عالم الأدب

الاستشراق كاستجابة ثقافية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

إذا كان الإستشراق قد شهد إهتماماً متواصلاً مع تطور الثقافة العربية عقب ما يسمى بعصر النهضة أواسط القرن التاسع عشر في المشرق العربي الإسلامي، فإن سر هذا الإهتمام يرد إلى الحاجة الملحة لمعرفة طرائق تفكير العقل الغربي بالعرب والمسلمين، خاصة مع بدايات إحتكاك عالمنا بالكولونياليات الأوربية إثر تراجع سطوة الدولة لعثمانية. بيد أن هذا البحث عن "المرايا" التي تعكس طرائق التناول الغربي للثقافة العربية الإسلامية، ماضياً وحاضراً، قد تحول إلى شيء من "الحمى" بعد نشر وتعريب كتاب الأستاذ إدوارد سعيد الموسوم بـ(الإستشراق)، وهو مؤلف نقدي يعتمد الخط الجدلي والأدوات الأكاديمية المناسبة لمباشرة آليات التفكير الغربي بالشرق. لذا أستقبل موضوع الإستشراق من قبل العقل العربي والمسلم المثقف بالكثير من الإهتمام الذي طفت آثاره على سطح وسائل الإعلام بأنواعها، زيادة على تبلورها في عدد من المؤلفات التي حاولت نقد الإستشراق، ونقد نقد الإستشراق بالطريقة التي إعتمدها إدوارد سعيد. وقد خصت مقدمة هذا الكتاب هذه الظاهرة الثقافية والإعلامية بالرصد والتحليل. لذا يرنو هذا الكتاب إلى شيء من التخصص والتخصيص في جهد دراسة ونقد الإستشراق، بديلاً عن الخطوط العامة التي قدمها إدوارد سعيد وسواه من الكتّاب العرب والمسلمين، نظراً للحاجة الماسة عند القراء العرب إلى بحث تفصيلي يقرأ نصوص الإستشراق والخيال الإستشراقي على نحو التحديد من ناحية، ويلقي الضوء على آثار كبار مشكلي الرأي العام الغربي في تقديم وتسويق صورة معينة لشرقنا العربي الإسلامي، من الناحية الثانية، خاصة بقدر تعلق الأمر بالأساليب الفكرية للتعامل مع التاريخ العربي الإسلامي الذي يعد مكوناً أساساً للشخصية العربية الإسلامية المعاصرة، وللحركات الفكرية والسياسية الفاعلة هنا. وبطبيعة الحال، لا يمكن الإلمام بجميع خطوط وألوان الصورة الغربية للحضارة العربية الإسلامية في كتاب واحد، الأمر الذي يضطر الباحث إلى إستمكان أذكى الكتّاب الغربيين وإنتقاء أبرز المحطات والنصوص لبؤرة هذا الكتاب، وهي الماضي العربي الإسلامي. ولأن الكتاب يعد تواصلاً لكتابين آخرين، الأول بعنوان (المتغير الغربي: الشرق، الإستشراق، أدب الصحراء/ بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1986)؛ والثاني بعنوان (Arabian Mirrors and Western Soothsayers/ نيويورك: بيتر لانغ، 2003)، فإنه يستمكن عقولاً غربية وقعت في دائرة سحر التاريخ العربي الإسلامي وخصته بطرائق معالجة متنوعة تبعاً وإستجابة لأساليب الإستقبال الغربي الشائعة للإسلام وللعرب، إضافة لتحديده الحاجات الثقافية والسياسية المحلية في الغرب التي دفعت بهؤلاء الكتّاب لدراسة تاريخنا. لقد تم توظيف تاريخ "الآخر"، العربي المسلم باساليب متنوعة، منها: (1) إستعماله، مشوهاً ومحرفاً، كأداة للتعبئة الجماهيرية عاطفياً وفكرياً، عبر قرون الإحتكاك بين العالمين الإسلامي والأوربي، بعد الهبّة الأولى للفتوحات الإسلامية التي شكلت تحدياً عسكرياً وفقهياً لأوربا العصر الوسيط، (2) توظيف قصة ظهور الإسلام والعبادات الإسلامية كأسلوب للبرهنة على أن معتقدات المسلمين لا تختلف كثيراً عن المعتقدات الروحية للتقليد الديني اليهودي/المسيحي الذي تحتضنه أوربا، الأمر الذي إنطوى على التفكير بإمكانية "كسب" المسلمين للمسيحية بالجملة وبواسطة قنوات الحوار، بديلاً عن قنوات الحرب، بإدعاء أن العقل الغربي أكثر قدرة على الحوار والإقناع من العقل الشرقي. هذا الرأي المشوب بالمفاهيم الخاطئة كان وراء إطلاق فكرة "التبشير" المسيحي في العالم الإسلامي فيما بعد؛ (3) إستحضار شخصية الرسول (ص) وصحابته (رض) والعقائد الإسلامية كسلاح في الصراعات الطائفية والفرقية بين أتباع الكنائس في أوربا، خاصة بعد ظهور حركة الإصلاح الديني وتكوّن الكنيسة البروتستانتية على يد مارتن لوثر، الأمر الذي زاد من تراكم وكيل التشويهات للإسلام ولمادته الأصلية من العرب على سبيل تشكيل المقارنات والمقاربات مع الخصوم من أتباع الكنائس الأخرى؛ (4) توظيف ذات المفاهيم الخاطئة والأفكار المنمطة كأسلوب لتكريس العواطف العدائية ضد المسلمين في الحقبة التي شهدت ظهور الدولة العثمانية وتوسعها المبكر بإتجاه أوربا.
