الكينونة، التفكيك، الطبيعة، ومنطق التكملة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الإهداء:
"لمْ أحدّدْ لمن أهدي هذه السماء؛
الآن، ذرّات أبي انتثرتْ، ويدُ أمّي طريق.."
مقدّمة: بمثابة غابة شاسعة، شعرية، حقيقية، ومدهشة:
(.....)
هنا، في أي مكان، هذا القلقُ يُحدّق في المارين المعرّضين للشبابيك والوحشة والزوايا والإثم والحلم والدخان والموت الرخيص. والسرعة تُصدّع وتشوّه صمودَ الإرادة بقوةٍ منتشرة ووقحة وساخرة تطلّ كرؤوس الشياطين من الأنحاء، ومن تفاصيل الظروف المعيوشة التي تهدّدنا، وتختزلنا في تسميات المستهلكين والجوعى والمهزومين والمذعنين والبلهاء. هذا ما يجعل الكتابةَ مدعوّةً للكتابة. وإنّ شقاء هذه الكتابة فيه من السعادة؛ كونه ينطوي على إرادة صبورة ومفكّرة وفكهة وغير ممتثلة للسذاجة وللمتاجرة وللادعاء بحبّ هذا الوطن الذي يشهد تطوراً داخلياً مؤسفاً من لدن السوقة والانتلجنسيا! إنني لن أتمخض عن صورة شعرية أكثر أسىً وسخريةً وقدرةً على اختزال وصفي لما في السطح والعمق؛ كالتي تصوّر الآن علمَاً على السطح يرفرفُ وظلّه يُحدثُ الضجيج على وجه قطعة صفيح في قرار حُفرة. فكلما شئتُ أن أتطلّع للأعلى برومانسية لا تخلو من الشهداء - مُتحيّناً إشراقهم - نكّسَ الظلّ رأسي! هكذا جماليات الحداد، وهكذا الشعر يُكرم الشهداء. وهكذا أمام المنظر جالسٌ وأقشّرُ الوعي والأشياء! وكلما تقدّمتُ عدتُ إلي طفولة الصورة: عندما، في الصباح، كان الصباح، في شفاه المَدْرَسَةِ، مُمُاثلاً، في الحقيقة، لكون الله في شفتي أمي. المدْرسة تذكّرني بأنماطٍ مختلفة من الزملاء والمُدرّسين؛ هناك من المُدرّسين من فقد ميزة التفكير وموازنة الأمور، لكثرة ما رَدّد النصوص. إفتحْ عقولَهم تَجِدُ صُفوفاً ولوحاتٍ مشاغبةً، وقهراً كبيراً، وبحيراتٍ ساخنةً وحنيناً وقواربَ مُرتجلة. الواضح هو الواضح، مثلما أنّ الغامض هو الغامض. لكني أتذكّر مُدرّساً تمخّض عن نوبة رفض واختلافٍ وما تيسّر من عقل الجنون. كلما رمقته، من بعيدٍ، في تجلياتٍ مفاجئة؛ أتصرّفُ تجاهه بحساسية واحترام، واستجيب لنوبة تأمل وتواصل حميم غير معهود. المدرسون في ذاكرتي نصوصٌ، ورموز متراكمة، ومعانٍ متراصة كذرّات الملح والسكّر. فما الذي يدعونني للكتابة بهذه الإرادة؟ الموت وحده دائماً لا ينسى ولا ينفد!
(.....)
الصورة بابٌ مفتوح على ممرّ، وإطار الباب أحمرُ، وجوهر الباب فجوة، وأنا في الممرّ أغسل عينيّ بالبحر، ويديّ بالتضرع والهواء. الصورة سوداء، والستائر سوداء على بدن الزجاج؛ حتى الوعي والحواس في حليب الأم مُعارضان، ومُعرّضان للصورة والزجاج. غير أنّ من حساسية نحن المشاءين - ليلاً - تجاه الهيولى، والكومة الملقاة على هامش الشارع؛ نرى الحياة جوهرةً، من بعيد، إلينا تشير. ومن حساسيتي في الصباح تجاه الندى والشاي وعافية القلب والديك والمرآة وبنط الفضيلة في صوت جدّي وترنيمة البائع الجوال تجيء القصيدة فردية؛ مثل بلورة دَحْرَجَتْ نفسها باتجاه يدي. في الحساسية الأولى أنا كنت نحنُ. وفي الثانية أنا أنا؛ أجعل الطبيعة والموضوع في تجّلٍّ لي. السمكة! المومس! التفاحة! البلورة. فهنا التملّك أخلاق الكينونة. ولكن: كلمة يدي ليست ملكي! وشرط الكينونة حسّاسٌ تجاه الشعرِ، بما هو، هنا، شرط " إرادة القوة "، كفنّ متعالٍ. وأما الصورة الموضوعية، فهذا التحوّل من نحن إلى أنا يظلّ مداناً، لكونه يفضح ترسيمة وخطاب الأنا المحتكرة. بما هي " إرادة القوة " كمفهوم وضعي. غير أنّ اللغة ملكي، والأرض، ملك الشعرِ، وليست ملكه! إننا نعيش المشهد الكابوسي المحلوم والمعيوش سواء بسواء؛ ففي خلفية البيت نعامةٌ، وفي داخل البيت أفعى تنظر وتقيم، وتمضي للخارج. وتقف النعامة في، فسحة تتضاءل، على رِجلٍ واحدة. وقد التفّتِ الأفعى على النعامة، وبعضلاتها الضاغطة كسرت رجلها الأخرى. فصرنا داخل الحلم الواقعي أو الواقع المحلوم أسرى صراع السؤال: هل خرجت الأفعى أم كمنت في البيت؟ في نصه " حجر الورد " يقول المتعدد الراحل حسين البرغوثي:
قلّب كلماتي تدرك أين تقيم الأفعى،
عندما تغترب تتساقط يا عبدُ، وعندما تتساقط تتحوّل، والعزلة زنبقة بيضاء ماطرة للبعض، وللبعض لعنةٌ، بورك الحبيبْ. (1)
ما جئتُ به، وجاء به المتعدد بوح كابوسي وأسطوري ورمزي مُخيف وغامض، حدّ أنه رائع وشعريّ؛ طلباً للطف وحياة الإسقاط والترميز. طلباً لـ سيغموند فرويد؛ من أجل تحليل النفسية مُصوّرة في الأفعى، مثلما كان حلّل بشكلٍ رائع وخطير " فقرةً كان تحدّث فيها ليوناردو دافنشي عن طيران النسر، مقاطعاً نفسه فجأة ليتتبع ذكرى من سني حياته المبكّرة جدا، طرأت على ذهنه، يقول دافنتشي: " يبد أنه قد قدر عليّ من قبل أن أشغل نفسي تماماً بالنسر، فإنه يطرأ على ذهني كذكري قديمة جدا، فحينما كنت لا أزال في المهد، هبط عليّ نسر، فتح فمي بذيله، وضربني عدة مرات بذيله على شفتي " (2). نحن بحاجة، كذلك، لـ ليفي شتراوس، لوصف بُني القرابة بين الأسطورة والواقع، بين الأفعى والنعامة، وبين النسر والأفعى، ولكن الأفعى، على أية حالٍ، كقيمة مزدوجة! إنني في غياب الإجابة أسمي الأفعى " إرادة القوة"، وأسمي النعامة، الكائن الطبيعي أو الحلمي المكسور، بـ: " إرادة ناقصة" وعاجزة؛ يمكن اعتبارها مثالاً لإرادة السياسة الكهلة التي تسعى لها - الآن - الأفعى الشابة، وتكمن فيها. هذه النعامة تقف على أرض صلبة، وأمامها جدار لا يمسح بممارسة فنّ دفن الرأس. وهذه الأرض الصلبة تمثّل ضعف الإمكانية. غير أن هذا الوقوف على رِجْل واحدة يظلّ منقسماً على تأويلين: صمود الإرادة، أو نقصها وعجزها أمام "إرادة القوة "! على أن صمود (صلابة) الإرادة، هنا، ليس، حقيقةً، هذا الوعي الإرادي بالموضوع، إنها، هذا الوعي الهارب إلى اليقين، من القلق؛ كما لدى الشاعر باسم النبريص، في رسالة موجّهةٍ "إلى رجلِ طاولة":
أحياناً،
بالأمس مثلاً:
تمنيتكِ وتداً لروحي.(3)
إذن، الأفعى كمرتكزٍ قويّ هدفٌ للتفكيك. ولن يقدرَ التفكيكُ الذي هو التفكيك على ذلك، بمعزل عن التعارض على أساس بنيوي: الشر / الخير أي: الأفعى / النعامة. لذلك سيمارس التفكيك، الذي هو التفكيك، اللعبةَ، بعد أن يسكنُ البنيويةَ التي تدعوه، بدورها للعودة إلى صفوفها، والقراءة في أثر جديد: النسر والأفعى، بعين التفكيك، من داخلها. هذه الثنائية - التي جعلت من الأفعى قيمةً منقلبة على نفسها الآن - تنطوي على استقراءين يتمخّض عنهما داخل كلّ طرفٍ من الأطرافِ الاختلافُ؛ فمن النسرِ نحن نستدل على: الحرّية والتوحّش. وأما الأفعى فتضع نفسها موضع التهديد، ومنها نسقرىء، أي نستدل على: السلم والمكر. إنه تفريخ الاختلاف كحضورٍ ضدّ حضور. لكن أليس من تماثل وتجانس هنا؟ بمعنى: أليس من ترادف وتماهٍ بين الحرّية والتوحّش؛ إذا ما نظرنا، على سبيل الترادف، لكلمة الجموح؟ لكن هذا سيدعوننا من جديد لإعادة النظر في هذين التماثل والتجانس الخطرين؛ الأول هو الهَمجيّة كصورة، والثاني هو الهيولى بشهادة من العلل الأرسطية الأربعة، وبمعزل عنها، في الوقت ذاته! السلم والمكر، أيضاً، كطرفٍ يخصّه الوصف ويعرّيه التفكيك، ويجرحه الحبّ ويقبض عليه، أو لا يعريه ولا يجرحه الحُبّ ولا يقبض عليه! نحنُ بحاجةٍ، إذن، لتفكيك الأرضيَّيْن: النعامة والأفعى، وتفكيك المختلفين: النسر والأفعى. فعلى مستوى البُعْدِ ثمة الاختلافُ؛ النسر إلى السماء، والأفعى على التراب. و{ كل من على التراب تراب }، و{ إنّ مثل عيسى عند ربه كمثلِ آدم خلقه من تراب }. هكذا على الأرض التماثل والاختلاف. كل ذلك إلى حتمية واحدة، عودة الأثر إلى الأصل! لكن، وبشأن التماثل والتجانس بحسب أنماط وأجناس الطبيعة، بالنسبة للنسر والأفعى؛ فإنّ الاختلاف يحضر من كون النسر من الطيور، والأفعى من الزواحف. سلسلة مدوّخة من الاختلافات والتماثلات الاستعارية والكنائية؛ بمثابة حلقات صاعدة للسماء، وساقطة على التراب، كالتفاحات. لكنّ التماثل يعود ليصف العلاقة بين النسر والأفعى؛ فكلا الكائنين يبيضان. كذلك، التماثل في حصولهما على " المعْرفة "، بالغزيزة والحواس. الصراع على البقاء وحفظ النوع. لذلك على حقّ قولنا: إنه تفريخ الاختلاف كحضورٍ ضدّ حضور؛ فهذا يدعو لخطر التعايش. نحن بحاجةٍ، إذن، إلى تفكيك وإعادة النظر في بناء " المعرفة " الموحّدة والمسلسلة لحضورات الاختلاف والتماثل. بحاجةٍ لوضع الاستراتيجيات والعمل بالواجبات من أجل الحماية والتوازن والرضى. نحن أمام نشاط غريزي خطير. بحاجة إلى تفكيك الخلاص. والخلاص! لكننا بحاجة إلى تفكيك الأفعى، كقيمة أرضية ومُزدوجة. إنها - بالطبيعة - مُسلّحة بخصائص المكر، وفنّون جميلة، فيما يتعلّق باللمعان والنعومة والحركة والكمون والعيش والتمويه؛ فهي مدبّرة بيت وربّة مَعرفة. إن لها " إرادة قوية " و " إرادة القوّة ".
(.....)
ويبقى القول، إنّ التفكيك، داخل اللغة كرموز، فيه جانب مهمّ من إرادة سيزيف. وإنه لينطوي، في الوقت ذاته، على " ضحك ولعب وجدّ وحبّ "، كما راق للشاعر إبراهيم المصري أن يعنون قصيدة نثر له. وسواء أطلق النقاد الإدعاء بالقراءة البريئة، بمعزل عن المكر أو بإفرازه، أو لم يطلقوا؛ فإنّ ذلك يظلّ ينطوي على مشقة النقّاد في عزل الشكل عن المضمون، الفنّ عن الواقع. ما يجعل أي ادعاء، بهذا الخصوص، مرفوضاً، وبنفس عدالة الرفض التي تقضي بلا إمكانية أن يتناول العقل الجواهر والمفاهيم خارج الوصف الحسي، التجريبي. ومن هنا، تقدّم التجريبي على المثالي. إن ثمة حرصاً على العمل هناك، على الحدود المفتوحة، بإرادة ساخرة ورائعة، والقيام بحروب صغيرة بعد الإفادة؛ وتحويل الشعور بالذنب أو الشعور بالإرادة البيضاء إلى طاقة كتابة. فبهذا التكتيك الخاطف الأبيض كُتِبَ لـ " خمس بطاقات من أجل دريدا " الحضور. إن الحدود المفتوحة لا تمكّن القارئ من أن يفصل، في هذا الآن، فلاسفة من أمثال: هوسرل، هايدغر، نيتشه، دريدا... ومن جاراهم كثير. فكل ما لا يمكن فصله، هو بالضرورة متداخل وشائك، أحياناً، بشكل يصعب معه الفصل وتحديد قرارات القمة عقب أو قبل مناقشة المسائل العالقة ومواجهة التهديدات. ولا ينبغي الفصل، أساساً، كما هو الحال بالنسبة للبنيوية والتفكيكية. فالثانية من الأولى، مثلما أنّ الأنطولوجيا من الفينومينولوجيا. هذا يعني بكلمات أخرى، إبقاء المجال مفتوحاً لإحياء الصراع، والتفكير في مغزى بناء وهدم العمارة. ومن طريق ذلك، أن نحاط بالهواء والردم، بعد أن ندرك ضرورة أن يَفرحَ التطبيق بنفسه السامية، كراية خفاقة، على أنقاض التنظير والتطبيل البطوليّ الشائع والفضفاض.
إن هذا العمل المستمرّ يريد أن يحصل على القوة من طريق الإرادة، إرادة التطبيق، إرادة رفع الراية البيضاء ( البراءة والإثم معاً) بحيوية الفكر وروعة التأويل، بمساءلة الجملة والمقولة المباشرة والعادية والمطمئنة، بإلاضاءة الفعالة والقوية؛ ككشاف الجنرال الذي يبحث عن خطر أو حِصْنٍ ما في الكينونة. الجنرال هو هايدغر. وإذنْ، تحرص، مَحطات في هذا العمل على محاكاة حيوية الفكر، لدى هايدغر، بقدر ما تحرص على محاكاة روعة التأويل. دون أن يدان الحرص بذلك الفهم السطحي لكلمة محاكاة. فمحاكاة كهذه، تنبع من كون الأصالة نفسها تتجلّى في علاقة حميمية بين الصديق و "الاهتمام "، وذلك يأتي تمشياً مع شرط هايدغر: " إذا كانت لغتنا تدعو ما ينتمي لكينونة الصديق ويتفرع عنها بـ" "الحميمي"، فإننا بطريقة مماثلة سندعو ما هو في ذاته " الشيء الذي يعنى به" بـ: "بؤرة التوتر". فكلّ ما هو متوتّر يسمح بالتفكير، لكنه لا يمنح هذه الموهبة إلا من حيث أنه كان ولا يزال " الشيء الذي يعنى به ". لهذا، سيسمي هايدغر انطلاقاً من الآن هذا الذي يُمكّن من التفكير - لأنه قد قام بذلك من قبل، ولا يزال يقوم به، قبل أي شيء آخر، وسيقوم به أيضاً، في المرات المقبلة - بـ:"البؤرة الأكثر توترا".. والتي تتجلي في كوننا لا نفكر بعد. دائماً ليس بعد، رغم أن حالة العالم تدعونا باستمرار إلى التفكير وتسمح به. ويبدو بحقّ أن هذه السيرورة تطلب من الإنسان أن يتصرّف بدلَ أن يخطب في محاضرات ومؤتمرات، فيظل يدور في إطار ما يجب أن يكون، والطريقة التي ينبغي من خلالها القيام بذلك. إنها إذن الممارسة التي تنقصه وليس الفكر. ورغم ذلك ربما يكون الإنسان قد تصرف ومارس كثيراً منذ عدة قرون، ولم يفكّرْ إلا قليلاً " (4).
(.....)
بقي أن أشير، هذه الكتابة، لا تريد أن تتمسّك بتسميات وتوصيفات مُحكمة من قبيل "دراسة"، أو " "بحث" أو "فصل من كتاب"؛ وإن كان لها أن تحصل على ما يمكن تسميته بهذه أو تلك. إنها من أعمال الامتداح، امتداح الاهتمام. إنني مَدْعوّ، إذن، للاحتفاظ بتسمية: "مقال مفتوح"؛ قد دَعَمَ نفسه، على الحدود المفتوحة، بالمصادر والمراجع، مُؤنة العمل. إنّ المصادر والمراجع المذكورة، تحاط بي، في أوقات القراءة، مضطجعاً، كما لو أنها أشبال حول أسدٍ جائع. أو بكلام فينومينولوجي، كما لو كان اعتقاداً بتبدّي "الفكر" من هناك. السؤال: ماذا تعني بـ "هناك "، هل هي الكتب، أم هي هذه الظروف المُحرّضة على " الفكر "؟ على أيه حال، فإنّ هذا "الإتيان"، للاستعمال يجعل الإجابة: نعم في الحالتين، وإن كان هو يقدّم ما ليس من معرفة الكتب. ذلك أن "الآن" هي "البؤرة الأكثر توتراً ". أي أن "الفكر" يتجلّى في الأفق المتاح والمُتيح. الكتب ليست أفقاً متاحاً ومتيحاً، وإن بدت تُحرّض على استعمالها. إن التأمل والاهتمام سابق على ما يمكث في الظلال (الأشبال)، وإن بدت تدعّم هذا التأمل والاهتمام. وهل يعني أنّ (الأسد) ميتافيزيقي. " أنْ نُبْدِي اهتمامنا بالفلسفة، يقول هايدغر، فإنّ هذا لن يكون قط شاهداً على أننا مستعدون للقيام بالتفكير، بل حتى عملنا على أن نكون مجدين لسنوات طويلة في دراسة أعمال وكتابات كبار المفكرين لا يضمن لنا بأننا نفكّر، ولا أننا مستعدون لتعلّم التفكير، وإن الاشتغال بالفلسفة يمكنه على العكس من ذلك، وبالطريق الأكثر فظاعةً، أن يجلب لنا الوهم بأننا نفكّر، لأننا، أليس كذلك؟ - "نتفلسف" (5). وإذا كان لي أن أسمي، بكلمات مبدئية، وآملة، " خمس بطاقات من أجل دريدا " خطوة استباقية للتفكيك الذي يجري على أرضية شخصية وإبداعية حسّاسة تجاه ما يندر أن ينتج - حول علاقة الشعر والأنا بالتفكيك. فهذا يعني أن (الأسد) هو المجاز، وأن الجوزاء هو الاستدلال. غير أن (الجوزاء) الذي يشكّل مع صورة (الأسدِ السماويّ) مجازاً يملأ الأنا، الأنا إذن في ورطة اختلاف مزاجين! وما يدهشنا أن المجاز يملأ الأنا! هذا، إذن، أولى بأن يجيبَ على سؤال: هل يعني أن الأسد ميتافيزيقي؟. نعم، لا يعني أنّ الأنا ترنسندنتالي. إن في هذه الطريق إقبال بهيج على اللعبة، وفي الوقت ذاته، امتداح الشعر والمزاج والفكر. وهل يُعينني ذلك على القول، إذن،: إنّ البطاقات الخمس خطوة على طريق تطبيق التفكيك وتفكيك التطبيق؟ إن هذه العمارة المستمرة تريد أن تسمح لنفسها بأن تُسمّي نفسها: تطبيق تطبيق تفكيك التفكيك. فأن نجعل الإرادة للحياة، هذا واجبنا كأبرياء، وإذا كان التاريخ يغسل نفسه بنفسه، فهذا يدلّ على نضج كافٍ فيه، وسجعله مسؤولاً عن ذاته مسؤولية لا محيد عنها. وأما الدماء التي تجري، وأما القلق والتوتر..؛ فإنّ علينا أن نتفاءل بيوم ما فيه يغسل التاريخ نفسه في حوض البشرية البكاءة؛ عندها يقْدر الوعي أن يرى البراءة داخل الناس وحركة الشارع. إن هذا "المقال" هو نتاج لحظة خاسرة وقلقة ويملأها شجن كوني أصيل، ولكنّ شفيعها الوقار. دون أن يفقدها ذلك هيبة الانفعال لمصلحة الوطن، بمعناه القريب، وبمعناه البعيد! إنني لا أبالغ حين أعلن أن هذا العمل يعلن عن نفسه مدافعاً عن الأصالة، ومتصدياً لأشكال الرداءة وتسمياتها، في تعدد مستويات الحياة. إنه عمل غير مهادن وساخر، وجاد. إنني على قناعة بأنه قادر على أن يصل بأسرع ما يمكن، إلى القارئ، نظراً لاهتمامه بالشعر والفكر، ونظراً لأنه ينتج نفسه في علاقة لافتة بين الشعر والأنا والتفكيك، على نحو تطبيقي، يشدّ ومثير. ولسوف يعترف القارئ، هنا، بوجود وقار فكري، وما أن يرى ذلك، حتى نسمعه يقول: إن الأسلوب مشحون بانفعال عميق الصلة بالشعرية والذاكرة، وبعملية تحسين تناول الفكر. عميق الصلة بالأحرى، بالغامض، وفيه تشكّلات تجربة.
الإهداء:
إنني، لمْ أحدّدْ لمن أهدي هذه السماء؛ الآن.. ذرات أبي انتثرتْ، ويد أمي طريق... إن في التحديد معصية، وأما كلمات (السماء، أبي، انتثرت، أمي، طريق )، فإنها كلمات يمكن اختزالها في مفاهيم استدلالية: الأنا، القرابة، الحرية، الحياة. هذه المفاهيم ليست هي من صميم العقل، إنها قرابات وجدانية. ليس الوجدان الخاصّ، "الخاص" يكبر حتى يصير هو "الكلي". إنّ "الكلي" يملأ "الآن". "الآن" هو: الأنا، القرابة، الحياة، الحرية. وإذا كان التحديد معصية، فقد نجت العاطفة من العقل، مثلما نجا الأخير من العدم. العدم هو: (لم أحدّد لمن)، وإذن: المعصية عدم. والنجاة مغفرة. ولقد درجت العادة على أن نختار كلمات الإهداء من خارج النصّ المُهدى، وعلى اعتبارات شكلية، ولو بدت حميمية؛ فإنّ اللفظية هي الغالبة أي غياب المعنى. لذا، تعوّدنا أن نمارس هذا الفعل، دون أن نفكّر، ملياً، في عمق انتماء ما نُهدي من كلماتٍ تنفتح على كثافة النصّ. فنادراً ما يكون الإهداء، الذي من كلماتٍ معدودةٍ، اختزالاً لخطاب النصّ. يجب ألا يكون الإهداء خارج النص. لا شيء خارج النص. لقد درجت العادة على ألا نفكّر في بناء الإهداء، لذا فثمة كلفة واعتباطية. وإذا ما حدّدنا بشكل لفظي أسماء أو اكليشيهات؛ نكون قد قضينا بمجانية الإهداء. عادة ما نسجّل الإهداء، عند التأكّد من أننا أكملنا النصّ الذي سنهديه؛ التأكد من حيث فحص سلامة وتكنيكات الخطة والخلاصات والروعة واللغة، بما في ذلك الفنيات الخاصة بالنصّ، أو ما تُعرف باللمسات الأخيرة، وتكون سابقة على كتابة الإهداء. إنّ تلك الفنيات تطمح إلى كمال النصّ، فحين يهتمّ واضع اللمسات الأخيرة بالتكملات -ذاك أن الكمال لا يحصل-، فإنه يتوّجه لبناء الإهداء؛ فيضعه، عادةً، مستقلاً في البداية. إن الإهداء، إذن، في استقلاله ووجوده في البداية ولفظيته وصياغته المشتبه في ارتباطها بالداخل، أو المرتبط بعاطفة على نحو لفظي صارخ، أو الذي لا يختار بطريقة توحي على اختزال المعنى؛ إنما هو ينطوي على أشكال ميتافيزيقية. غير أن الاهتمام باجتزاء الإهداء من الداخل، كما أفعل الآن، فإنه لا يعني، هنا، ترك فراغات في داخل النصّ الذي أقتطعه من الداخل، ولا يعني أن الإهداء أثر منقول عن أثر. إن أكثر ما أعنيه أن أؤكد تصدّي هذه اللفتة الحميمة للذين يريدون من النص أن يفكّك نفسه بنفسه من داخله. والذين يتحدثون عن التكرر والتشتت وغياب المعنى. إن الإهداء، بما هو داخل، يؤكد على الامتلاء. وأنّ النبضَ من أعمال العمق، الداخل. وأن تأمّلَ عاطفة الإهداء إنما يجعلنا، نقف، مُجدداً، في مواجهة " الانتشار " والبعثرة بـ: (ذرات أبي انتثرت). إنّ الذرات التي انتثرت لها دليل ومعنى. إنها تَحوّلتْ إلى نجوم كإجابة على العدم: (لم أحدد لمن). إنّ الترابيّ، إذاً، صار سماويّاً. وهذه الصيرورة، التي ابتهج فيما أنا أبدعها، إنما أفحم بها التفكيك! أفحمه بعاطفة كونية رائعة وحميمية. وأيضاً، فإنّ: ( يد أمي طريق) هي تصدّ وتفحم التفكيك، إنها يد بناءةٌ، يدُ إرادةٍ وطريق! إنّ الإهداء في الداخل، ذلك لأنّ النبض من أعمال الداخل. وحالما نقرأه في الداخل، فإننا سنتحوّل، في هذه اللحظة، من رأس الصفحة إلى العمق. إذ رأينا الوجود المعتاد، للإهداء، في البداية. إنّ نبضَ الداخل هو "الأصل". وأما "الأثر"، في هذه الحالة، هو ما تبدّى، بشكل معتاد، في البداية. البداية هي الخارج، والداخل هو العمق. والعاطفة أصل أثرها هو ما ظَهر في البداية، وما يظهر -الآن- في هذه الكتابة، ظلّ الداخل الذي تبدّى نسخةً عن الداخل. واضح أن تفكير الإهداء، وحديثنا عن الأصل (الداخل)، والأثر (الخارج)، إنما يريد أن يقول:، في لحظة الكتابة -الآن-، إنّ حميمية الداخل (الإهداء) مماثلةٌ لحميمية الخارج (الإهداء). وإنّه تجانس روحي. في هذا التجانس، فإنّ المفارق في المحايث، الخارج في الداخل، الأثر في الأصل. والخاصّ يكبر حتى يصير هو "الكلي"، الآن.
ماذا أفعل؟ أكتب بكثافة!
ذات يوم، عندما سئلتُ: ماذا أفعل؟ في عزلتي، أجبتُ: ( أنا أكتبُ - الآنَ - بكثافة ). إنه بالإمكان التصرّف في هذه الإجابة على النحو الذي لا يجعل ممكناً التلاعب في البنية؛ فلا يمكن أمام هذا التوصيل الحيّ تحريك يد التأويل، بغية إحداث أيّ انقطاع. الإجابة واضحة، وجلية، حد أنها تعليمية وميتافيزيقية، على أكثر من وجه. وكما لو أنّ العبارة مثالٌ يتلقاه تلميذ في مرحلته الأساسية، عن الضمائر وأنواعها. وكما لو أن تلميذاً يتدرّب على كتابة (أنا)؛ على شكل أعمدة تبدو، في الصفحة، منظمةً ورائعة. ولو قيّض للتلميذ أن يكون له زميلٌ تفكيكي، لما راقت للزميل هذه الأعمدة المنظمة والرائعة. لكنّ عبور التأمل على البنية الشفافة لا يقف بثقله في المرحلة الأساسية، كأستاذ فلسفة ألماني. هذا إذا علمنا أنّ التلقين شكل من أشكال تعلّم العلم والدين، الذي يُجهز على التأمّل في كلّ مراحل التعلّم. وتجاوزاً لمسائل التعلّم والتلقّي، ولأبعاد العناية بتكرار تدوين الأنا كأساس للمعرفة، أو تردادها على نحو نرجسي؛ فإنّ عبور التأملِ على بنية الإجابة، يكشف عن عمقٍ، ليس لمدّ يد التأويل فيه، وإنما لجعل الاقتصاد هو الميزة التي تنقذ الإجابة من التضخّم. لذا، فبالإمكان ادخار (أنا) في (أكتب). ولو أننا قلنا إفراغها لبدا لنا التصوّر كما لو أن شكلاً من أشكال الهندسة، رُسم، على نحو مثاليّ، ولكن على التراب. إنّ ادخار (أنا)، يعنى في الوقت ذاته، استثمار العمق، أي تأسيس الكينونة في الكتابة. إنّ الحديث عن العمقِ، هو من قبيل استعارة الفلسفة؛ إذا ما تم إبدال الادخار بالاختزال، في هذه الحالة. إنني إذ أختزل (أنا) أو أفرغها في (أكتب) أحسم ذلك بالقول: إن الكينونة سابقة على الكتابة، ولكنها لا تكون إلا مع الكتابة. هذا الشيء ليس هو الرفع، أو الحفظ. إنّ ذلك المصير الحاصل للـ(أنا) لا يشير إلى العملية الفلسفية: المختلف في المؤتلف، بقدر ما هو لا اختلاف على إيداع الأنا في الكتابة. غير أنّ عملية الاختزال، هذه، تنزاح عن كونها إرادةً تقدّمُ الكتابة على الكلام. إنّ النرجسية تتكلّم في الفعل ( أكتب ) الحاضر في الإرادة والممتلئ في (الآنَ)! وهذه الأخيرة زائدة، وحين نقتنع أنها حاضرة في (أكتب)، فينبغي الاستغناء عن ظهورها. إنّ مُساءلة الاقتصاد لبنية العبارة استند، بالأساس، على اكتشاف العمق بالتأمل الذي يقود، حتى هذه اللحظة، إلى مَسائل تُعدّ جدّ جوهرية داخل الفلسفة، التي تعالج مثل هذه المسائل من منظورات مختلفة. فما دعوناه بالادخار والاستثمار، وأزحناه بالاختزال و تأسيس العمق، أي ملئه؛ تدعوه فلسفات راسخة مرّة بـ"النفي" بمعنى: "المحو"، ومرة بـ "قيد الشطب "، ومرّة بـ"الانسحاب" أو "التخفي". "النفي"، أو "المحو"، ليس هو " قيد الشطب ". فالأول من صميم أعمال الفينومينولوحي هوسرل الشكاك الذي لا يؤمن، أساساً، بوجود الأِشياء والعقول، العالم الخارجي؛ إلا استناداً لوعيه الإرادي، الداخلي؛ هذا ما يدعونا إلى أن نفهم بأن الشك والمحو والنفي، لدى هذا الاستدلالي العقلي، أبعد ما يكون عن الحسي، التجريبي. إذ يعمل التفكيك بإرادة القوة، فيجعل " قيد الشطب" كل ما يشير إلى ميتافيزيقا الحضور. وعند هايدغر " الانسحاب ليس لا شيء، إنه هنا حصول بقدر ما هو احتفاظ بالذات، فما ينسحب يعني أمره الإنسان ويهمه بطريقة جدّ جوهرية. كما يدعوه بشكل أكثر حميمية مما يفعل ذلك أي شيء حاضر يقبض عليه ويستفزه. إن الاستفزاز الواقعي لنا يعتبر دعامة أساسية في بناء الواقع، لكن عملية استفزاز الواقعي للإنسان، يمكنها أن تفصله، بطريقة لا شك أنها ملغزة، عما يعنيه ويقترب منه. فالكينونة ( الوجود ) ملغزة، لأنها غير قابلة للنفاد، وهي كذلك لأنها تحتفظ دائما بأكثر مما تظهر. (6).
ومهما يكن، فإن هذا الحديث يجعل القول: إنّه بقدر ما تتعرض لـ (أنا) لدقة اختلاف المفاهيم السابقة، بقدر ما تستمد وتحتفظ حضورها، وحقّ التعويض والعودة، الآن. وهذه (الآن) تحضر، لا بصفتها المماثلة للفعل (أكتب)، من حيث هي حاضر وتأكيد الكينونة؛ وإنما من حيث هي اختزال للتماثلات: الوضع الراهن، اللحظة الراهنة، الفترة الحالية، الظرف الواقعي..؛ ويجب ألا نفهم وحسب مقولات حق التعويض والعودة، والتماثلات السابقة، فهماً سياسياً، وإن كان هذا الفهم يعني ما تعنيه أنا وجودية، و ذات إبداعية ومفكّرة، تتعرّض - الآن -لابتزاز وقح.
وتجاوزاً لما سبق، وبوعي إنساني أكبر، فإنّ (الآن) تمتصّ وتكبت التفاؤلَ، فيما داخلها سلسلة تماثلات واختلافات. تواجه الذات الكلية، الذات البشرية، المحتواة، المتورّطة والمستفزة. إنّ الراهن هو كثافة النصّ، هو كتلة النص التي تملأ العمق البشريّ. وإذن، فسلسلة التماثلات والاختلافات المختزلة تُحرّض على عمل عددٍ من التقديمات: الكتابة على الكلام، الموضوع على الذات، الحدث على البنية، الخارج على الداخل. كلّ تقديم سابقٍ هو تسمية ووصف للحياة. ولو أنّنا ننظر، على سبيل التقديم، للموت كضرورة تغيير؛ لما احتجنا، حقّا، كلّ هذه الحياة. الحياة هي أن يفارق وعيك أيّ تصوّر للمفاهيم والمثل والقيم والأخلاق والحقيقة و الحرية. الموت وحده هو النرجسيّ، الحقيقيّ، والثابت العملي الذي يرتبك أمامه الآخر. إنّ الموت يتكلّم - الآن - بصفته (أنا)، تتوجّه بوعي إراديّ إلى (الآخر)، النحن. وأما (أنا) كذات بشرية، أكتب بكثافة، فيما أنظر للموت بصفته (آخر). كذلك للحياة التي تتلهى باللعب والعدمية وعدم الفهم، السخرية والماسوشية والسادية والتأويل كتخبّط وانتقام. فالتفكيك، إذن، حيّ ومميت. يتعمّد الاختلاق واحتراف إساءة الفهم، وهو منحرف شاذ عن الطبيعة. إن الكتابة منذ وُجدت هي، من أجل التعويض والتوازن، في مواجهة الموت، ولكنها - الآن - إساءة للحياة، وتماماً، كما تسيء الصحافة للحقيقة. ماذا أفعل؟ أكتب بكثافة! أنا إذن، أفكك أناي وآخري، وأوصي بوصفي بالتفكيكي الخالد السعيد!
فينومينولوجيا الانترنت:
كل سؤال ينطوي على انتظار، وكل بحث ينطوي على إرادة صبورة. و قد اعتدتُ لمّا أكون في محادثة الكترونية مع الصديق: فتحي أبو النصر؛ أن أكتب له طالباً (الطلب هو السؤال) منه رابط موسيقى؛ يسدّد بأصابعه التي لا أراها، على الشاشة البيضاء: الآن = حالاً = حاضر. إنها سلسلة تماثلات، على سبيل الترادف، تملأ بالكتابة الإجابةَ. الكتابة هي الكينونة. الإجابة هي الوصول. والآن، فإنّ صوتُ الموسيقى يملأ السؤال إجابةً. الموسيقى هي التجاوز. الإجابة هي التعويض. وبالتأمل، فإنّ "الماسنجر" مفهوم رائع بالشراكة بين الفينومينولوجيا والتفكيك، من حيث إمكانية الشكّ الشطب والحظر والتخفّي والتجلّي والتأجيل والإرجاء والبعثرة، والبلاغة... إلخ. وبالأحرى، من حيث اللعب والضحك والجدّ والحب. مع " الماسنجر " ثمة تنشيط للسيمولوجيا. لقد دعاني ذلك لتطبيق اللعب والضحك والجد والحب مع من يخصونني كمعنى ويجرحني أن يكون الحظر والشطب والنفي والتخفي. غير أنّ هذا الذي ندعوه " الانترنت " صيغة فوق - شعرية للحضور المحلوم، للحلم الذي يختزل الأطراف، يعوّضهم ويشطبهم، يوصلهم ويعزلهم، يمنحهم الحماية ويعرّيهم، ويَحُفّهم بحميّمية الوجود وسخريته. في الوقت الذي نسمّي الانفصال، نحن نتطوّرُ لشطب التسمية بالتماهي، وبالغيرية التي تعزز الاعتقاد بأنّ كل طرف إلهٍ ينفض - الآن - عنه التراب، وأنّ ثمة صوت للحقيقة يَصدحُ داخله بأنه المفارق لإنسانه الشخصيّ. هذا ضرب من التوهّم والنرجسية. إن التماهي أو هذا الاختزال، هنا، ليس هو أنا متعالٍ، بقدر ما هو تماه في ذاتِ الطموح ذاته، في هذه اللحظة. وبقدر ما هو معالجة نفسية. إنه اختزال يهدف إلى التعويض والبراءة من الخارج، بمقدار ما يطمح لمعرفة الآخر، والتوق إلى التحرّر من نمط الحياة الصارخ. فالمفارقة مفارقة للأنماط وضيق "أفق العيش" بالمعنى الذي تهدده الاستفزازات الواقعية، غير أنّ المعنى لا يعزل نفسه عن " أفق العيش " الذي تهدّده التقنية، بالنسبة لهوسرل. إن الذي يجبني، بـ:الآن وبمثيلاتها، وبروابط الموسيقى، لم يدع لإمكانية الخلاص أن تنفتح على التقنيةِ التي نستعملها؛ بقدر ما أنها إمكانية تدعو الوعي والحواس، لتسمية ووصف حضور " الكميبوتر " بكمالياته ومرفقاته، كتقنية للاستعمال، لا النفعي بالمعنى السطحي، ولكن بالمعنى الذي يُسمّي ويصف الذهاب إلى التقنية بالحرية، هذه الكلمة الاستدلالية التي تَجَسّدتْ وعَبَرَتْ في العلم. إن صوت الموسيقى، وهو ينساب في سمعي، باستعمالي الأداة، ليس هو الماهية، فهو أثر كونه يأتي من التقنية. إننا نتحدّث إلى المادة بما يوحي لِمُسنّ البيت، بأننا مجانين ومسرفين في التحدّث إلى أنفسنا، على نحوٍ نتصور معه أننا نجيب على السؤال. كل تأمّلٍ مَعرفةٌ أكبر بشجن السؤال. وكل إجابة من قبيل هذه المعرفة خلاص لا يسمو إلى الخلاص. إنّ هذا " الانترنت " ليس إجابة، بقدر ما هو تعويض هامشيّ وإيماضيّ لسؤال الخلاص الكبير. نحن نتطوّر إلى عدم فهم أوسع أمام ما يطرأ، ونختزل الخلاص الكبير في التعويض الساخر، وغير المنقذ من اغترابنا. نحن أسرى القلق والإثم والموت والسرعة والإطار. إنّ عالم الانترنت يسمح، وعلى الدوام، باتخاذ موقف داخلي شكاك؛ بما أنّ الوعي الإرادي هو الذي يقرر - الآن - أن يتجه إلى هناك. أن يتساءل عن موضوعية وحقيقة الأسماء والصور والكتابة والأصوات، الأشياء والعقول. أن يُقرّر الامتناع عن التوجه، فتلك إرادة العدم. إنّ القرار يمثّل نزعة محو هذا العالم، بأشيائه وبعقوله. لكن إذا كان هذا العالم قد انسحب لدقائق أو لساعات، فإنّ ذلك يقترح علينا أن نتعايش مع العالم كأشياء وحقائق تتبدى وتتخفى. إنّ القول بعدم وجود اتصال، أو كهرباء، لا يجب أن يؤكد العدم كإمكانية للحضور، ذلك أنّ علينا أن نفهم ما يحدث في إطار فهمنا الأنطولوجي للتجلي والخفاء. وهذا القول يضمن التطرق للمحسوس؛ فهو يعني أسبقية الحسي على العقلي؛ فعدم الاتصال وانقطاع الكهرباء هي أمور نعيها داخل العالم الحسي، التجريبي، ومن ناحية أدق، لكوننا ننظر بحساسية وجوهرية تجاه العلم والتقنية. فالحرية تعبر إلى التقنية لنتمتّع بحضورها! وفي هذه الحالة، فإن العالم الافتراضي هو عالم واقعي مثالي، استدلالي، يتعرّض مثلما نتعرض للابتزاز والاستفزاز. لا ينبغي، إذن، الشك في العلم الذي بدا يتصف بالشعرية الصافية من الخيال. إن ما يحدث حقيقة، ولا يجب أن يهدّدنا الموتُ الذي يتقمّص أشكال الشك؛ حيث يعيدنا لهوسرل، إن منظوره وتحديده لجهة الوعي قاتل لعالم حميمي وشعري. يبدو أننا نجحنا لغاية الآن نجاحاً ملحوظاً في تخليص العلم والتقنية من شكّ الشكاك. غير أنّنا نواجه التفكيك، دون أن نحمل من الدفاع ما يمكننا من حماية هذا العالم المثالي من المصطلحات التفكيكية التي تجد حياتها أكثر رفاهية في هذا النصّ. القول الأول: أنّ هذا العالم هو الحضور محلوماً. إنّ هذا العالم ليس مشكوكاً فيه، بقدر ما أنه آثار لآثار. كما أنّ التكرار في، هذه الحالة، ليس تكراراً للأصل، بقدر ما هو استنساخ أثر لأثر.. ودواليك. فالصور والكتابات والأصوات، في هذا النصّ النزق المائع، هي ليست أصيلة، ليست بريئة. إنها تنطوي على بلاغة سميكة - وإن بدا ظهورها شفافاً - وعلى معانٍ مختلفة، وغيابات وفوضى. حتى الفضاء الأبيض لا هو بالفضاء ولا هو بالأبيض. لكنه، مجازاً، فضاء للعب والضحك والجد والحب. الكتابة، عوضاً عن ذلك، أثر لا يشبه حتى أثره. لا حقيقة، ولا أِشياء بريئة. إنّ الإنترنت هو بلاغة مفتوحة على العلم والأدب والفلسفة. وعندما نخرج من هذا العالم المشكوك فيه، هذا العالم المنسحب لدقائق، هذا العالم المحلوم؛ يكون الموت والإحساس بالخطر، وبالعدم قد ملأ هذه الدقائق والساعات. وإذا ما تعثرنا بحجر أو تعرّضنا لأذىً ووحشة ليلٍ أو رهبة ضوء، بعد الخروج من لحظة التعويض، قلنا: يا الله. وإذا ما راجعنا أنفسنا كان الله المفارقُ صوتاً داخلنا. وهكذا نحن إزاء المفارق والمحايث نختزل ونحايث أنفسنا في الموسيقى والكلام والكتابة. وعندما نصغي لصوت طائر داخل السروة - الآن -، حتى ولو كان الغراب؛ فإننا نصغي لشجن ميتافيزيقي داخلنا، صوت يدعنا نحتفل بحقيقة وخير وجمال أنفسنا. إن الغربان في السروة أبرياء. وهم على السروة هم بغضاء. وحين نصغي للشجن القادم من وجه السروة، كما هو من وجه الثورة، فإن علينا أن نُسمّي الغربان، وأنفسنا داخل ثنائية الداخل والخارج.
الكينونة، الذاكرة، الكلام، الكتابة:
الإنسان ذكرى، الذاكرة هي الشخصية. والصوت يظلّ ما حيّاً في داخل الشخصية، بالتذكّر والاستحضار. ففي هذه اللحظة أنا أتذكّر عزيزاً غائباً، هو أنا في ذاكرة عزيزٍ حاضر. إنه يستمع إليّ أتكلّم، كما لو أنّ حواراً بيني وبينه في الداخل. وهذا معناه تعويض للغياب، وتواصل حميميّ وتطمين بالخلود، و تجلٍّ للحنين. والكتابة تطمين بالخلود! وهذا معناه، أيضاً، تحويل الشعور بالذنب إلى كتابة أو كلام بشكلٍ حِواري داخلي. وتحويل الشعور بالإرادة البيضاء إلى اندفاعة تمثلها طاقة كتابة تنهل من الإرادة، وتُعرّي وتطلبُ الحماية من الموت، فوحده يستطيع أن يشطبَ، وفي الوقت ذاته، لا يستطيع. إنّ الكلام المُتكلّم في الذاكرة ليس الأصل، الآن. بل الأثر الذي يُعوّض ويحتفظ بالحب والمعنى. وأنا الأثر - الآن - يتذكّرني أو يستحضر كلامي عزيزٌ حاضر. غير أنّ الصوتَ ذاهبٌ من عمقي، أنا العزيز الغائب، إلى العزيز الحاضر. هذا يعني أنني أكتب - الآن - كينونتي في العزيز الغائب. الكتابة بوصفها كلاماً في ذاكرته، أو الكلام بوصفه كتابة. إذ الكينونة في الكتابة، بعد الكينونة في الذاكرة. ولكنّ السؤال: هل الكلام لدى أيّ عزيزٍ منا هو الأثر أم الأصل، هو الكتابة أم الكلام؟ إننا هنا نتساءل فيما نستدعي تشبيه فرويد للذاكرة، فهو يشبهها " بجهاز كتابة - الكتابة (الخطية) بالنسبة لفرويد تقنية خارجية - مُوجّهة لخدمة الذاكرة، التي تنطبع، بشكل من الأشكال، داخلها عملية تسجيل لآثار تنطلق من عملية تلقي التذكر: ما تم إدراكه يدمج داخل ما تم تسجيله كأثر، والكتابة بفعل ذلك، تحدد الزمنية للذاكرة، وأشكال التطابق، والتوالي، والتناوب.. إلخ؛ يعلّق دريدا على هذا أيضاً، أن فضاء الكتابة، قد تمّت تكملته بالزمنية، حيث الزمن يشكّل اقتصاد الكتابة. وهنا، يصل دريدا إلى ما يمكن اعتباره لا وعي النص، أو اللاوعي النصي، حيث النص ( الظاهر) تنصيصاً، يتشكل عبر طبقات متعددة، ومستويات مختلفة، منها ما هو نفسي، وما هو اجتماعي، وما هو ثقافي، وما يرتبط بالعالم ". (7). لكننا نتحوّل من هنا، إلى هناك، إلى التفكّر في الكينونة الكائنة في " الذاكرة ". كينونةِ أيّ عزيز منا، في حالات التناظر والتخفي والتجلي الفينومينولوحي داخل " الذاكرة ". الأنا (الكينونة ) في الكتابة أعظم من أن يشار إليها سيكولوجياً. لقد ركّز هايدغر على هذه الإشارة، لدحضها، وذلك عندما تناول قصيدة " منيموزين " لـ" هولدرين "، التي ترجمها بـ " ذاكرة "؛ و" منيموزين " هذه اسم لـ: (تطانيد) بنت السماء والأرض وخطيبة (زيوس) التي صارت أما للفنون في ظرف تسع ليال، وقد أصبح كل من الرقص والغناء والشعر محمولاً في ثدي (منيموزين) الذاكرة. من هنا يتضح، لهايدغر، أن كلمة (ذاكرة) تدل، هنا، على شيء آخر غير الملكة التي افترضها على النفس، أي القدرة على الاحتفاظ بالماضي والإبقاء عليه في التمثّل؛ ذاكرة تفكّر في ما قد فكّر فيه.. فالذاكرة بما هي ذكرى منتقاة وموجهة صوب ما يجب التفكير فيه، تمثل الأرضية التي منها ينبع الشعر. والفكر هو المكان الذي ترقد فيه ماهية الأخير. (8). وبما يخصّ تقديم الكتابة على الصوت، فإن الصوت يحضر قبل أن تكملُ العبارةُ معناها في القارئ. فمثلاً لمجرد أن أبدأ بقراءة عبارة: ( المطر في هذه الليلة لم يهطل )، فإنّ صوتَ (موسيقى) المطر حَضَر لي ومعه رأيت الهطول قبل أن أبلغ المعنى الذي وصلني بعد انتهاء قراءتي للعبارة. إذن، فالاختلاف هنا ليس مُؤسساً على تقديم الكتابة على كلام المطر؛ بقدر ما هو يثير تساؤلاً حساساً حول الاختلاف في حضور الصوت من الرمز. فالرمز هو أثر من حيث كونه رمزاً في اللغة، و هو أثر من حيث صوت المطر الذي هو أثرٌ من آثار الطبيعة. وهل المطر أصل من أصول الطبيعة؟ وهل الطبيعة هي الأصل أم هي الأثر؟ إنّ هذا السؤال يقف، بعلاقة، بالنسبة لله المفارق والمحايث، لكن يمكننا الإجابة: أنّنا نختزل ونحايث أنفسنا في الكلام والكتابة. إنّ العبارة المذكورة ما هي إلا الترميزات التي ليس لها جوهراً وصفاتٍ في ذاتها، بقدر ما أنها تجاورت لتفيدَ بعدم هطول المطر. غير أن ما يهمّ الشعر هنا، هو أنّ صوت (موسيقى) المطر في هذه اللحظة يملأ حرمان الطبيعة في إرادة الطامح، قبل أن يفشل الطموح بعد إخبار العبارةُ القارئ عن حقيقة عدم الهضول. الصوتُ سابقٌ على اكتمال المعنى، هنا. وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الإرادة القارئة غير طامحة ولا راغبة؛ فهنا تقود الحاسّة نفسها حتى نهاية العبارة. إنّ نهاية العبارة - الآن - حضرت بصفتها خلاص الإرادة المختلفة. وحتى على الرغم من إنتاج الغياب لنفسه من طريق قيادة الحاسّة نفسها حتى نهاية العبارة؛ فإنه يظلّ الاعتبار، كهاجسٍ، أن ( المطر في هذه الليلة.... )، أو ما نسمّيه كتم كلام أو تدوين المطر في الذاكرة والمخيّلة. كل ما سبق يريد أن يملأ الكينونة في الإرادة. وما سبق يريد أن يقول: الصوت أولاً، ثم المعنى في مناسبة كمناسبة العبارة. إنّ القول بذلك في هذه المناسبة يعني أن الصوت هو المعنى، هو الإرادة الطموحة التي تشطب معنى عبارة الطبيعة الممتنعة. إن هذا بمثابة حنين في كلّ علامة يخصّها الصوت والصورة الطبيعيين، كما علامة (المطر). هذا المطر الذي امتنع عن الخارج؛ فإنه داخل الإرادة الطامحة، وفي الذاكرة والمُخيّلة يُعوّض غيابه بهطوله الاحتفالي والحِواري والإشاري، في شكل قصيدةٍ تنتجها المُخيلة؛ بشكل يجعل القول إنّ هذا الإنتاج الفني يدين في محتواه للطبيعة المُمْتنعة. فهنا تم التحوّل من العبارة إلى الإشارة. في حين أن القصيدة تدين في كثافتها للشعر. إنّ موسيقى المطر في الذاكرة، وفي المخيلة تسبق القصيدة. إنّ الموسيقى تصير، هي ذاتها، ذاكرة القصيدة. القصيدة هي " براءة الصيرورة ". " إن الغناء والرقص والموسيقى، بإمكان كل ذلك أن يُولّد صوراً، غير أنّ الصور ليست بإمكانها أن أبداً أن تولّد الموسيقى (9)، هذا ما يراه نيتشه ويصرّ عليه. فهنا يمكن القول إنّ شرط الكينونة، كينونة الفن، والتعويض حسّاسٌ تجاه الشعرِ، بما هو الشعر محايثاً في " إرادة "، كـفنّ متعالٍ، كجوهر؛ غير أنّ نيتشه ينظر بخبث حين هو يسمي "الكينونة" و"الإرادة" و"الفنّان" و"الجوهر"!
هل للضوء امرأة تصلّي؟
يتساءل الشاعر يوسف القدرة في مجموعته، " براءة العتمة ":
هل للضوء امرأة تصلّي؟
متى يكون النصّ كاملاً كي أذهب للنوم؟
ريثما تنتج الأدمغة صوراً جديدة أقول: ديني لنفسي. (10)
ولا يمكننا أمام هذا السؤال الأول أن نفصل، أو أن نعزل، أو حتى أن نحدّد ما إذا كانت خلفية التساؤل طلباً للمعرفة من طريق العقل، أم طلباً لها من طريق الحسّ؟ غير أنّ ما يظلّ أسيراً لرغبةِ التأويل هو تَصَوّر السؤال، بما هو وجود في حد ذاته، على أكثر من وجه؛ كأن تنتج الأدمغة المختلفة، بمعنى أن تحدث الأدمغة تصوّرات، من قبيل: ( هل امرأة تصلّي للضوء؟)، لتعطي السؤال مرة صيغة البحث، ومرة صيغة الحثّ، والحضّ. إن الحيرة، هنا، هي حيرة البحث عن تنظيم منطقي لترتيب السؤال؛ على نحوٍ لا يترك مجالاً لغياب المعنى، وانقسام التصوّر والمفهوم. غير أنّ ما يُحفّزنا على إقصاء ذلك البحث المنطقي في البنية الغامضة، هو هذه البنية الحسية الشعرية المثيرة، التي تجعل منا قرّاءً شكلانيين. غير أنّنا نتحوّل عبر تأمّل في عمق، على نحو مسؤول، في تناول السؤالِ بصفته صورة من: ضوء، امرأة، حركة، وهيأة. أي: فيزياء. إذن، فهناك ميتا فيزياء. هنا امرأة وضوء وصلاة. بحث عن امرأة خارج الحسّ، تمّ تجسيدها لتحديد البحث عنها في العالم الحسي التجريبي. هذا البحث ليس عن امرأة، بقدر هو بحث عن النقاء والخلاص؛ هذا إذا ما نظرنا في الضوء بصفته عمقاً للورطة والحدّة و والصخب والبلاغة. إنّ امرأة الضوء، بهذا المعنى، هي خلاص النفس من الضوء. وعلى وجهٍ ثان، من تأويل الصورة، فإذا اعتبرنا العكس؛ فالمرأة هي المفارقة للنقاء والقداسة، جاحدة وغير مؤمنة بالخلاص بما هو ضوء. أهو خلاص الضوء من المرأة، أم خلاص المرأة من الضوء؟؛ أهو خلاص المظهر من العمق، أم خلاص العمق من المظهر؟؛ خلاص الروح من الجسد أم خلاص الجسد من الروح؟ تأويل متعدّد للإجابة. غير أنّ السؤال التابع: (متى يكون النصّ كاملاً كي أذهب للنوم؟)، يدعم السؤال المتبوع: " هل للضوء امرأة تصلي؟". فهو يحضر من حضوره. لكنه سيظهر أكثر تسمية ووصفاً؛ فهو بحثٌ واضح عن الكينونة داخل الزمن الحاضر النسبيّ: (متى يكونُ النصّ كاملاً؟ ) سؤال يسأل عن إجابته التي في داخله الآن: ( كي أذهب إلى النوم ). إنّ تحقيق الكينونة شرط الذهاب للنوم الذي يستدعي أن تكون اليقظة على النقيض. اليقظة هي المظهر والضوء والخارج. سلسلة من التوترات نفهم، من العيش داخلها، حاجة الذهاب للنوم؛ حيث يختزل المعنى في إجابة منتظرة، هي الخلاص. غير أن الشعر لا يأتي بالخلاص. في مقالة بعنوان " هايدغر والشعر: الشعر لا يأتي بالخلاص ". يتساءل ميشيل هار: كيف ينفي هايدغر، مثلما فعل، عن القصيدة الإحالة والرجوع إلى ذاتية الشاعر. وإلى تجربته المعاشة، وإلى تاريخه الشخصي؟ كيف تستطيع اللغة أن تتحدّث، وأن تتحدّث عن نفسها أولاً، قبل الشاعر؟ كيف نثبت أن الشعر يقول بالأساس شيئاً مقدّساً - شيئاً مقدّساً يمكن أن يكون مستقلاً عن الدين، وأكثر قدماً من أي دين. أي أن نفهم لا كفضاء سليم ولكن بالأحرى كقوّة إيجابية شافية ومنقذة؟ ما هو الخلاص من خلال الشعر؟ أليس هو بالإضافة إلى كل هذا هروباً رومانتيقياً خارج اضطرابات هذا العالم؟ (11) " الشاعر لا يأتي بالخلاص غير أنه يحتفظ بعُسْر كامل هو عُسر عصره وليس عُسر حياته الخاصة، وانفعاله ناجع وليس هروباً؛ ذلك أن حزنه ومنفاه وتمرّده وعذابه أو فرحه بالمعنى العميق للكلمة كل هذه الأحاسيس تنزل إلى أعماق عصره وتتغذى من ينابيعه، وهي التدفّق الجديد للتاريخ " (12).
أعرف أنّ النور فحم مبتسم:
وثمة صورة شعرية على درجة أهمّ من الروعة، أيضاً، للشاعر يوسف القدرة. كما لو أنها كرامة حلّت في أنا العارف الحسي، وبأعلى عمق لانكشاف صُورة الذات المتجدّدة: " أعرفُ أنّ النورَ فحمٌ مٌبتسم ". والآن، عندما نجتزئ هذه الصورة، ونقتصر على القول: ( أعرف أن النور فحمٌ )، فإنّ ذلك يظهر ليشير إلى تشاؤم وسوداوية مكتملة بامتلاء الخبر (فحم)، الكتلة السوداء التي تظهر في الخارج. وأما النور، فإنه النظير النفسي بصفته مادّةٍ شفّافة شائعة، وهي خبرٌ وصفة للروح. وبشكل مطلق، خبر وصفة للمبتدأ { الله نور }. غير أنّ هذا سيتحوّل إلى نقيضه تماماً، في حال اكتملتْ الجملةُ، وعادت إلى طبيعتها المكتوبة؛ بعد أن كان النور مادّة مكبوتة في الخبر (فحم). إنّ تحرّرها واكتمالها لن يتمّ إلا بحضور الصفة (مبتسم). لقد طرأت الصفة على الموصوف فغيّرتْ في طبيعته وصفته، بعد أن كان شيئاً معزولاً وتنتج النفسُ حضورَه لتجسيد ولوصف الداخل. إنّ الصفة، هنا، تحضر بما هي إرادةٌ وجوهرٌ. فهي المُكمّلة، وبحضورها تُصبح الإرادةُ مكتملةً. وحضورها حدثٌ حيويّ. والبنية تتمخَّض عن التفاؤل والتج