الضجة المصطنعة حول أولادحارتنا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الوجه الآخر لأزمةالرسوم الدانماركية
هل تتحمل ممارستنا للحرية إجابة مختلفة لسؤال المصادرة والحرق؟
ولماذا يزايد البعض على نجيب محفوظ نفسه؟
مرة أخرى تثار قضية نشر رواية "أولاد حارتنا" للروائي الكبير نجيب محفوظ ومرة أخرى يحولها بعض المزايدين إلى معركة مصير لكن هذه المرة جاءت مزايدتهم حتى على موقف نجيب محفوظ نفسه، وهم يستبيحون لأنفسهم تحويل قضية نشرها "مقدسة" وينكرون على معارضيهم خوض معركة منع نشرها بوصفها معركة مقدسة، فهم في حقيقة الأمر "ملاك الحقيقة المطلقة العلمانية"، وموقفهم يؤكد أنهم يمارسون وصاية "عقائدية" على المجتمع لا تختلف عن الوصاية التي يدعيها بعض الإسلاميين إلا في المحتوى.
وبداية القصة ترجع إلى عام 1959 عندما نشرت "الأهرام" الرواية في 114 حلقة (وهو عدد سور القرآن الكريم) والرواية رمزية قال عنها نحيب محفوظ في حوار مع جريدة "القبس" الكويتية: ".. ومن هنا بدأت كتابة روايتي الكبيرة (أولاد حارتنا) التي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات"، وعندما أصدر الناقد جورج طرابيشي كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الروحية" علق على رواية أولاد حارتنا قائلا: "إنه يريد أن يعيد كتابة تاريخ البشرية منذ أن كان الإنسان الأول وما الإنسان الأول إلا أبينا آدم الذي ننتمي إليه جميعا في نظر التفسير الديني للتاريخ، ولكن هل من الممكن أن نتحدث عن آدم من غير أن نتحدث عن الله وعن الأرض وعن ملائكة السماء وإبليس وعن الحلم المستحيل في استعادة الفردوس؟"، و يكمل طرابيشي: "ولكن كيف يمكن أن يكون الله والملائكة وإبليس وآدم شخصيات في رواية؟ أي كيف يمكن الحديث عنهم من غير انتهاك للقدسيات؟ لقد وجد نجيب محفوظ الحل في هذه الحارة، الواقعية/ الأسطورية، الحقيقية/ الرمز، المحدودة واللامحدودة في أن واحد زمانيا ومكانيا".
ورؤية جورج طرابيشي هذه كان يمكن أن تظل مجرد وجهة نظر إلا أن نجيب محفوظ في رسالة خاصة أرسلها إليه ونشرها جورج طرابيشي يقول: "بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك وقوة استدلالك ولك أن تنشر عني أن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها". وربما كان الدافع لهذا التصريح الذي لا يحتاج إلى تفتيش في ضمير نجيب محفوظ أو تأويل "ديني" متعسف أن الرواية لم تكن متداولة وأن نجيب محفوظ نفسه لم يكن يتوقع أن يفوز بجائزة نوبل بعد أعوام، وربما لو تمنى لما توقع أن تكون "أولاد حارتنا" بالذات موضع إشارة وإشادة و"تفسير" من جانب الأكاديمية السويدية، فقد جاء في كلمة ستوري آلن السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية: "وللقراء الكثيرين الذين اكتسبهم نجيب محفوظ من خلال الثلاثية بخلفيتها الواسعة، التي تصور الحياة المعاصرة، جاءت (أولاد حارتنا كالمفاجأة المفرحة، فالرواية تمثل التاريخ الروحي للبشرية، وقد قسمت 114 فصلا بعدد سور القرآن الكريم، وشخصيات الإسلام واليهودية والمسيحية العظيمة تجئ متخفية لتواجه مواقف مملوءة بالتوتر.... فرجل العلم يمزج بنفسه بجدارة بين إكسير الحب وبعض الموت المتفجرة، وهو يتحمل مسئولية موت الجبلاوي أو الإله". ولولا أن المقام لا يتسع لأوردت عشرات النماذج المماثلة لهذه القراءة وسأكتفي هنا برأي الدكتور غالي شكري الذي يرى أن الرواية تعبير عن انتصار قيمة العلم على الدين وأن رحيل قاسم (رمز النبي محمد) هو المعادل الموضوعي لانتهاء رسالة الدين بل انتهاء عصر الأديان.
والمدافعون عن ضرورة نشر الرواية ينقسمون لفريقين أحدهما من مؤيدي نشر الرواية يفضل استغفال الناس واستحمارهم بالإلحاح على أكذوبة أن الرموز الواردة في الرواية تشير إلى ضباط يوليو وهو ما لا يستحق النقاش. الفريق الثاني يحترم نفسه ويحترم الحقيقة ولا ينكر أن الرواية - والتعبير لمحمود أمين العالم - "تتحرك في بناء مماثل لحركة الأديان الكبرى سواء في التوالي التاريخي أو توزيع الأشخاص أو المواقف أو الحوار أو التطور الفكري"، وهؤلاء يرون أن من حق المبدع أن يفعل وغير قليل منهم يبرر ذلك بأنه يدخل في إطار مفهوم "أنسنة المقدس"، غير أن أنسنة المقدس لا تجيز أبدا أن ينسب نجيب محفوظ الأشياء التي نسبها للشخصيات التي جعلها رموزا للأنبياء، فهم يشربون الحشيش ويلعبون القمار ويقدمون زوجاتهم للآخرين ليزنوا بهن، إنها قمة تدنيس المقدس!
والغريب أن يحدث هذا في الوقت نفسه الذي يتباكي بعض مؤيدي نشر الرواية بدموع التماسيح احتجاجا على رسوم كاريكاتورية تسئ للرسول في صحيفة أوروبية رغم أن الكاريكاتير فن كالرواية تماما لكنها العنصرية التي تجعل الموقف من فعل ما يختلف حسب جنسية فاعله!
وبالتالي فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو ما إذا كان يحق لمبدع أي مبدع أن يؤلف عملا رمزيا يضع به تاريخا موازيا للأديان ينطوي على إساءة للذات الإلهية والأنبياء أم لا، وهو يجعلنا في قلب السجال المزمن حول الحرية المطلقة التي يدعي العلمانيون أن "المبدع" يجب يتمتع بها. وهذه الحرية تجعل المبدع "إلها" لا يسئل عما يفعل وتجعل عملية الإبداع نفسها مقدسة بغض النظر عما تثمر عنه، وهو ما لا يمكن التسليم به. وحتى إذا افترضنا جدلا أن للإبداع مقدسات لا يجوز أن تمس، فبأي حجة تعتبر هذه القداسة أولى بالحماية من قداسة عقائد المساكين من غير المبدعين؟!
من ناحية أخرى فإن الجدل هو حول نشر "أولاد حارتنا" في دار الهلال أي بأموال الدولة وهذا بعد لا يمكن تغييبه أو تهميشه أو فالمال العام يحكم إنفاقه القانون ويجب أن يحترم إرادة الناس دافعي الضرائب مسلمين ومسيحيين، وإجبارهم على نشرها نوع من "الجزية" المعنوية تفرضها أقلية علمانية متطرفة على الأغلبية وهو ما يفتح الباب للصراع العقائدي حول الرواية ويجعله مبررا.
فالرواية نشرت عام 1994 في جريدة الأهالي واحتج على نشرها نجيب محفوظ نفسه! كما أنها عمليا مطروحة في طبعات مصورة عن الأصل البيروتي في مكتبات كثيرة دون أن يثير ذلك احتجاج أحد والإلحاح على طبعها في دار حكومية هو مسلك انتقامي أكثر من كونه إنصافا للرواية أو الروائي. وحسب تعبير أستاذ اللغويات الأمريكي المعروف والتر أونج فإن: "النص الذي يقول ما يعرف العالم كله أنه باطل سيظل يقول هذا البطلان للأبد"، ولهذا ظهرت فكرة حرق الكتب!