وإذا كانت هذه من أهم ملامح طرائق التعامل مع ماضي العرب والمسلمين في أوربا القرون الوسطى والأزمنة التي سبقت الثورة الصناعية، فإن للمرء أن يحيل شيء من إختلالاتها إلى غياب المعرفة وندرة المصادر التي إستقى منها الكتاب والمؤرخون (وأغلبهم من رجال الدين) معلوماتهم حول تاريخ العرب وقصة الإسلام. زد على ذلك دوافع تشويهية أخرى تتصل بالأوضاع السياسية والإجتماعية في أوربا العصر الوسيط. وهي الأوضاع التي ساعدت على فكرة مقاومة الفتوحات الإسلامية، بإستذكار فتوح بلاد الشام وبقاء العرب في شبه جزيرة إيبريا لحوالي ثمانية قرون، ناهيك عن حاجة المؤسستين الحكومية/الإقطاعية والدينية إلى "إختلاق" عدو خارجي لتعبئة العواطف العدائية بإتجاهه، الأمر الذي تبلور بوضوح في الحملات الصليبية التي طالت فترات طويلة تخلصت أوربا الإقطاعية خلالها من طاقات الجمهور عبر قنوات العواطف الدينية إلى الخارج. وقد كان الجهل بالإسلام وبسجاياه العقائدية من أهم العوامل التي ساعدت على التعبئة وإختلاق نوع من "فوبيا الإسلام"، أو الخوف من الإسلام والمسلمين، وهو الخوف المشحون بالتشويهات التي ترسبت في قعر العقل الأوربي، ولم تزل آثاره ماثلة حتى اليوم، وهي تطفو على صفحات الإعلام والثقافة الشائعة عبر الدول الغربية من آن لآخر.
لقد دشنت عصور النهضة والإستنارة ومن ثم الثورة الصناعية طرائقاً جديدة في تناول الشرق العربي الإسلامي، ليس فقط بسبب ظهور ما يسمى بحركة "التاريخ الجديد" الموضوعي الذي تطلب توظيف الأدوات الأكاديمية والوثائق العلمية الدقيقة، بل كذلك بسبب حاجة الذهنية الأوربية للمقارنات وللمقاربات مع "الآخر"، الآخر التاريخي (بمعنى المقارنة بماضي أوربا الوسيط ذاته)، والآخر الأجنبي (بمعنى المقارنة بالحضارة العربية الإسلامية، أقرب جيران أوربا جغرافياً). ولكن على المرء الإعتراف بأن محاولات البحث عن مصادر علمية دقيقة عن الإسلام والعرب تعود في أصولها الأولى إلى سنين سابقة، متجسدة في ترجمة "سيل" Sale لأهم وثيقة إسلامية، القرآن الكريم. ولكن في الفترة التي شهدت الخروج عن الشكل الوسيط للمجتمعات الأوربية وشهدت الإهتمام باللغات القومية (بديلاً عن اللاتينية)، إستحال الإستشراق في أوربا من جهد تخيلي أو إفتراضي، مبتنى على التكهنات وتوارث الأنماط السائدة، إلى جهد أكثر ميلاً للعلمية وللوقوف على المصادر الأصلية على نحو مباشر، وليس عبر التقارير التي كتبها الأوربيون، الأمر الذي أفضى إلى إطلاق الإستشراق من حقل الخياليات إلى حقول علمية أو نصف علمية تستدعي الدراسة والرصد، البحث والإستقصاء. هنا تبلورت دوافع ترجمة التواريخ الكلاسيكية العربية والإسلامية إلى اللغات الأوربية. وهكذا تشعب الجهد الأوربي إلى فروع للدراسات الإستشراقية، خاصة مع الثورة الصناعية وبدايات الحاجة للإتصال بالشرق على نحو مصلحي. لقد كانت يقظة فكرة بناء الإمبراطورية من أهم مسببات الحاجة إلى المعرفة، معرفة الشرق العربي الإسلامي ، ماضيه وحاضره، شعوبه وتنوعاته. هذه هي المرة الأولى التي ظهر فيها المستشرق الأوربي عبر إقليمنا على اشكال متنوعة، منقباً آثارياً أو مؤرخاً أو مترجماً للتراث العربي الإسلامي أو كاتباً حراً، من بين اشكال أخرى. لذا كان ظهور هذا النوع من التخصص في الشؤون العربية الإسلامية من أهم عوامل تشجيع الإرتحال إلى شرقنا لمحاولة سبر أغواره، ليس من خلال الحرف المكتوب والصفحة المطبوعة، ولكن من خلال المعايشة والإرتماس بمياه العالم الشرقي على نحو مباشر. وإذا كانت ظاهرة تزايد الرحالة الغربيين من أهم معطيات عصر الثورة الصناعية، فإنها أفرزت كذلك نوعين من العاملين في الإستشراق، هما: (1) المرتحلون أنفسهم، وهم الذين يكتبون التقارير؛ (2) الأكاديميون الذين يجمعون تقارير الرحالة على سبيل التحليل والدراسة للخروج بتنظيرات وخلاصات فكرية.
