجباً. ولكن جمانة حداد تجمل ما سبق بسؤال هام: " قولي كيف يؤتمن خيالكِ على الجوهر؟ ". أما هذا الشبق المتجلي في النصوص، فهو، أيضاً، لا يعدو عن كونه ظلاً لجوهر، لطبيعة، لماهية، غير متجليّة، في العالم بقدر تجلي حقيقة التركيب في الكتابة. ونذكر أنه عندما سئل نيتشه ما هي الحقيقة؟ أجاب: " هي حشد عاج من الاستعارات والكنايات والتجسيدات ". ولكن لنبقى مع الشاعرة التي تتحرّك فيها أصواتُ أنسي الحاج وظلال النيتشويين العاجة، وكذلك الحلوليين ولكن بشكل مقحم وقلق فنياً: " أتظاهر بأنني نفسي / لكن كائنات مجهولة تعيشني / عينان ليستا عيني تريان العالم / وأجساد أخرى تمشي بحياتي / أتظاهر بأنني نفسي / لكني المعلومة الخفية / لا مناجمي اكتشفت ولا صقلت معادني / ما يلوح مني / محض ظلال ألقيتموها عليّ / وتنوب عني / محض أفكار اخترعتموها لي ... أتظاهر بأنني معكم / لكن كائنات تعيشني / وإذا كنت لم أولد بعد / وسبقني الوهم إليكم م فلأني فضلت أن أتأخر قليلاً / حتى تأتي لحظتي / فيختفي الذين كنتهم / وأصير أنا نفسي ".
***
إنّ الواقع، كما يخبرنا نيتشه، أو عالم الأشياء يُقدم العيني الجزئي الفردي أو الحالة الفردية المحسوسة للتصورات الكلية ". ولكن العودة " - " عودة ليليت" كما هو عنوان مجموعة حديثة للشاعرة - والتحول في العالم الحسي يجعل الذات التي نفيت ومنحت الجنس والموت معاً؛ الذات التي " أَغْوَتِ الملذاتِ" يجعلها هُويةً طاردة للتصورات المجرّدة والكلية. ولمعرفة lt;lt; ليليت (Lilith) هي التي جاء ذكرها في الميثولوجيات السومرية والبابلية والآشورية والكنعانية، كما في العهد القديم والتلمود. تروي الأسطورة أنّـها المرأة الأولى، التي خلقها الله من التراب على غرار آدم. لكنّ ليليت رفضت الخضوع الأعمى للرجل وسئمت الجنّة، فتمرّدت وهربت ورفضت العودة. آنذاك نفاها الربّ إلى ظلال الأرض المقفرة، ثم خلق من ضلع آدم المرأة الثانية، حوّاء gt;gt; وإننا لنعلم أنه قد تَحَقّق النفي والطرد، بالمقابل، على الأرض، من قبل شاعر وفيلسوف هو نيتشه - الذي نراه يرقص في النصوص: "من يسلبني الغابة " مثلاً - الرجلُ الذي انتمى، بدوره، للغابة وسكن ظلالها، و" انزلق بنشوة من يرتمي في أحضان العدو "، وتصدى لكلّ من حاول أن يسلب منه الغابة بأجمل العداء، فقتلهم: " بنهم من ينتمي إلى هوية القاتل "، و" بعذوبة من يحتكم إلى حبل الجلاد ". وأما ما يجيء في نص: " لم أرتكب ما يكفي "، فإنّه يدين، أيضاً، بانتمائه الحركي والإستعاري المجتلب من نيتشه: " ما رأيت سراباً إلا تبعته / ما صادفت ناراً إلا أخذتني/لكنني لم أرتكب ما يكفي من الأخطاء / وسيمضي وقت طويل / قبل أن أبكي كما يجب / سيمضي وقت طويل / قبل أن أعرف كيف أفسد حياتي. ". هو إذاً، رسول العودة إلى الأرض والتمرّد، ونفي النفي، وتحويل