الكتابة الابداعية والمرجعية الثقافية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اتخذت العلاقة بين الكتابة الابداعية والثقافة المرجعية الخارجية طابعا اشكاليا خاصا في الادب والثقافة العربية الحديثة، حيث هيمنت الثقافة المرجعية الخارجية على وعي وذائقة الاديب العربي وعملت على توجيهه نحو محاولة تبني اشكال ادبية وخصائص اسلوبية لم تكن في معظمها منسجمة مع الواقع الاجتماعي والثقافي لأ مته. وقد اكدت معظم الدراسات النقدية في مجال تاريخ الادب على ان أي تغيير في الشكل الادبي للكتابة الابداعية يؤشر تغيرا جذريا في البنية الاجتماعية. وتكشف هذه المقولة عن العلاقة الجدلية بين الواقع الاجتماعي والثقافي والخصائص التعبيرية والاسلوبية التي تهيمن على النص الادبي في فترة من الفترات. ولعل هذا ما يبرر عدم سكونية الادب وظهور انماط متنوعة من الكتابة ومناهج ادبية ومدارس اسلوبية مختلفة باختلاف المراحل التاريخية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات الانسانية مثل الكلاسيكية والرومانسية والواقعية. ولا يعني ذلك بالضرورة تهميش فاعلية المرجعية الثقافية الخارجية في صياغة الوعي الفني للمبدع , فالتواصل الثقافي مع الثقافات الاخرى وعملية الت أ ثر والتاثير يبقى لها دورا هاما في نمو وتطور الادب القومي لشعب من الشعوب. ولعل هذا ما شجع على قيام مدرسة نقدية خاصة تعنى بهذا التنوع من الدراسات وهي ما يعرف "بالدراسات المقارنة" او "الادب المقارن".
الا ان الشرط الثقافي والاجتماعي يبقى هو الحاسم في توجيه ذائقة المبدع نحو انماط ادبية وكتابية معينة تنتمي لمرجعية ثقافية خارجية ويصبح التاثر والاقتباس ممكنا عندما تتشابه ملامح المرحلة التاريخية وطبيعة البنية الاجتماعية بين الثقافتين.
ان غياب العلاقة الجدلية بين الكتابة الابداعية والواقع الاجتماعي قد ادى الى اغتراب الادب في الثقافة العربية عن واقعه الاجتماعي وعمل على عزل الاديب والفنان و تعطيل قدراته في التواصل مع الوعي الجمعي لشعبه والارتقاء بالمستوى الثقافي والذائقة الجمالية.وتبدو هذه الحقيقة اكثر وضوحا في الادب العربي منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، حيث غابت العلاقة الجدلية بين التغيرات والتحولات في بنية النص الادبي وبين التغيرات والتحولات في البنية الاجتماعية والثقافية. وظهرت اشكال ادبية وانماط كتابية في الشعر والسرد العربي بتاثير مباشر وكلي من الاداب الاجنبية بشكل عام والادب الفرنسي بشكل خاص. وانحسر عدد القراء والمتابعين للنتاج الشعري والقصصي من غير المتخصصين الى حد كبير. واصبحت الكتابة الابداعية نوعا من الترف الفكري والجمالي بعد ان كانت احدى اهم محركات الوعي الثقافي والوطني للجماهير العربية منذالحرب العالمية الاولى وحتى نهاية الخمسينات.
ان من اهم اسباب هذه الظاهرة هو غياب الوعي الثقافي والاجتماعي عند الاديب والمبدع العربي والافتقار الى الحس النقدي في التعامل مع الثقافة الاجنبية وانماطها الابداعية المختلفة. لقد شجع التشابه في بعض الظواهر الاجتماعية بين المجتمع العربي المعاصر والمجتمعات الغربية الحديثة الاديب والمبدع العربي على الاخذ بالقياس والتعميم والارتجال في الاقتباس من الاداب الاجنبية. غير ان النظرة التحليلية المتانية لطبيعة تطور الصراع الطبقي في المجتمعات الاوربية الحديثة لا تلبث ان تكشف عن طبيعة الاختلافات الجوهرية بين الواقع الاجتماعي لتلك المجتمعات والواقع الاجتماعي للمجتمعات العربية المعاصرة.
ويؤ كد الباحث المصري (الدكتور عبد العظيم رمضان) هذه الحقيقة التاريخية في كتابه "صراع الطبقات في مصر"، حيث يشير الى ان التطور الاجتماعي في البلدان التي خضعت للاستعمار "لا يكون عادة نتاج تطور طبيعي لانماط الانتاج المعروفة، وانما يكون نتاجا لمؤثرات خارجية داخلية عليه هي مؤثرات الاستعمار، وبالتالي فان الطبقات التي يفرزها مثل هذا النظام تكون بالحتم مختلفة عن مثيلاتها في البلاد الاوربية من حيث تركيبها وتكوينها، كما ان علاقاتها الانتاجية هي الاخرى مختلفة ايضا عن علاقات الطبقات الاجتماعية الاوربية".
ان شروط المرحلة التاريخية وطبيعة الواقع الاجتماعي الذي ابتدات فيه الطبقة البرجوازية العربية بالنمو والتطور منذ بداية القرن العشرين تختلف عن تلك التي تهيات لمثيلتها الغربية.وقد ادى ذلك الى وجود اختلافات جوهرية عميقة بين البنية الثقافية للبرجوازية العربية و البنية الثقافية للبرجوازية الغربية , رغم التوافق المبدئي الظاهر بين الثقافتين حول عدد من المفاهيم والمنطلقات الفكرية والانسانية مثل العدالة والحرية والمساواة والروح الفردية والتقدم العلمي , الا ان الابعاد الدلالية لتلك المفاهيم والمنطلقات تكاد تكون متباينة، وبناءاً على ذلك لا يعد أي نمط للكتابة الادبية تنتجه الثقافة الغربية او يهيمن على الانتاج الادبي الغربي لفترة من الفترات قابلا للاقتباس والمحاكاة من قبل الاديب العربي مالم تكن مبررات المحاكاة متحققة في واقعه الثقافي والاجتماعي.
ان على الاديب العربي ان يكون واعيا لتلك الحقيقة التاريخية والاجتماعية عند اللجوء الى محاكاة او اقتباسأي شكل من اشكال الكتابة الابداعية في الاداب الاجنبية، وان يمتلك الى جانب حساسيته الفنية حساسية نقدية عالية في التعامل مع الثقافة المرجعية حتى لا يكون " النتاج الثقافي كاعادة انتاج للثقافي المرجعي نفسه " على حد قول الناقدة اللبنانية يمنى العيد.
كما وتشدد العيد على ضرورة استيعاب وعي الاديب والفنان " للمرجع الحي " بنفس الدرجة التي يندفع بها نحو المرجع الثقافي الخارجي , وتوضح في مقدمة كتابها " الدلالة الاجتماعية لحركة الادب الرومنطيقي في لبنان " الى ان المرجع الحي " يمثل المكبوت والصامت والمرئي والمعاش والمنطوق ما لم يجد بعد صيغة له "
ان امتلاك الاديب او الفنان للوعي الاجتماعي والثقافي الى جانب الحساسية الفنية والجمالية يجعله قادرا على التواصل مع جمهور القراء وتجاوز حالة الاستلاب الادبي والثقافي في التعامل مع المرجعية الثقافية الخارجية وعندها يمكن الحديث عن تيار او نمط كتابي ادبي عربي حديث يمتلك خصائصه الاسلوبية والجمالية المتميزة، وبذلك يكون حاضرا في الادب العالمي كطرف فاعل ومؤثر مثلما نجحت رواية امريكا اللاتينية في تحقيق ذلك.
جامعة بغداد