بيد أن ظاهرة الإرتحال إلى الشرق والإنغمار بأعماقه كانت تبدو للجمهور الأوربي عملية مثيرة بسبب الصعوبات والمخاطر التي يواجهها الرحالة المغامر الذي يأخذ على عاتقه مهمة تعريف القاريء على عالم مختلف، عالم منفلت من الزمن ومن رتابة ذبذبة الماكنة في المدينة الصناعية، الأمر الذي جعل من الشرق مهرباً ومآلاً لأعين هؤلاء الذين وجدوا فيه مادة غنية وأرض خصبة بكر للتأمل ولإبتكار الجديد من المواد والمواضيع المناسبة للكتابة وللتفكير. لذا لم يعد المشرق العربي الإسلامي هو "أرض الكتاب المقدس" Bible land فقط، بالنسبة للأوربيين المتدينين، وإنما صار كذلك عالماً موازياً وبديلاً وأداة نقدية لمقارعة الإختلالات الإجتماعية والسياسية والدينية المحلية في أوربا. هذا ما يفسر ذهاب الروائيين والشعراء، من غير المغامرين والباحثين عن الكنوز والآثار، إلى الشرق بحثاً عن التيقن ورصداً لعالم مختلف، عالم برهن للعقل الأوربي، لأول مرة، إن هناك حضارات شرقية أقدم من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وهي حضارات وديان الأنهار العظيمة، الرافدين، النيل، السند.
وإذا كان الباب الأول من هذا الكتاب قد ركز على ما سبق الإشارة إليه من "أطر نظرية وتاريخية"، فإن الباب الثاني يركز على "التطبيقات" وعلى آثار تلك الأطر القديمة التي بقى العقل الأوربي حبيساً لها. لذا فإن الفصل الثالث من الكتاب يستل من بين أهم كتّاب العصر الفكتوري، الكاردينال نيومن Newman، زعيم حركة أوكسفورد وواحد من أهم منظري (فكرة الجامعة)، ليس بسبب دوره الثقافي والديني المهم، بل كذلك بسبب تجاوز أغلب دراسات نقد الإستشراق لواحد من أهم كتبه المنسية، (تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوربا). يأتي هذا الكتاب على خلفية حرب القرم ودخول الدولة العثمانية أتونها، كمحاولة تورخة "كاثوليكية" للترك ولدينهم. لذا فإن الكتاب يأتي إستجابة لحالة طارئة، حالة أراد نيومن تأبطها لتوجيه النقد للحكومتين البريطانية والفرنسية بسبب سياسة عدم التدخل وتحاشي الإرتطام بالأتراك. كتاب نيومن يبدأ من الفرضية الأنثروبولوجية العنصرية بأن الترك هم من الأقوام الأدنى في سلم النوع البشري، وهي الفرضية التي يعتمدها الكاتب، ليس فقط لتبرير إحتضان الأتراك للإسلام كدين يستجيب لطبائعهم البدوية (كما يزعم)، بل كذلك لغرض التمييز فيما بينهم وبين العرب الذين يبدون له شعباً يمتلك "عمقاً فكرياً" يؤهله لبناء الجامعات ولرعاية الفكر والثقافة وفنون السلام بديلاً عن فنون الحرب. ينتهي نيومن إلى التوصية بسحق الدولة العثمانية، بل وإلى القضاء على العنصر الإثني التركي عن طريق قيام الإمبراطوريات الأوربية بمعاملة الأتراك بنفس الطريقة التي تعامل بها المهاجرون الأوائل إلى أميركا مع الهنود الحمر، حسب خطه الشوفيني بالتفكير. بل إنه يوظف الحملات الصليبية كأداة لمهاجمة المسيحيين الشرقيين من ناحية، ولكيل التهم للأتراك، من الناحية الثانية، بسبب دورهم في مقاومة هذه الحملات التي يعدها نيومن حملات "كاثوليكية" برهنت على وحدة أوربا تحت ظل بابا روما آنذاك. لذا فإن كتاب نيومن لا يخلو من الدعاية الطائفية للكنيسة الكاثوليكية، عاداً المسيحية هي الكاثوليكية فقط، وإن البروتستانتية إنما هي إنحرافاً عن المسيحية الأصلية.
إن الكاردينال نيومن، الذي يمثل الذهنية المتدينة المشوبة بالكثير من براثن الأثنية والطائفية، يختلف كثيراً عن الكاتبة "هاريت مارتنو" Martineau، معاصرته التي إشتهرت بتحررها من كوابح الإلتزام الديني وبميلها القوي إلى الفلسفات الدنيوية الحديثة آنذاك، زيادة على إهتمامها المبكر بالأنثوية وبقضية تحرير المرأة. مارتنو تبتعد عن سواها من الكتّاب البريطانيين الآخرين في أنها لم تعاين الشرق عبر التقارير التي كتبها المستشرقون، وإنما هي شدت الرحال شخصياً في رحلة طويلة إلى مصر وفلسطين وسوريا لتكتب واحداً من أهم مؤلفات الإستشراق حقبة ذاك، (الحياة الشرقية، حاضراً وماضياً). ونظراً لطبيعة إهتمامها بالمرأة وبأوضاعها، فإن مارتنو إرتكنت إلى تراث أوربي قديم وعميق مستقى من فكرة الإساءة المفترضة للمرأة في العالم الإسلامي، وهي الإساءة المتبلورة في مفهوم "الحريم" Harem الذي دخل اللغة الإنكليزية (لفظاً مستعاراً) ليكتسب هالة واسعة من المعاني السلبية التي تحط من قدر المرأة المسلمة كما هي مصورة في الثقافة الغربية، بإعتبارها "مخلوقاً" حبيساً في البيت وموضوعاً لإستثمار الرجل الأسمر وإضطهاده. لذا فإن الفصل الرابع يرصد هذه الأفكار الشائعة في الغرب حيال موقع المرأة في الإسلام، ككينونة حسية تقبع في "سراي" الأغنياء والمتنفذين المغرمين بتعدد الزوجات. هذه المفاهيم المسبقة تجد صداها في كتاب مارتنو أعلاه، خاصة وإنها تبحث أوضاع المرأة المسلمة في مصر، كطريقة للبرهنة على صدق هذه الأفكار المتوارثة. لذا ترصد الكاتبة حال المرأة في فترة تاريخية كانت قد شهدت نكوص الأحوال الإجتماعية بمصر، كما أنها تدعم آراءها في المرأة المسلمة من خلال زيارة لأحد أجنحة زوجات "الباشا" في القاهرة، على سبيل البرهنة على وجود ثمة بون هائل بين شعبين مصريين مختلفين تماماً، هما: (1) الفراعنة القدماء الذين ينوا حضارة عظيمة بسبب إحترامهم المرأة ومساواتها بالرجل؛ (2) المصريين المعاصرين الذين تشاهدهم والذين تراجعوا في السلم الثقافي والحضاري إلى أدنى المراتب، بسبب إعتناقهم الإسلام وحطهم من قدر المرأة، حسب زعمها. هاريت مارتنو لم تكن مدفوعة بأهداف سياسية أو ممولة من قبل مؤسسات إمبراطورية، ولكنها كانت مفكرة حرة، بالرغم من إنها لم تتمكن من تحرير نفسها من مكبلات المفاهيم الخاطئة التي توارثتها حول "الحريم"، الأمر الذي يفسر محاولتها التيقن من صحة هذه المفاهيم دون محاولة الرجوع إلى المصادر الفكرية والفقهية النقية للإسلام. بل هي إعتمدت المعاينة المباشرة وحالات التردي والتراجع التاريخي التي كانت مصر تعيشها وقتذاك على سبيل كيل التهم للإسلام في موضوع المرأة. وهكذا إختلطت الحقيقة التاريخية بالحقيقة المؤقتة الملوسة كي تدعم آراءها في الإسلام، وهي الآراء العاطفية المشحونة بالضغائن درجة تأملها نوعاً من العمادة أو التعميد الذي يغسل مصر بأكملها (عن طريق فيضان النيل) ليقضي على هذا الشعب على طريق ولادة شعب جديد يعطي المرأة ما تستحق من التقدير والمساواة. إن هذا الفصل يعكس جانباً أساسياً من النقد الإستشراقي للإسلام وللتنظيمات الإجتماعية في الأقطار العربية، ملقياً الضوء على تواصل طرائق التفكير الغربي بالمرأة المسلمة منذ أقدم العصور، مستشرفاً ما يحدث اليوم من نقد غربي واضح المعالم لأوضاع النساء في العالم الإسلامي. لذا فإن كتاب مارتنو (وهو من الوثائق الفكرية المنسية كذلك) يعد محطة غاية في الأهمية من ناحية التوصيل بين المفاهيم الأوربية في القرون الوسطى، وبين مكافئاتها من مفاهيم في العصر الحديث.
وإذا كانت آراء مارتنو حول المرأة المسلمة مبتناة على الملاحظة المباشرة وليس على دراسة الفكر والفقه الإسلامي، فإن آراء رتشارد بيرتن Burton، الذي قضى أكثر من ربع قرن في ترجمة (ألف ليلة وليلة) إنما تدعي المعرفة بالإسلام وبعقائده، بتقاليده وقصته التاريخية. لذا يُعد مؤلفه المهم (المقالة الختامية) الذي أنهى به ترجمة (الليالي العربية) مدخلاً مهماً آخر لتناول أوضاع النسوة في العالم الإسلامي، بإعتبارها أوضاعاً أفضل بكثير من حال المرأة المتدينة في أوربا، حيث يعتبر عدم الإستحمام والرهبنة (كما يقول) من شروط التدين الحقيقي. إن الطريق التي سلكها بيرتن تختلف تماماً عن الطريقين اللذين سلكهما كل من نيومن ومارتنو، ذلك أنه قد إستجاب للإنبهار والعشق الأوربي لكتاب (ألف ليلة وليلة)، عادّاً إياه وثيقة إجتماعية أفضل بكثير من الوثائق الأخرى، بإعتباره "بانوراما" متكاملة للحياة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. هذا التمايز في المدخل هو الذي مكّن بيرتن من تحقيق عدد من الأهداف "الإستشراقية"، ومن أهمها نقده للمجتمع وللكنيسة في أوربا. لم يكن بيرتن متديناً قط، بل هو كان أكثر ميلاً لعدم التدين، الأمر الذي أتاح له عملية إستمكان فضائل الدين الإسلامي، ليس من أجل تتويجه كأفضل نظام ديني وروحي، وإنما من أجل نقد المسيحية الأوربية من خلال الإسلام والبرهنة على تفوق الأخير. ولكن في نهاية المطاف، يرنو بيرتن إلى وضع الإسلام، سوية مع الأنظمة الدينية الشائعة في أوربا عصره، كاليهودية والمسيحية، في سلة واحدة يراد منها مهاجمة جميع الديانات. لذا فإن تفضيل بيرتن للإسلام على سواه من الأديان لا يعني قط عدم إستمكان النقاط والثغرات التي يمكن توضيفها لنقد الإسلام، نظاماً إجتماعياً ومنطلقات فكرية وفقهية، الأمر الذي يبرر هجماته على "الخرافات" التي حيكت حول حياة النبي محمد (ص) وعلى الإنحرافات التي فرضت على أصول الدين الإسلامي في التطبيقات الحياتية عبر العصور التالية لصدر الإسلام. إن بيرتن يرد ظهور العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية في العهد العباسي، الذي شهد تأليف (ألف ليلة وليلة)، إلى إختلاط العرب بالأقوام الأعجمية وإلى ظهور تاثيرات إغريقية وفارسية وهندية وأجنبية أخرى على العقائد الفقهية الأولى للإسلام. لذا يتحدث بيرتن، لأول مرة، عن أنواع من