الظلال المقفرة إلى حقائق وجماليات في العمل الفني، وإفساد الحياة. وعلى أثر ذلك، لا نريد العودة إلى نيتشه هذه المرة، لأننا أمام اعترافات هامة لفلوبير: " كانت تجتاز ذهني أحياناً أفكار جبارة كالبروق التي تلمع في الصيف؛ فتضيء مدينة بأسرها، بتفاصيل أبنيتها ومفارق شوارعها. ولما عثرتُ عند سواي على الأفكار التي وعيتها حتى بصيغها تثبط عزمي على الأثر، واستولى عليّ حنق الملك المخلوع " (6) وهي الدعوة التي نجد أثرها في نصوص الشاعرة التي تكتب بحسّ الغابة، وتحاكي شبق اللبوءة العائدة إلى زوجها؛ فتتجلى اللذة بوصفها غابةً أو مُطلقاً حسياً يتجسّد على الأرض، في اللبوءة، وهي رمز للقوة المستمدة من كونها مَلِكة، تهرع، الآن، من الضعف البريء إلى الضعف المطلق: " وها أنا / إلى الحب أعود / كعودة اللبوءة إلى زوجها / فمن يسلبني الغابة؟ " ومن طريق ذلك الضعف المطلق، هي سلطة تملك القدرةَ على إرهاب الآخر بأنوثتها. وهكذا مَلَكة ما كان لها أن تحيل على عنف الأنثى بمقدار ما هي تحيل على الكناية المتحوّلة والماكرة التي نشهدها في تركيب عنوان نصّ: "إرهاب الهاوية ". فحين تُصعّد هاوية اللذة كسلطة في النصّ، هي، تسعى، من خلال هذا التصعيد، لخلق تحولاتٍ هامة من قبيل تفسير السقوط في الهاوية صعوداً إلى الذروة. وهذه ملَكة من ملكات التحدي الشخصيّ الذي تعلنه الأنثى لإرهاب الآخر بقدرة اللذة على التحول والخلق. فضلاً عن ما تثيره الهاوية من انقباض وقلق وخوف. إنها، إذاً، أنثى المتناقضات: لذة وألم، خير وشر. والهاوية، كذلك، المصير، معكوساً، الذي يواجه به العالمُ الذات. إنها ما تثيرُ الهجس والقلق؛ وتحاول الغريبة أن تتجاوزها، أن تمحوها أو تردمها بأقنعتها؛ وهذه الأقنعة هي النافذة العمياء، هي المرآة التي يسقط فيها الوجه. لذلك نجدها، أيضاً، في نصّ: " تفكيك " التركيبي تبحث عن مخرج: " أبحث عنك أيتها الأجساد / كي أؤنس وحدتي / من أجل ترويض الخوف / أبحث عنك / من أجل تفكيك الأقنعة ". وهذه الأخيرة جملٌ تقريرية ليست شعرية. إنّ الجنس، بالنسبة للكائن، ما كان له أن يكون هو الإجابة الكاملة والثابتة، التي تملأ هُوية الكائن القلق على الدوام. لذلك ستظل اللحظة، هنا، عرضةً لانشقاق أبواب الذات على الهاوية الطافحة بدلالة الواقع البارد. وهو ما سيدفع بالذات للبحث عن هويتها في الأجساد الدافئة. فيحدث أن يكون الجمع، هنا، على أساس التوازن، بين انفتاح أو انتماء الذات إلى الهاوية (= اللذة )، وبين انشقاق واتجاه الذات للبحث عن الهوية في أجساد لا تكفّ عن الموت، كما يتجلى في نص " تفكيك ". هي، إذاً، تقيم في الهاوية وتغادرها، كلما كانت للارتباطِ ديمومة بين الذات والعالم على أساس الانتماء والتمرّد والرفض. لقد رأينا الكناية المتحولة والماكرة في تركيب العنوان: " إرهاب الهاوية "؛ تعبيراً عن سلطة الأنثى وعمق اللذة؛ وجاءت، أيضاً، مجلبةً للقلق والرهبة والخوف. الأمر الذي سيسهل انتقال السلطة في النص من الذات إلى العالم. فالعمق، هنا، هو الفجوة والقطيعة والاغتراب في هذا العالم، كما في هذا النصّ المصنوع: " أبحث عنكِ أيتها الأجساد الدافئة / يا أجزائي المتناثرة في شظايا الضياع / يا انشقاق أبواب الذات على الهاوية / ويا أقمار عينيّ الباردتين / أبحث عنكِ في عراء الليل/ لأسهر كثيرةً / في مجون وحدتي./ كفّي أيتها الأجساد عن الموت/ اجمحي كسماءٍ تغادر منتصف الحزن / كحبّ يعدو وراء حطامه / واقفزي/ من /أعالي / دعكك / إلى عشب النوم. / أبحث عنكِ أيتها الأجساد / كي أؤنس غربتي / من أجل ترويض الخوف/ أبحث عنكِ/ومن أجل تفكيك الأقنعة." وإذن، هذا ملمح من ملامح الدلالة المكتوبة على أساس ارتباط الهوية (الذات) بالهاوية (العالم) المليء بالغربة والأسى والانكسار المدوّي للذوات، بشكل عام، المتجهة رغم ذلك، لإيجاد صيغ للتعايش والتوازن. ما نجده على مساحة يكفل قياسها انتشارُ كلمة " إرهاب "، في نصوص جمانة حداد، يدلل لنا على أنّ لكتابة الأنثى بعداً من أبعاد مقاومة " إرهاب الذكورة والعالم باللذة. وكذلك الحال، عند النظر في استخدامها لمفردة " الإرهاب " في نصّ بعنوان " هوية " نجد الإقحام والتكلّف: " هكذا أنا / صمتٌ لأجمع شملي / إرهابٌ بطيء لأتبدد / صمتٌ وإرهاب لأشفى من ذاكرة لئيمة / عبثا الضوء كي أهتدي / لا أملك سوى أغلاطي ".وأما بالنسبة لارتباط اللذة بكلمة " الغابة "؛ ففي الغابة تنقسم وتتعدد السلطة، وتكون العودة فردية إلى الحبّ، في مقابل، تصارع الكائنات. وكثافة المجهول هي الإرهاب: كما هو معروف: " سوف أمشي في أوجاع الغابة /ولن تجدني الغابة / سوف أظن أحلامي هي أحلامي / وهزائمي ليست هزائمي ولن أتذكّرها..وهكذا تتطور حركةُ الدلالة داخل جدلية " الانقلاب ": من اللذة بوصفها ذروة التجاوز إلى الهاوية بوصفها الهوة السحيقة بين الجسر والنهر، والتي معها نشعر بالقلق والخوف، ويطاردنا شبح الموت، مثلما شَعَر أستاذنا القدير هايدغر بخطر وإرهاب ذلك.

إشارات:
1. رولان بارت، نقد وحقيقة، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، 1991، ص50.
2. علاء الدين كاتبه، مراتب النص، دار الفاروق، نابلس، 2001، ص150.
3. أنظر: حوار مع الشاعر في حريدة النهار،الأحد 23/1/1983، أنظر أيضاً مقالة لنا عن " الوليمة " منشورة في جريدة الحياة الجديدة الفلسطينية بتاريج 27/10/2005.
4. صدرت مجموعة: " يدان إلى هاوية " عن دار النهار للنشر- 2000.
5. أميرة مطر، فلسفة الجمال، دار الثقافة، القاهرة 1974، ص187-188.
6. لافاراند، فلوبير بقلمه، ترجمة: فؤاد قاسم، المنشورات العربية 1971، ص53.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف