دلالات البناء الفني في كائنات أكثر رمادية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
المجموعة القصصية الاولى للقاص العراقي عامر حمزة
صدرت عن دار الشؤون الثقافية في العراق مؤخرا المجموعة القصصية الاولى للقاص العراقي عامر حمزة. و من خلال نصوص هذه المجموعة يحاول القاص تحديد ملامح مشروعه القصصي الخاص، للوصول الى تحقيق الاضافة المبدعة من خلال الانقطاع مع كل ما هو نمطي وتقليدي، والدخول في مغامرة التجريب. والتجريب عند القاص عامر حمزة هو عملية بحث جاد وواعي عن اشكال واساليب لبناء النص السردي وتشكيل الخطاب القصصي وليس فعلا عشوائيا غايته المغايرة فقط. فالعملية الابداعية تقوم بجوهرها على اساس المغايرة والاضافة التي تحمل دلالة ايجابية، اذ ان فعل المغايرة مجردا لا يكفي للدخول في مجالات الابداع. ولعل هذا الارتباط بين الابداع وبين الجدة والمغايرة هو ما يدفع بالذات المبدعة الى مغامرة "التجريب" . فالذات المبدعة تنزع دائما نحو الخلق وايجاد علاقات وروابط متجددة بين الاشياء.
ونصوص هذه المجموعة القصصية تندرج ضمن ما يسمى "بالحساسية الجديدة" [1] . فهي تسعى لتاسيس فهم جديد لعلاقة النص بالواقع وكسر العلاقة التقليدية التي تنظر الى النص على انه محض انعكاس للواقع الموضوعي. فلم يعد النص مرآة لذلك الواقع, انه اصبح يتقاطع معه ويحاول اعادة تشكيله بصيغ فنية وابداعية خاصة. ان القصة القصيرة لم تعد مجرد حكاية غايتها الامتاع والوعظ. حيث أن الكتابة الابداعية " قد اصبحت اختراقا لا تقليداً، واستشكالا لا مطابقة واثارة للسؤال لا تقديما للاجوبة ومهاجمة للمجهول لا رضا عن الذات بالعرفان". ولذا فان هذه القصص تفترض قارئا واعيا ومدركا لاشتراطات القصة الفنية، فارئا مؤهلا لان يغادر دور المتلقي السلبي ويصبح عنصرا فاعلا في اشكالية العملية الابداعية. ولعل ما حققته القصة القصيرة في العراق من تطورات متميزة على صعيد البناء الفني منذ الخمسينيات قد اسهم بشكل كبير في ايجاد مثل هذا المتلقي الواعي والايجابي. وتسعى قصص عامر حمزة "باجتهاد" لان تجد لنفسها مكاناً بارزاً ضمن مشروع القصة العراقية الفنية برغم ان هذه القصص تلتقي من حيث الرؤية والمنهج مع الكثير من نصوص القصة العراقية الحديثة، الا انها تتجنب تكرار ما هو متحقق مسبقا من انماط واساليب البناء السردي الحديث مثل التناص او توظيف الاسطورة والتراث في بنية النص القصصي.
وتكاد نصوص هذه المجموعة تتوزع على نمطين من انماط البناء السردي، الاول يقوم على الاهتمام بالشخصية القصصية واتخاذها محوراً لبناء الحدث وبؤرة مركزية لانبثاق النص القصصي، والاخر يعتمد على ما يعرف "باللقطة" او المشهد الخارجي ويعمل على استثمار الفاعلية البصرية في بناء النص.
وفي النمط الاول يوظف السرد لتجسيد الشخصية القصصية والكشف عن ازمتها النفسية ومعاناتها ودوافعها الكامنة بعيدا في اللاوعي.
جميع شخصيات عامر حمزة تعاني اغتراباً حاداً وعدم انسجام مع متغيرات الواقع من حولها. انها شخصيات محبطة وغير قادرة على التكيف مع اشتراطات واقعها المادي وذلك بسبب عاطفيتها المفرطة وحساسيتها تجاه الاشياء من حولها. ففي قصة "خطوات" يلخص الطبيب النفسي للاب مشكلة ابنه الذي يحاول علاجه في "انه يمسك بالاشياء امساكاً غريباً ... حجارة في الطريق تعني له شيئا، ورقة مبتذلة عادية تثيره، الاسيجحة تخيفه."
وفي قصة "الفلكة" نصطدم بوعي مضطرب يقترب من حافة الجنون، هذا الجنون الذي يمثل حالة رفض قاطعة لكل ما يمت للواقع بصلة. حيث تنهار صورة الواقع وتتشظى في داخل وعي الشخصية. وعندما تفشل الشخصية في فهم واستيعاب المنطق الذي اصبح يحكم عالمها الخارجي، تلجأ الى تجميع شظايا هذا الواقع المتناثرة واعادة تلصيقها بما يشبه "الكولاج" على وفق منطق داخلي. ولهذا تتشكل هذه القصة من خلال تداع حُر لصورة ولقطات سريعة لا تخضع للتسلسل المنطقي للعلاقات السببية ولا تمثل تناميا تقليديا للحدث القصصي. وتصل حالة الرفض الى اقصاها في قصة "اغفاءة على سرير طريق واحد" حيث تقوم الشخصية هنا بمحاولة الانتحار, وهو تعبير متطرف عن حالة الرفض هذه، بعد حوار طويل نسبيا يشكف عن عمق المعاناة الداخلية لتلك الشخصية ويبرر الدوافع التي اوصلتها الى مثل هذا الفعل. والحوار في هذه القصة يقع ضمن اشكالية البنية المفتوحة واحتمالية تعدد الدلالات، فهو يتحرك على اكثر من مستوى للتاويل ولا ينحصر فقط ضمن الفهم التقليدي له. انه حوار ذاتي يطغي عليه صوت واحد ويعبر عن مشاعر حب محبطة "زاد يقيني اذن من ان النهارات المضيئة تحمل ظلاما اكثر شدة بصقت على اقراني وهم يسيرون بقامات شامخة يرضعون تفاهات ميكانيكية ينشدون جميعا في نهاية الموكب اغنية حقيرة تحمل قبحها الاخيرة، لم ينصتوا اليها، بقيت اصغي لاذيالها المتباعدة، توابيتهم المنسوجة تنث طراواتها" ان مثل هذا الكلام لا يكاد يوحي باي مشاعر عشق او حب بقدر ما يكشف عن ازمة داخلية او تجربة مريرة تصطدم بقبح الواقع وعبثيته.
وفضلا عن هذه القصص الثلاث تندرج العديد من قصص المجموعة ضمن هذا النمط من البناء السردي مثل "تنبؤات وانتظارات" ، "تساؤلات صمغية" نجمات وخسارات" ، "ثمة أمل"، "وحلول اخر العمر".
ومن حيث البنية السردية تتميز هذه القصص باسلوب السرد الذاتي او ما يدعوه الناقد الفرنسي جيرار جينيه "بالتبئير الداخلي" حيث يعرض العالم من منظور داخلي لشخصية روائية بعينها، ويتحول السارد هنا الى "قناة تمرر خطاب الشخصية للقارئ بحذر شديد دون ان تترك بصماتها عليه [2] ". وفي هذا النمط من القصص تتضخم الشخصية على حساب الحدث القصصي وتهيمن بوجودها على النص. غير ان جميع شخصيات القاص "عامر حمزة" ليس لها معالم خارجية واضحة ولا اسماء ولا القاب يمكن ان تعرف بها. انها تتحول الى مجرد اصوات داخل العمل القصصي، اصوات تعبر عما يدور داخل وعي الشخصية وتعكس انفعالتها. وبهذا يغادر القاص الفهم التقليدي للشخصية القصصية على انها تجسيد للاشخاص في الواقع ليقترب من المنظور النقدي الحديث الذي لا يرى في الشخصية القصصية اكثر من "تشكل نصي" [3] او كما يدعوها رولان بارت "كائنات من ورق" [4]
فالشخصية هنا ليست انعكاسا لاشخاص لهم ماض وحاضرو مستقبل, بل هي عنصر من عناصر البناء السردي. انها شخصيات ورقية يتم توظيفها فنياً مع بقية العناصر داخل نسيج السرد. وكون الشخصية "كائناً من ورق" او "تشكلا نصياً" لا يعني تفريغها من الدلالات الفلسفية والاخلاقية والاجتماعية بقدر ما يمثل تكثيفا لتلك الدلالات داخل وحدة العمل القصصي.
أما القصص التي تقع ضمن النمط الثاني وتعتمد على "اللقطة" أو المشهد الخارجي بدلا من الشخصية كبؤرة لانبثاق السرد فهي "كائنات اكثر رمادية"، "والان", و "نبوءة الريح" ، "والغبار". أن هذه القصص تبدا بمشهد قصصي عالي التركيز يتم فيه الاعتماد على الفاعلية البصرية في محاولة تجسيد صورة فنية لا تكون ثابتة او جامدة بل متحركة، ولذا فهي اقرب الى تقنية بناء "اللقطة" السينمائية. فقصة
"الان" تبدا بحركة " كاميرا" تقترب من الجدار لنقل تفاصيله للمتلقي، "الجدار الضخم والصلب يحمل من الجانب الاخر شاشات رقيقة بامكان اي طفل ان يكسرها بقذفها بالحجارة"، وكذلك قصة "كائنات اكثر رمادية", "صرخته الاولى والاخيرة وسيلان لحمه وعظامه استطاعا ان يقلبا المشهد باوجه كابوسية متكررة فاستمرت عدسات نفوسهم في ابراز انعكاسات الوجه الاول والاخير لحادثة النهار الاول".