الإسلام، كـ"الإسلام المبكر" و "الإسلام الوسيط" وسواهما من الأنواع المبتناة على إفتراضاته. كما أنه يرد بروز المدارس الفقهية والتيارات الحزبية والطائفية داخل الإسلام، إلى حيوية العقل العربي والمسلم في ذلك العصر الذهبي، زيادة على إستجابة عقائد المسلمين إلى التأثيرات الأجنبية التي ضمت إلى الإسلام عبر تحول بغداد العباسية إلى مدينة كونية من نوع "الكوزموبوليتان"، مثل لندن ونيويورك اليوم. هذا المدخل العلماني، المتحرر من الطائفية، للتاريخ العربي الإسلامي، هو الذي أهّله لترجمة حياة (الليالي العربية) إلى مجموعة كبيرة من تعابير التقدير والإحترام نظراً لتقدم الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى، وبسبب منجزاتها العظيمة التي يقف بيرتن مبهوراً أمامها درجة إحالتها إلى نقد ملتو للحضارة الأوربية في عصره. بيرتن يتحدث عن بغداد بوصفها عاصمة للثقافات المتنوعة، عادّاً هذه المدينة مؤشراً على حيوية ما اسماه بـ"الإسلام الوسيط". بيد أن الأهم من جميع هذه المسائل التي يناقشها بيرتن يبرز البعد الفردي المختفي على نحو فوق/نصي، البعد الذي يرنو إلى إبراز الذات وقدرات التشبث الفردي على إستكشاف عالم آخر نيابة عن القاريء الأوربي، لذا يندرج مؤلف بيرتن ضمن هذه الدوافع والإرهاصات الفردية لتقديم "الأنا" المتفرد أمام جمهور القراء الغربيين، ليس فقط من خلال التمكن من اللغة العربية لترجمة واحد من أهم نتاجاتها الفولكلورية، ولكن من خلال الألمام بالإسلام وعقائده، وبالعرب وطبائعهم، زيادة على التعبير عن المعرفة بسواهم من الأقوام المسلمة، كالفرس والترك والهنود. وقد إستثمر بيرتن هذه الإرهاصات لمخاطبة بناة الإمبراطورية آنذاك كي يريهم أن "إمبراطورية الفكر" والثقافة لا تقل أهمية عن إمبراطورية الضم والإحتلال. وهو بذلك يبلور مقولة أن "المعرفة تعني القوة"، وإن إمتلاكها يساعد على فرض الهيمنة والوصاية. لذا يتجاوز كتاب (الليالي العربية)، الذي ترجمه بيرتن بإبداع، كونه وثيقة إجتماعية، كي يبدو وكأنه تصوير دقيق لآليات التفكير الشرقي، العربي الإسلامي على نحو خاص.
يتناول الباب الثالث من الكتاب الإستشراق الأميركي بفصل عام يتتبع بواكيره وتبرعماته التالية، إضافة إلى إلقائه الضوء على عدد من منطلقاته الفكرية، دوافعه وإرهاصاته. إن الحديث عن الإستشراق الأميركي غالباً ما يرادف الإستشراق الحديث، ليس لأن الإستشراق الأوربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن بسبب بروز وتفوق الإهتمام الأميركي بالشرق عامة، وبالشرق العربي الإسلامي خاصة، تبعاً لمعطيات التقدم المادي ولتصاعد مؤشرات المصالح الأميركية في إقليم الشرق الأوسط عبر الحرب الباردة، وما تلاها من تطورات جعلت من الولايات المتحدة الأميركية القطب الواحد الأكثر تأثيراً في الساحة الدولية. ويمكن كذلك رد الإهتمام الأميركي بالمشرق العربي الإسلامي إلى تحالف الولايات المتحدة مع إسرائيل وإلى تبلور الحاجة لمعرفة شعوب الشرق الأوسط المحيطة بها، زيادة على الإهتمامات الإقتصادية التي تتبأور على البترول.
بيد أن هذا لا يعني غض النظر عن أصول الإهتمام الأميركي بالشرق عامة، خاصة وإنه قد عبر، كإتجاه عام، عن نوع من "التمرد" على جذوره وأطره الأوربية التي إستعارها جاهزة مع هجرة الأقوام الأوربية الأولى إلى "العالم الجديد". لقد داب العقل الأميركي على بلورة نوع من التفرد والإستقلالية عن الجذور الأوربية في جميع المجالات، ومنها الإستشراق، أو طرائق تناول تراث العالم القديم معاكساً للعالم الجديد. لقد بدأ الإستشراق الأميركي، قبل تبلور مصالح الولايات المتحدة عبر المحيطات والبحار، وكأنه نوع من الهواية أو شذرات من الإهتمامات الخيالية غير المنظمة التي إضطلع بها الأفراد، خاصة من الشعراء والكتّاب الخياليين. بيد أن تأسيس أول جمعية متخصصة في موضوعات الشرق أواسط في القرن التاسع عشر يعد نقطة البداية لنوع من الإستشراق المنظم والمتسق، حيث إضطلعت الكنيسة به أولاً، ثم تبعتها الجامعة عن طريق إسهامات عدد من الأساتذة الأكاديميين البارزين. لذا إختلط الدافع التبشيري مع الدافع العلمي المعرفي لتكوين منابع الإستشراق الأميركي الأصلية، زيادة على ملاحظة تطور الإهتمام بالحفاظ على تجارة أميركا عبر البحر المتوسط، ذلك الإهتمام الذي أدى في وقت مبكر للإضطرار إلى حماية البواخر الأميركية من "القراصنة" الذين كانوا يشنون هجمات عليها إنطلاقاً من السواحل الشمالية لأفريقيا. لذا ظهرت المباحثات الأميركية مع حكام بلدان شمال أفريقيا وإماراتها، وهي من البدايات الأولى لتطور الوعي الأميركي بالشرق العربي الإسلامي.
لقد أخذت فكرة "العالم الجديد" بالنمو والتطور في قعر العقل الأميركي كي تمنحه شيئاً عالياً من الثقة بالنفس وبالتفوق على العالم القديم، الأمر الذي تبلور في الطريقة الإستعراضية، نصف الدونية، التي تعامل بها العقل الأميركي مع أديان العالم القديم عبر ما يسمى بـ"برلمان الأديان"، الذي عقد في شيكاغو، على هامش معرض تجاري عالمي. وهي ظاهرة تعكس هذا الشعور الوسواسي بالفوقية، حيث يباشر "المستهلك" الأميركي أديان العالم القديم، وبضمنها الإسلام، وكأنها سلعاً يمكن الإطلاع عليها. وقد كان الإسلام عصياً على هذا البرلمان، خاصة بعد أن رفض السلطان العثماني آنذاك إبتعاث رجل لدين مسلم لتمثيل الإسلام. ولكن الإسلام قد تم تمثيله من قبل رجل أميركي إعتنق هذا الدين وسمي بـ"محمد ويب" Webb، وهو الرجل المسؤول عن إصدار أول مجلة تهتم بالشؤون الإسلامية في التاريخ الأميركي. ولا يقل أهمية عن هذا هو إرتحال رجال الثقافة والأدب المبكرين إلى الشرق الأوسط، حيث ظهرت بعض المؤثرات الإسلامية على كتاباتهم، كما كانت عليه الحال مع "ملفل" Melville و"توين" Twain. لقد كانت العناية الأميركية المبكرة بالعالم الإسلامي اشبه ما تكون بالعناية بكوكب آخر، كوكب مختلف، ناءٍ، غريب.
ولكن هذا الإهتمام قد تجاوز هذه الحدود بعد الحرب العالمية الثانية وإثر تطور التطلعات الأميركية إلى الشرق، الشرق الأقصى Oceania أولاً، ثم الشرق الأدنى (الأوسط) Orienda ثانياً. وقد كان لإكتشاف منابع النفط الغزيرة في إقليمنا، ولظهور إسرائيل أهمية بالغة في تصاعد الإهتمام الأميركي بالعرب والمسلمين في القرن العشرين، خاصة بعد إندلاع الحروب العربية الإسرائيلية، وبعد أزمة الطاقة على إثر حرب أكتوبر بداية سبعينيات القرن العشرين. وبذلك إزدهرت المصالح الأميركية في المشرق العربي، مترجمة نفسها في عدد كبير من مراكز الدراسات الإقليمية المتخصصة، زيادة على المعاهد الخاصة بالدراسات الإسلامية وسواها، الأمر الذي يدل على تفوق المؤسسة الأكاديمية المدعومة مادياً على الكنيسة في هذا المجال. وقد خدمت حرب يوينو/حزيران 1967 في إماطة اللثام عن العديد من المفاهيم الخاطئة والمسبقة والتمثيلات المخلة للشخصية العربية وللذهنية الإسلامية.
لذا توجبت العودة إلى أصول وجذور الصورة الأميركية للعرب والمسلمين من منابعها الأولى، كما تجسدت في آراء وكتابات عدد من قادة الرأي ومشكلي الرأي العام، خاصة هؤلاء الذين تأملوا نوعاً من "الإتحاد" بين الغرب والشرق، بإعتبار ذكورية الغرب وعسكريتاريته، وبإعتبار تأنيث الشرق، ووقوفه رمزاً للدفء وللأمومة وللخصب. وهكذا إستحضر العقل الأميركي المثقف فكرة إمبراطورية الإسكندر الكبير التاريخية كمحاولة لتوحيد الشرق، ولتزاوج الغرب الذكوري بالشرق الأنثوي، على سبيل إنتاج "إنسان جديد"، أو ما أسمي في الأدبيات الأميركية بـ"الإنسان الألفي الجديد".
إن أول وأهم تعبيرات للإهتمام الأميركي بالماضي العربي الإسلامي قد تبلورت على أيدي أبي الأدب الأميركي، الذي حضي بلقب سفير أدب العالم الجديد للعالم القديم، واشنطن إرفنع Irving. لقد عين إرفنغ سفيراً لبلاده في مدريد، حيث قضى هناك أعوام عديدة أشغلها بالتنقل بين آثار العرب والمسلمين التي كانت قائمة فيما يصطلح عليه الآن بـ"إسبانيا المسلمة" Muslim Spain، إذ أوحت له بقايا العمارة الأندلسية وآثار طباعهم المتواصلة عبر إسبان عصره بالعديد من المصنفات التي خصت الفتح العربي للأندلس بالدراسة والتحليل، كما ركزت على تكرار نمط التطور التاريخي (الولادة، الشباب، الكهولة) في قصة الوجود العربي الإسلامي هناك. وإذا كانت هذه المناسبة قد ألهمت هذا الكاتب الفذ كتابة تواريخ عديدة عن الوجود العربي بالأندلس، فإنها لم تدعه يفلت من إغراء تتبع ظهور الإسلام في جزيرة العرب وإمتداده عبر الفتوحات حتى عبور مضيف جبل طارق.
لذا فإن الفصل السابع من الكتاب يرصد بالدراسة والتحليل واحداً من أهم التواريخ الأميركية للعرب وللإسلام، وهو كتاب إرفنغ (محمد وخلفاؤه)، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من أوائل التواريخ الغربية إنصافاً للإسلام، نابذاً كيل التهم المتعامية ومحاولاً تحقيق قراءة أكثر حيادية لهذا التاريخ. لهذا السبب يعد إرفنغ علامة مضيئة في تاريخ التورخة الغربية للعرب وللإسلام، خاصة فيما يتعلق بشخصية الرسول الكريم (ص) وبأفعال البسالة والنبل التي قام بها المسلمون عبر فتح العالم القديم. لقد ركز إرفنغ على سجايا النبي محمد (ص) الفردية، محاولاً إماطة اللثام عن تلك اللحظة التاريخية التي شهدت إلتئام وإنسجام سجايا البطولة الجماعية بسجايا البطولة الفردية. إن قراءة تاريخ إرفنغ لقصة صدر الإسلام لن تخفق في الإيحاء للقاريء المسلم المعاصر أن هذا الكاتب الأميركي كان من أوائل الذين نجحوا في التخلص من براثن التواريخ الأوربية المشوبة بالأحقاد والضغائن، الأمر الذي تبلور في تحرره من مكبلات الأنماط القديمة والتعامي الطائفي ليقدم للمجتمع الأميركي والغربي عامة صورة أكثر واقعية لقصة بناء الدولة الإسلامية في مجلدين، الأول حول الرسول الكريم (ص) وصدر الإسلام، والثاني يتناول قصة الخلافة حتى نهاية خلافة عبد الملك بن مروان بدمشق. لذا ينافس كتاب إرفنغ هذا محاضرة كارلايل الشهيرة (البطل نبياً: محمد: الإسلام) تاريخياً، نظراً لأنه من أوائل تعبيرات الإعجاب بمنجز الرسول (ص) وبعصر صدر الإسلام، مع إشارة خاصة إلى التاريخ العسكري لقصة الفتوحات التي، كما يتكهن، لو لم تتوقف على حدود فرنسا، لرأينا الهلال يرفرف اليوم فوق كنائس باريس ولندن، حسب خطة في التفكير. لذا ينهي إرفنغ كتابة بفصل لبحث وتحليل شخصية ودوافع الرسول الكريم (ص)، ليس فقط من أجل الرد على التشويهات الأوربية القديمة واحدة بعد الآخرين، ولكن كذلك من أجل إحالة تاريخ العرب والإسلام إلى درس للجمهورية الأميركية الفتية التي كانت في أمس الحاجة إلى أنموذج يستحق المحاكاة. لذا كانت دوافع إرفنع في دراسة تاريخ الإسلام هي من النوع التعليمي والتربوي، حتى عندما كان يتوقف على مسألة اسباب إضمحلال دولة الخلافة والإنقسامات التي شابتها، فإنه يحللها كرسائل تحذير للجمهورية الأميركي، تحذير من مخاطر الإنقسام والتشرذم وتشتت الولاءات. إن تمجيد موضوع الإيمان الإسلامي لدى إرفنغ كان مصمماً لتذكير أميركا عصره بأهمية الإيمان الروحي الحقيقي المخلص بالمباديء، كما كان نقداً غير مباشر للمادية النفعية الآخذة بالشيوع في عصره.
وتنطبق ذات الأهداف الإجتماعية، التعليمية والتحذيرية، على تواريخ إرفنغ الأندلسية الأربعة، زيادة على كتابه الوصفي لبقايا آثار العرب في الأندلس بعنوان (الحمراء). إن هذا الهدف التعليمي هو الذي جعل إرفنغ يركز على التاريخ وعلى العسكرية العربية، وكأنه كان يريد مخاطبة الأميركان الأوائل بضرورة الحفاظ على رجل السيف سوية مع رجل القلم، والعناية بفنون السلام سوية مع فنون الحرب. وإذا كانت تواريخ إرفنغ الأندلسية قد إختلطت بشيء من الأسطورة والخيال والحكاية غير الموثقة، فإن هذا يرد إلى إعتماده خليط من المصادر العربية والأندلسية والإسبانية القديمة. لقد أتخذ إرفنغ من بناء الخلافة الإسلامية في الأندلس درساً لأميركا التي كانت تبني نفسها كدولة جديدة؛ كما إتخذ من حروب الطوائف والدويلات الأندلسية بعد تراجع السلطة المركزية رسالة تحذيرية لأميركا عصره.
ويتبلور البعد الوطني الأميركي في تواريخ إرفنغ الأندلسية على نحو أكثر وضوحاً في إهتمامه الخاص بشخصية كولومبس "الأميركي الأول" حسب الأسطورة الأميركية، ذلك أن كولومبس الذي تخيله إرفنغ واقفاً في قصر الحمراء وهو يعرض مشروعه لركوب بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) هو الرجل الذي إنطلق لإكتشاف العالم الجديد من بلد كان نصف عربياً ونصف أوربياً، نصف مسلماً ونصف مسيحياً، وكأن قدره هو جمع نصفي العالم القديم (آسيا وأفريقيا مع أوربا) لإكتشاف العالم الجديد، حيث "تزاوج" نصفي العالم القديم من أجل ولادة أميركا. لقد إنطلق كولومبس، حسب إيحاء إرفنغ، لإكمال دائرية الأرض وكرويتها عن طريق ولوج الهند (الشرق) ولكن من الجهة الغربية. ولكن هذا الجهد إنتهى إلى إكتشاف أميركا التي، حسب المنظور الأميركي الشائع، تمثل إستكمال كروية العالم.
لم تكن تواريخ إرفنغ خالية من بعض الإختلالات المفهومية، بالرغم من إنها كانت الأفضل نسبياً في تعاملها مع تاريخنا عبر تاريخ التورخة الغربية للعرب وللإسلام. لقد ركز إرفنغ على الإنجاز العربي في الأندلس لأنه يفرز أنموذج: السيف بيد والبناء باليد الأخرى، كدافع لمعاصريه للمحاكاة والتقليد. لذا ركز على بعض الشخصيات العسكرية معبراً عن شديد الإعجاب بفروسيتها وأخلاقياتها الشجاعة، كطارق بن زياد وعقبة بن نافع، كما ركز بنفس الدرجة على الشخصيات الإدارية التي تمكنت من ترسيخ الحكم العربي الإسلامي في الأندلس من خلال رعاية الصناعات والحرف والزراعة، كشخصية أول والي للأندلس في العصر الأموي. ولكنه أكد على الأبعاد الغيبية والخرافية التي شابت الخلافة العربية بالأندلس في وقت متأخر، كمؤشر على تراجعها وإنحطاطها، الأمر الذي أذن بنشوب الحروب الأهلية التي مهدت الطريق للعدو الخارجي لتسديد الضربة القاضية للدويلات المتبقية من دولة الخلافة الأندلسية. ويبدو أن أهم ما قاله إرفنغ في هذا السابق هو الخطاب التحذيري الموجه إلى الغرب بأن الأندلسيين المهزومين ما زالوا (حتى عصره) يحلمون بالعودة إلى تلك البلاد. والدليل هو أنهم يرفعون أدعيتهم في الصلوات لهذا الغرض ويحتفظون حتى بوثائق ومفاتيح عقاراتهم القديمة في الأندلس.
أما الفصل التاسع من الكتاب، فإنه يركز على أهم الطرائق التي تعامل بها المستشرق رقم واحد في الأدب الأميركي، وهو رالف والدو إمرسون Emerson مع الماضي العربي الإسلامي. وهو لا يختلف كثيراً في دوافعه عن إرفنغ من خلال تركيزه على الدروس الإجتماعية والسياسية المستقاة من النماذج التاريخية العربية الإسلامية، المتجسدة على نحو خاص في شخصية الرسول الكريم (ص) والخلفاء الراشدين (رض). لقد كان هؤلاء، حسب رأي إمرسون، من بناة الأمم العظيمة الذين لا يختلفون عن أعظم آباء الأمم والإمبراطوريات التاريخية الكبيرة. ويعد هذا، نسبياً، تحسناً في طرائق التعامل الغربي مع الشواخص التاريخية العربية الإسلامية. كما خص إمرسون المرأة العربية أو المسلمة بالإهتمام، حيث إنه كان قد تأثر بكتاب (ألف ليلة وليلة)، مقدماً إياها كنموذج للحيلة والذكاء الفطري والقدرة على المناورة، إستناداً على شخصية شهرزاد. وبرغم هذا فإن إستحضار إمرسون لإنموذج الخلفاء الفاتحين كان كذلك مصمماً كدرس أخلاقي في التواضع والبسالة والشجاعة لجمهوره الأميركي، خاصة الحاكم والمتنفذ منه. لقد وظف إمرسون الأنموذج التاريخي الشرقي في عصور إزدهاره كمثال يستحق المحاكاة، بينما إستعمل هذا الأنموذج (في عصور التردي والنكوص) كمعيار لقياس التراجع المعاصر في أميركا، زيادة على إستغلاله كدافع للتغيير وللتخلص من شوائب ثقافة معاصرة تحتاج إلى الإرشاد والتوجيه.
أما الباب الرابع والأخير من الكتاب، فإنه يقع في فصلين: الفصل العاشر، وهو محاولة لجمع خيوط طرائق مباشرة الماضي العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط حتى عصرنا، مع إشارة خاصة إلى محاولات المستشرقين تعريف دورهم الإجتماعي من خلال توظيف تاريخنا بأساليب متنوعة. أما الفصل الحادي عشر، تواصلاً مع الفصل الذي يسبقه، فهو محاولة للمقارنة والمقاربة بين طرائقنا، العربية الإسلامية، في مباشرة هذا التاريخ من ناحية، وبين طرائقهم (الغربية، الإستشراقية) في مباشرته وتحليله. لذا تم إستحضار أهم المنطلقات الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة على سبيل البرهنة على أن هذا الماضي إنما هو كينونة حيوية ومولد فاعل في صناعة التاريخ المعاصر وإستشراف المستقبل لدى العرب والمسلمين اليوم. لقد كان هذا الماضي بالنسبة للعقل الغربي يبدو نموذجاً طللياً يستحق الدراسة والرصد، ولكنه غير قادر على التوليد والإنبعاث. وإذا كانت "الخاتمة" تلخص أهم نتائج الدراسة، فإنها كذلك تمهد الطريق للمزيد من الباحثين لدراسة وإستقصاء هذا الموضوع الحساس على سبيل سبر أغوار وطبيعة التعامل الإستشراقي مع الشرق العربي الإسلامي، ماضياً وحاضراً.

عنوان الكتاب : الإستشراق: الإستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي
المؤلـــف : أ.د. محمد الدعمي
الناشــــر : مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت : مارس 2006
عدد الصفحات : 246

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف