عالم الأدب

الجنرال والقرد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"أنا لست صوتا لمن لا صوت لهم. الناس ليسوا بلا صوت..نحن صم. نحن لا نسمعهم." أرييل دورفمان

سبتمبر 1973

كانت أشعة الشمس تتسرب من خلال ثقب في الستائر السوداء الجاثمة على نوافذ الغرفة لتغزل خيوطاً من النور تعكس أضواء خلابة في كوب الماء القابع على طاولة سوداء اللون في الزاوية اليمنى من هذه الغرفة...... لماذا يصر الجنرال على استقبالنا في هذه الغرفة المقيتة..؟.... الغرفة واسعة أعدت من قبل قيادة الثكنة لتكون مكتب للاستقبال وغرفة للأكل. يتوسط الغرفة مكتب رصاصي اللون تناثرت عليه عدة هواتف،أجهزة اتصال، جهاز تسجيل وبعض الملفات. عدد من الكراسي تتوزع في المكان دونما انتظام. رائحة الرطوبة والغضب تملأ الغرفة فيما تزين أحدى جدرانها صورة بالية لأحد أباطرة روما.
كنت واقفا في انتظار أوامره. وكان هو واقفا أمام مكتبه. الصمت المعهود الثقيل الذي يسبق الأوامر الحادة خيم على المكان.
المح بطرف عيني الألوان التي ما زالت تتراقص في الكوب. وبطرف العين الأخرى أراقب انغماسه الكلي في فحص الصورة الملقاة على مكتبه.
الرائحة اللعينة تطبق على أنفاسي.
الوقت يمضي مرهقا ومملا...
أنا في وقفتي.. والجنرال في تأمله....
دونما صوت انساب جسمه ليسقط على كرسيه.
مضى دهر..وأعقبه أخر والسكون المطبق لا يقطعه سوى ثقل أنفاس الجنرال المنهمك في التأمل.
يبدو من بعيد كعاشق ولهان أو كعابد متصوف.
تخيلت روميو جاثما على ركبتيه... كتمت ابتسامه لاحت في أفقي.
فجأة دفع كرسيه للخلف و ارتمى بظهره على الكرسي وعيناه تثقبان السقف العاري إلا من ثريا صغيرة بائسة.
حرك رأسه مرتين ثم أنحنى للأمام. مد يده ليلتقط الصورة. قربها من وجهه حتى غطت ملامحه.... نفذ صوته من الصورة...تيبس جسمي و تبعثرت حواسي.
- ماذا يريدون مني..؟...ماذا..؟ قال هادراً..
بالطبع لم أرد.
نت أعرف أنه يفكر بصوت عال و لا ينتظر ردا من أحد...
أبعد الصورة عن وجهه ورماها نحو الملف الملقى على مكتبه.
لماذا يفعلون ذلك بي ؟.. لقد فعلت لهم كل ما يريدون و أكثر..!
لماذا يتركون هؤلاء القردة يهاجموننا في جرائدهم..؟
تكاثرت قطرات العرق على وجهه. أستند بيديه الاثنين على حافة المكتب.. دفع رأسه ببطء إلى أعلى....
التفت نحوي ونظر إلي وكأنه الآن فقط قد أحس بوجودي..
- خذ هذا الملف إلى الكولونيل أسكوبار.. أعلمه بأمر هذا القرد.. أخبره أن أمر هذا القرد يهمني شخصيا..
تحركت لالتقاط الملف.. رمقت عيني كوب الماء.... غابت الألوان عنه.
حييته واتجهت نحو الباب المغلق. قبل أن أمد يدي لفتح الباب، استدرت و حييته مرة أخرى..
لم ينتبه.. لانشغاله بشرب كوب الماء.
خرجت متجها نحو الباحة الشرقية للثكنة حيث يقع مكتب الكولونيل أسكوبار...
أحسست بثقل الملف.
تطلعت حولي ثم اتجهت عيناي ببطء نحو الاسم المكتوب عليه.... آرييل دورفمان....
لم يعن ذاك الاسم شيئا لي.
شددت من قبضتي على الملف... ثم أكملت سيري نحو قسم المهام الخاصة.
وعند المدخل.. توقفت برهة....
باب أسود اللون.. كريه الشكل... يزيد من قبحه حجمه المخيف.. لافتة صغيرة بحروف بيضاء
قسم المهام الخاصة
اقشعر بدني..ووجدت نفسي اردد في صمت...
يا ألهي... خذني من هذا المكان....!