ونستطيع ان نعثر في مثل هذه القصص على مفردات عديدة تنتمي لمجال السينما مثل العدسات والشاشات والمشهد والاضواء وغيرها. والسرد في هذه المجموعة من القصص يعتمد على نمط الرؤية الخارجية او ما يدعوه جيرار جينيه "بالتبئير في درجة الصفر" حيث تقتصر وظيفة السارد على العرض المجرد. ولقد تطور هذا النمط من السرد على يد روائيين امريكيين بارزين امثال جون شتاينبك واريسكين كالدويل وارنست همنغواي الذين ابتعدوا في كتاباتهم عما يعرف "بتيار الوعي" او "الاستبطان الداخلي" والذي شاع في اعمال الروائيين الانكليز امثال فرجينيا وولف وجيمس جويس. اما في القصة العراقية فقد وظف بعض قصاصي الستينات هذا النمط من السرد في قصصهم، وبرع فيه القاص المبدع محمد خضير بعد ان طوعه ليتلاءم مع خصوصية تجربته القصصية وغاياتها الفنية. وقد سبق للناقد الكبير د. شجاع العاني ان درس هذه الظاهرة الفنية في القصة العراقية في العديد من كتاباته النقدية. ويحاول القاص عامر حمزة ان يستثمر هذا النمط من السرد دول الوقوع في التكرار او اجترار تجربة من سبقوه. ففي قصصه نجد تركيزا اعلى على الطبيعة السينمائية للمشهد القصصي وحرية في الانتقال والحركة عبر اليه الانقطاعات السردية، كما انه لا يتقيد حرفيا بالاشتراطات الفنية لصيغة العرض الخارجي في السرد.
ففي قصة "كائنات اكثر رمادية" يلتزم القاص بمسافة فاصلة بينه وبين وعي الشخصيات، اما في قصة "الغبار" فانه يتنقل بحرية بين رسم تفاصيل المشهد الخارجي ووعي الشخصية القصصية دون ان يخل بالتوازن الفني الدقيق بين عناصر العمل. وتشترك هذه المجموعة من القصص عند عامر حمزة بسمات وخصائص متشابهة لعل من ابرزها الطبيعة العجائبية للعالم المتجسد، والدلالات الرمزية لعناصر العمل القصصي، والرؤية القاتمة او الجو الماساوي الذي يهيمن على القصة.ومن الجدير بالملاحظة ان قصة "نبوءة الريح" هي القصة الوحيدة في هذه المجموعة التي توظف رموز ذات دلالات و خلفيات تراثية في بناء احداثها مثل الامير وحراس القصر والجواري والعرافة.
ان قصص هذه المجموعة تلتقي مع المميزات العامة للنص السردي الحديث من حيث جمالية الاسلوب السردي وشعرية اللغة. فجميع القصص تقوم على كسر الترتيب السردي الاطرادي، وتهميش الحس الزمني، ونفي الحوار النمطي والحبكة التقليدية. كما ان بنيتها اللغوية تتميز بشعرية عالية تقوم على اساس التكثيف والاختزال وتوظيف بنية التوازي والتكرار والانزياحات الحادة والمفاجئة. والحوار فيها بعيد عن النمطية والتقليدية. فهو يتكون من جمل مختصرة وسريعة دون تسلسل منطقي، واسئلة مفاجئة وقصيرة تبقي معلقة دون اجابة واضحة لتضفي المزيد من الغموض على النص القصصي.
كما يوظف القاص بلاغة الحذف والمحو في بعض القصص بهدف تفعيل دور المتلقي واثارته ليشارك في عملية انتاج النص عن طريق ملء الفراغات وسد الفجوات. وهو يستغل فضاء الورقة بفنية عالية ويستثمر مساحات البياض لتدخل ضمن جسد النص المكتوب وتتفاعل مع الكلمات والجمل في انتاج المعنى والارتقاء بشعريته كما في قصة نبوءة الريح".
وللون دلالة بارزة عند عامر حمزة تكاد تتكرر في جميع قصصه ففي معظم القصص يهيمن لون او اكثر على الخطاب القصصي تاركاً انغكاسات دلالاته تتوزع على مختلف مستويات النص. واستثمار الالوان بهذا الشكل الفني الدقيق يثري المستوى الحسي في النص وذلك من خلال توظيفه للفاعليه البصرية. ويبدو هذا واضحا من خلال عنوان قصة "كائنات اكثر رمادية" , الذي هو عنوان هذه المجموعة القصصية كذلك، حيث يهيمن اللونان الرمادي والاسود على القصة. وفي قصة "الان" يكتسب اللون البنفسجي دلالة رمزية ويكون بظلاله خلفية للمشهد القصصي. اما في قصة "الفلكة" فتكرار اللونين الاحمر والابيض في اكثر مكان يؤكد فاعليتهما داخل العمل القصصي.
لقد نجح عامر حمزة ومن خلال نصوصه هذه في ان يقدم نفسه قاصا متميزا يسعى بجد ومثابرة نحو النضج الفني. فهذه المجموعة القصصية تمتلك من الجوانب الفنية والجمالية ما يجعلها بداية لمشروع قصصي جاد ينهض به القاص. ولعل من اهم هذه الجوانب هو خصوصية الخطاب القصصي واصالته، ووعي القاص باشتراطات هذا الفن القصصي الشائك، وسيطرته على ادواته الفنية.
هوامش
[1] - الحساسية الجديدة، ادوارد الخراط، دار الاداب- بيروت ص 11.
[2] مستويات دراسة النص الروائي، د. عبد العاني بو طيب -1999.
[3] السابق ص 48.
[4] السابق ص 49.