لماذا أنا في المنفي......؟

في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس/ آب 1973 كان المسرح السياسي في سانتياجو تشيلي ينذر بما هو قادم. الاقتصاد الوطني في حالة انهيار شامل، إضرابات عمالية، توقف لكل المعونات الخارجية، نمو هائل في نسبة التضخم، نقص في السلع الأساسية، وانتشار للشائعات حول انقلاب وشيك بتخطيط وتدبير من الولايات المتحدة وحول السقوط المحتم للحكومة الشرعية المنتخبة. بدت سانتياجو آنذاك كمدينة في حالة نفسية قلقة وتوتر دائم.
في عام 1970 كان الطبيب سلفادور الليندي قد تولى لتوه مقاليد الحكم في البلاد كأول رئيس اشتراكي يأتي عن طريق صناديق الاقتراع. كان يحلم وثلة من رفاقه بالوصول إلى العدالة الاجتماعية عن طريق السوسياليسمو باسيفيكا ("الطريق السلمي إلى الاشتراكية"). بهَدف الوصول إلى توزيع أكثر عدلاً لمصادرِ البلادَ و تَأميم الصناعاتِ الرئيسيةِ.
وكانت الإدارة الأمريكية برئاسة نيكسون تضع الخطط كما كشفت وثائقها في ما بعد لخلق الظروف الملائمة لزعزعة النظام ولتمهيد الطريق لقدوم العسكر على ظهور دباباتهم.
في إحدى أمسيات ذاك العام، بإحدى ضواحي العاصمة جلس الأستاذ الجامعي الشاب أريل دورفمان إلى آلته الكاتبة وراح يطبع بأنفاسه المحمومة مخطوطة ستجعل أسماً له في عالم الأدب كمثقف يساري عندما رن جرس الهاتف. أخبرته زوجته أنجيليكا وهي تلهث أن المكالمة من الرئيس المنتخب الليندي..!. دامت المكالمة ثلاثة دقائق ليتحول بعدها الأستاذ الكاتب إلى مستشاراً ثقافيا للرئيس الجديد. يا إلهي.. ما أسرع التحولات في هذا البد. لم يكن البروفيسور الشاب يعلم أن هذه هي أول التحولات وأسهلها.....!
كان أخطر تلك التحولات ما حدث صباح 11 سبتمبر في تمام الساعة الثامنة صباحا عندما استيقظ دورفمان إلى هدير الطائرات التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض..... انقبض قلبه بشده وهو ينظر إلى ساعته.. يا إلهي.. صاح في هلع.. أنجيليكا... اتصلي بالقصر.. اتصلت زوجته مرارا... لا أحد يجيب... ثم انقطعت الحرارة من الهاتف... لم يعد الأمر يحتاج إلى المزيد من التخمين.... لقد هاجم الجيش القصر وأحتل المرافق الهامة....
سيذكر آريل فيما بعد أنه قفز خارج سريره بشكل مسعور، بَدأَ باللِبس ثم أخبر زوجته أنه ذاهب للقصر.. تعلم هي أنه لا سبيل إلى إيقافه..قررت أن تذهب معه...ذهبا معا... قطعا شارع الآميدا الذي يشطر سانتياغو...إلى ميدان إيطاليا الذي يبعد حوالي الميل عن القصر المحاصر... كانت هناك تجمعات للناس وحواجز مكثفة للشرطة.. أصوات الرصاص والقذائف تسمع بوضوح وكان المرء يرى بوضوح سحب الدخان والحرائق..انتاب التوتر والفزع رجال الشرطة و تفرقت الناس إلى مجموعات صغيرة.. أدركا استحالة الوصول إلى القصر....
ستذكر يا دورفمان ذاك النهار........ "كان بإمكاننا سمع إطلاق النار، وأن نَرى الناسَ يتقاذفون بحثا عن ملجأ. ولكننا لَمْ نَعْرفْ آنذاك بحجم خسارتنا - أدركنا فقط أن ثمة انقلاب يحدث. آه يا أصدقائي.. كانت تلك لحظة اتخاذ القرار المر..الحياة أو الموت..و إي حياة و إي موت... أفكر في بعض الأحيان.. أن ربما كان في إمكاني الوصول إلى المحاصرين لو استعملت بعض مِنْ الشوارع الفرعية. ربما....ولكني لم أكُونَ مجنونا أو عاقلاً بما فيه الكفاية لأعْمَلُ ذلك...توقفت للحظات لأقرر..نَظرتُ خلفي..... ثم نَظرتُ لأنجيليكا،.......وبعد ذلك نَظرتُ صوب القصر..... وقرّرتُ العَيْش."
وستنظر خمسة وعشرون عاما لتقول...." في تلك اللحظة... الحياة أرادتني... العنف تجنبني...... التاريخ أعطاني ميلادا جديداً.. والموتُ قرّرَ أَنْ لا يَأْخذَني. "....... ولكن..لازلت حتى الآن أتساءل...هل كَانَ يجبُ أَنْ أكُونَ في قصر لامونيدا مَع الليندي؟
تلك اللحظة شهدت ميلاد جديد لك. ستذكر لأصدقائك فيما بعد.. أن تلك اللحظة غيرت كل شيء في حياتك. حولتك إلى شخص ثنائي اللغة متعدد الثقافات.. جعلت لحياتك هدفا ًوحيدا...أن تجعل قصة تشيلي وما حدث فيها مسموعا للعالم... لن يغيب صوت المخطوفين والمذعورين والمعذبين. كتبت الراويات، المسرحيات، المقالات، الشعر، القصص القصيرة، وشاركت في الندوات واللقاءات الصحافية لترسم صورة بلد يعاني تحت وطأة دكتاتورية قاسية متوحشة تدعمها قوى دولية نافذة. بكلمات أخرى أمتزج العمل والذات والوطن ليجلبا لك شهرة لم تسعى إليها.
ولكن....
بين الحين والأخر...تقتحم التساؤلات لحظات صفائك.... لماذا أنا في المنفي؟.. لماذا أنا بعيد؟...لماذا لم أمت مثل الآخرين ؟ وستطاردك لسنوات عدة. تطاردك بلا رحمة حتى تلتقي بفرناندو فلويس الرجل الذي كان يرتب اللقاءات والاجتماعات في قصر الرئاسة.....وستسأله ليجيبك بكل بساطة..
- لقد شطبت أسمك من قوائم الحضور في ذاك اليوم ؟
- ولكن لماذا؟...ستلح بنبرات عجولة...لماذا..؟.
فيصمت دهراً.... وهو يعيد ترتيب تلك الأحداث في ذاكرته....... ويُجيب.
- "حسنا، كان لابد من أن يعيش أحد ما... ليروى ما حدث".
لقد اختارتك الأقدار لتخبر العالم أن هناك من يتحدث في تشيلي وأن عليهم الإصغاء لتلك الأصوات.

كاتب وقاص من ليبيا
Lawgali1@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف