عالم الأدب

سرّ كافافيس

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

(1 / 2 )

في الوحي والإيحاء

كان الشِعرُ، دوماً، كلمة َ الله؛ الكلمة التي تلقاها بنو البشر عبْرَ وساطة النبوّة. بالمقابل، فإنّ الوحيَ متمثلاً بملاك مُرسل ٍ، هو الموصل تلك الكلمة إلى رسول الهداية. الشعرُ، إذاً، سالة ُ عالم الغيب إلى عالم الموجود، ساعيها وحيٌ ومبلّغها نبيّ. لا غرو، والحالة هذه، أن يُخلبسَ شاعرُ القرون الخوالي جمهورَهُ بخرافة الإلهام ومغامضه؛ الإلهامُ المستعادُ بصورة الوحي، الملائكيّة. وإذا نحينا جانباً إعتقادات الأولين الخرافية، تلك، فلا محيدَ لنا هنا إلا الإحاطة بإحدى إشتقاقات مفردة " الوحي "؛ وهي " الإيحاء ". الشعرُ، أبداً، فعلُ إيحاء ٍ؛ وبمفهوم المعاصرة _ كيلا نستعمل كلمة الحداثة، جزافاً! وفي إصرارنا على أنّ الشِعرَ، بالدرجة الأولى، رسالة ٌ ما؛ فلنرَ ما يقوله النقدُ الجديد، تحديداً، بخصوص الطبيعة الإيحائية ( أو الرمزية ) للأعمال الأدبية، خلال مشادته مع سلفه؛ النقد القديم : " فلقد تمّ التأكيد على الحقوق الشمولية للرسالة، دون أن يُترك المجال أبداً لسماع أن الرمز يستطيع أن يمتلك حقوقه هو الآخر. وربما لاتكون هذه الحقوق هي بعض الحريات المتبقية التي ترغب الرسالة في تركها له. ونريد أن نسأل، هل تقصي الرسالة ُ الرمزَ، أم أنها تسمح به؟ وهل المعنى في العمل حَرْفي أم رمزي _ أم هو أيضاً، كما يقول رامبو، " حرفي في كل الإتجاهات "؟. (1)

لقد سالَ كلامٌ كثير على ورق تاريخنا، فيما يخصّ مسألة إزدواجيّة المعنى في كتاب الله؛ الظاهري والباطني. المدهش هنا، ذلك التلازم في سيرورة الوحي والإيحاء؛ بما أنّ هذا الأخير هو فعلٌ شعريّ خالص. فالمعنى الباطني، دينياً، يجدُ له مقابلاً أدبياً؛ هو تعددية القراءة للكتاب نفسه، شعرياً كان أم روائياً. وبهذا المعنى، يأتي قول الناقد رولان بارت : " فالتعددية لا تشير إلى ميل المجتمع نحو الخطأ، ولكنها تشير إلى إستعداد الكتاب نحو الإنفتاح. والكتاب يمتلك في بنيته، وليس عجزاً من أولئك الذين يقرأونه، عدداً من المعاني في الوقت نفسه. وهو بهذا يعتبر رمزياً : وليس الرمز صورة، إنه تعددية المعاني نفسها " (2). ثمة تلازم آخر في سيرورة النص المكتوب؛ الديني والشعري : إنه " إستيحاءُ " الأسطورة، المعبّر عنها دينياً في قصص الأنبياء. لغة الإيحاء، الشعري، في تخلقاتها وتهويماتها وهذياناتها..، تشابه إلى حدّ بعيد، " في الواقع "، لغة الوحي الإلهي؛ بما هي عليه من ما ورائية غير خاضعة لقوانين الزمان والمكان. كلا النصان، الشعري والديني، يُشبه في هذا المجال، عالمَ الأحلام والأساطير : " فهي كلها " مكتوبة " بلغة واحدة، وهذه اللغة هي اللغة الرمزية ". (3)

النصّ الدينيّ، كما أسلفنا، هو " وحيُ " عالم الغيب إلى عالم الموجود. هذه الصفة، تتجرّد في النصّ الشعريّ، وبدون أن نبسّط الأشياء، إيحاءً رمزياً خالصاً لعالم الموجود _ أيْ الواقع. جدلية الرمز والواقع، هيَ قدَرُ الشعر قديماً وراهناً؛ وبغض النظر عن أغراضه ومعانيه وأساليبه. إنّ التأكيد على الرمز هنا، لا علاقة له بتلك المدرسة الشعرية؛ الرمزية، بله ما يتحدد في " تعددية القراءة "، بحسب تعريف الناقد رولان بارت، آنف الذكر. كلّ نصّ شعريّ، إذاً، يكمن أصالته وفرادته في قراءاته المتعددة، المختلفة، جيلاً وراء جيل. كأنما هي ولادة ٌ متواترة ٌ لمخلوق واحد؛ وكلّ خلق ٍ إبداعٌ.. كأنما الشاعرُ على موعدٍ دائبٍ مع خلوده؛ خلود نصّه : هاهنا سيرورة التلازم بين الشاعر والنبيّ، في أسطع أمثلتها.. هاهنا، أيضاً، شاعرٌ؛ هو اليوناني قسطنطين كافافيس، الذي إستحق لقب " شاعر المدينة "، بحسب ما أسبغته عليه الرواية الخالدة " رباعية الإسكندرية " (4). هو من إبتده رسالته _ كأيّ نبيّ _ في مستهل الأربعين من عمره؛ من أسجى نصّه ببرقع الرمز الشفيف، المتماهي مع واقع حياته، الممضّ المبتئس الضائع.. هاهنا، بعد كل شيء، قراءة جديدة لعالم شاعرنا الإسكندراني، القديم الرائع.. الشاعر المُحتفى به أبداً على ضفتيّ المتوسط؛ البحرُ الذي إنتمى إليه وأحبّه :

" نحنُ أهل الإسكندرية، وأهلُ أنطاكية
نحن أهل سلوقية.. نحن إغريق مصر وسورية
وأولئك الذين في ميديا، وفارس.. والآخرون جميعاً.
بسيطرتنا الممتدة بعيداً
بنفوذنا المتنوّع، والمكيّف بحكمة
ولغتنا الإغريقية المشتركة
حملناها إلى أواسط باكثيريا، وحتى إلى الهنود " (5)

في روح "شاعر المدينة"

لم ينتم كافافيس، روحاً وإبداعاً وجسداً، إلا للإسكندرية؛ المدينة الأفريقية، السمراء، المتسقة بوداعة وجلال على ضفة المتوسّط؛ بحرُ العالم. منذ بداياته، قدّر له وعيَ إكتناه سرّ المكان المحتبي قدَرَهُ، كفنان ذي رسالة فريدة. على أنّ الزمن الذي تعايشتْ في طيّه حياة كافافيس، وتجربته الشعرية بشكل خاص، كان في طور متطرف من الإبتذال والسقامة والغثاثة. فلا غرو، والحالة هذه، في تعويض تجربته الشعرية لزمنها الراهن، بأنْ أسحقت بعيداً، إلى أزمان غابرة، مجيدة، بحثاً عن رموزها ودلالاتها. وكأي إغريقيّ، أصيل، فخور بأسلافه وحضارتهم المتنوّعة، ما كان لكافافيس سوى الإيغال بالماضي المستعاد تعويضاً عن حاضره الضائع. هذا مع إدراكه، على الأغلب، بأنّ ذلك الماضي، المُرتجى، كان هو الآخر قد ضاع، وفقدَ أبداً :

" حظكَ يتعثر الآن، أعمالك التي أخفقتْ
وخطط العمر التي غدت كلها أوهاماً _
لا تأس بلا جدوى.
بل مثل من إستعدّ منذ زمن، وبكل شجاعة
قل لها وداعاً، للإسكندرية التي تغادر "

هذا المقطع، المقتطف من قصيدته " الإله يخذل أنطونيو "، يحيلنا إلى حِيَل كافافيس، الشعرية، وكيفية تعامله مع الواقعة التاريخية، وأحياناً الأسطورية، تعبيراً عن واقعه المعاش. إنّ مأساة أنطونيو، القائد الإغريقي المتحالف مع الملكة كليوباترا سعياً لإستعادة إمبراطورية أسلافهما؛ تلك المأساة، كان شاعرنا يخوضها في المكان ذاته، وإن في زمان آخر أكثرَ جدّة : في إسكندريّته المفتقدة ماضيها البتولمي والبيزنطي معاً، والتي تعيش حاضرها المتدهور وإضمحلالها المضطرد كمدينة ذات ثقافات متعددة. في غمرة هذا التاريخ المفقودُ والمستعادُ في آن، يعثر كافافيس على حقيقته الضائعة؛ عبر أحد الرموز الأثيرة في تجربته، كـ " شاعر المدينة "، المعاصر. لقد عبّر النقاد، دائماً، عن دهشتهم إزاء إهمال كافافيس لرموز الإغريق، الأكثر بريقاً وتألقاً عبر التاريخ؛ كبريكليس وهوميروس وسقراط والإسكندر الأكبر.. وغيرهم. حتى فيما يخصّ ماضي مدينته، البتولمي الوثني على سبيل المثال، تراهُ يهمل عن عمدٍ التطرقَ لتلك الشخصيات البارزة، المكلل رؤوسها بسِعَف المجد. هاهنا، في قصيدة " ملوك إسكندريون "، أولادُ كليوباترا، يُعرضون كدمىً جميلة، مزركشة، على مرأى من أهالي المدينة :

" إسكندر، لقبوه بملك أرمينيا وميديا والبارثيين.
بتولمي، ملك كيليكيا وفينيقيا وسوريا.
قيصريون، كان يقف إلى الأمام قليلاً
مرتدياً الحرير الأحمر
وعلى صدره أكاليل زنابق
وحزامه صفان من الياقوت والجمشت
وحذاؤه مشدود بأشرطة بيض
مطرّزة بلآليء وردية،
وكانوا يلقبونه أكثر من شقيقيْه،
كان يلقب بملك الملوك.

الإسكندريون فهموا بالطبع
أنّ هذا كله، كلمات وتمثيل، حسب "

لم يتكلف شاعرنا، في عرضه المتخيّل ذاكَ، لغة ً مفخمّة، فخورة، في وصفِ أسلافه من سلالة البطالمة الإسكندريين. بل على العكس تماماً من ذلك الشعور المفترَض، فإنّ لذعة السخرية واضحة ٌ في نهاية المقطع؛ كما في خاتمة القصيدة، سواءً بسواء. فالإسكندريون، رغم سابق معرفتهم وتوجسهم من النهاية القريبة لمُلك سلالتهم الإغريقية، البطولمية، إثر الخلاف مع الرومان العتاة؛ بالرغم من ذلك، فلم يحرموا أنفسهم من متعة اللحظة الزائلة فشاركوا في الإحتفال بحماسة :

" مع أنهم يعرفون، بالطبع، قيمة هذه الملكيات
وأي كلمات فارغة هي "

ولكن، أين هي كليوباترا _ رمز المدينة الإغريقية، الأشهر _ من هذا كله؟ إن فنّ كافافيس، بما هو إلتقاط ٌ لشواردَ اللحظةِ التاريخية المُفصحة، في موقفٍ ما، عن ضعفٍ بشريّ بشكل خاص؛ هذا الفنّ ضربَ صفحاً عن الأسماء الكبيرة ووجدَ ضالته في أسماء اخرى، مهملة على ناصية التواريخ. لعلنا نجدُ مثالاً عما ذهبنا إليه، في قصيدة " قيصريون "؛ المُفتتحة بلذعة معتادة من توصيفات الشاعر لتلك الشخصيات الإغريقية اللامعة :

" المجد يتلو المجد، الكل شهير، قوي، مليء بالفعال النبيلة،
وكل ما قام به، قمة الحكمة.
ونساء القصر... كلهن بيرنيس، وكليوباترا "

بيْدَ أنّ الشاعر ما كاد يهملُ الكتاب التاريخي، الذي كان يقرأ فيه ويدعه من يديه، حتى يومضُ إسم غامض منه : إنّه " قيصريون "، إبن كليوباترا؛ مَنْ عرَضته قصيدة كافافيس " ملوك إسكندريون "، السالفة الذكر، كـ " ملك الملوك "؛ هذا الإبنُ، يقبع الآن أسيراً بيد الرومان الغزاة، أعداء قومه. في إستحضاره صورة ذاك الأمير الفتى، كأنما الشاعرُ يماهي مصيرَه بمصيره هو، الشخصي؛ هنا في إسكندرية العصر الحديث، المجددة مستعبديها ومعاناتها تحت وطأة الغزاة :

" ظننتكَ تدخل غرفتي،
وتقف أمامي، مثل وقفتك في الإسكندرية المهزومة،
شاحباً، متعباً، مثالي الحزن،
آملاً في أنهم سيرحمونك،
أولئك الوضعاء، الذين يرددون :
" قياصرة أكثر مما ينبغي "

الجملة الأخيرة من تلك القصيدة، المبوّبة بين هلاليْن، ليست من إختلاق الشاعر؛ بل هي ترديدٌ لقول أحد معاوني اوغسطوس، قيصر روما، الذي دخل الإسكندرية فاتحاً بعيْد إنتصاره على أنطونيو وكليوباترا. كان إبن هذه الأخيرة، قيصريون، هو وليّ العهد، كما سبق وذكرنا. إن حداثة سنه، أو جماله ربما، كادت تشفع له عند القيصر المنتصر؛ لولا تلك النصيحة الخبيثة المتلاعبة، بذكاء، على إشتقاق إسمه _ أيْ قيصريون : نسبة لأبيه يوليوس قيصر. ولكن كافافيس، عمد إلى بتر تلك الجملة الناصحة، المنسوبة للقائد اريوس، والتي هي بحسب المصدر التاريخي : " قياصرة أكثر مما ينبغي، أمرٌ سيء ". إنّ من الأهمية بمكان، برأينا، التوقف عند هذه المسألة، بما نفترضه " حيَل " كافافيس الشعرية وكيفية إجتياسه لمجاهل التاريخ الإغريقي؛ هذا التاريخ، المتسم بالإثارة والغنى بما فيه من تماهٍ بالأساطير غالباً. لقد إستغل شاعرنا حقيقة أنّ تاريخ اليونان، شأن أساطيرها، كان وما فتيء معروفاً على نطاق واسع من لدن المثقفين في المعمورة، والأوروبيين منهم، بشكل خاص. لقد أمدّه ذلك بحريّة التصرف بالواقعة التاريخية، من بتر أو إضافة، وهو مطمئن لجهة إطلاع قارئه عليها كما هيَ؛ أيْ بنسختها الأصلية، العلمية، المجردة. إلا أنّ هذه الحقيقة، يجب ألا تجعلنا نتوهّم بأنّ كافافيس كان يسير على أرض سهلة، ممهدة. نحن ندرك من خلال ناقديه أنه عانى كثيراً من المشاق، فضلاً عن طول تردده، قبل أن يتأتى له إكتشاف عالمه ذاك. وحينما خط أولى قصائده، في هذا الإتجاه، كان ذلك بعد العام 1911؛ أيْ أنه كان قد تجاوز الأربعين من عمره (6). نستطردُ إذاً، على ضوء ما سلف من ملاحظات، في محاولتنا تقصّي عالم كافافيس الشعري. لقد نوّهنا بفرادة رموزه ودلالاته، ويهمنا هنا إكتناه كيفية تصرّفه بالواقعة التاريخية، المطلوبة. وعودة إلى قصيدته تلك، " قيصريون "، التي يدهشنا فيها للحقيقة، أنّ واقعتها الأصلية ليست مختزلة في القصيدة وحسب، بل تكاد أن تكون غير موجودة بالمرّة؛ اللهمّ إلاّ في ذهن قاريء القصيدة، نفسها، المفترض معرفته أو على الأقل إلمامه بالتاريخ الإغريقي / الروماني :

" ها أنتذا تجيء، بسحرك الغامض.
ليس في التاريخ سوى سطور قليلة عنك
ولذا جلبْتك، بحرية أكثر، في ذهني
جبَلتك جميلاً لذيذاً "

إنّ مسألة المصير الإنساني، لهذه الشخصية التاريخية أو تلك، هي ما كان يشغل عالم كافافيس الشعري؛ العالمُ المناقض لمثيله البطولي، المُقترَن بمجايليه من شعراء اليونان ذوي النزعة الغنائية المنتصرة، كـ " بالاماس " وأضرابه (7). لا غروَ أن تتسلسل قصائد كافافيس بهذا الإتجاه الإنساني، الفريد، وأن يؤوب المرة تلو الاخرى فيها، إلى موضوعه المفضل : نهاية العهد الذهبي لإغريق الإسكندرية، المتمثل بسقوط انطونيو وكليوباترا ( " الإله يخذل انطونيو "، " ملوك إسكندريون "، " قيصريون "، " في الإسكندرية عام 31 ق. م ".. وغيرها من القصائد ). وعلاوة على المصير الإنساني، ثمة مسألة اخرى لم تكن لتقل أهمية عند كافافيس : البوح بميله الجنسي، المثلي، صراحة ً كان أو إبطاناً. وليس في هذا الأمر أي مبالغة أو إفراط في التنظير. لأنّ الفنان كائناً ما كان، لا يستطيع عن رغباته الدفينة إلا إزدلافها خلل قصيدته أو روايته أو لوحته؛ سواءً بسواء إذا كانت رغبته تلك للجنس الآخر أم للجنس المثلي. لنرَ إذاً بإتكائنا على ما سلف، ما في قصائد كافافيس، المذكورة، من تلميحات حميمة وأثيرة بالنسبة لفنه. هذا ما يمكن لنا إستيفائه من وصف تنصيب أبناء كليوباترا، والتركيز على أحدهم؛ وهو قيصريون، بحلته وزينته ( قصيدة " ملوك إسكندريون " ). وربما أنّ قصيدة " قيصريون "، هي المثال الأوضح لما ذهبنا إليه، بخصوص إحتفاء كافافيس برغبته الجسدية، السريّة، تلك. ها نحن نقارن وصفه لبطل تلك القصيدة، " قيصريون " _ التي سبق ونقلنا القسم الأوفى منها _ بوصفٍ لبطل آخر، في قصيدة " المرآة في القاعة "؛ وهو وصفٌ على درجة مدهشة من التماثل، لا في السياق الخارجي فقط، بل وخاصة في الإسلوب الفني، الداخلي :

" في قاعة البيت الثري
مرآة ضخمة، عتيقة،
إشتريتْ منذ ثمانين سنة، في الأقل.

فتىً بهيّ، مساعد خياط
( رياضي هاو ٍ أيام الآحاد )
كان يقف حاملاً الطرد.
سلّمه لبعض من في البيت، فأخذه، وذهب ليحضر الوصل.
بقي مساعد الخياط، ينتظر، وحيداً.
وبعد خمس دقائق، أتوه بالوصل. أخذه ومضى.

لكن المرآة التي رأت، ورأت، عبر سني حياتها الطويلة
آلاف الأشياء والوجوه،
هذه المرآة العتيقة، فرحة الآن، وفخور
بأنها إستقبلت هذا الجمال، دقائق قليلة "

في كلا الحالتيْن، بحسب فهمنا الخاص، ثمة رموز مشتركة في دلالاتها : الكتاب التاريخي، في قصيدة " قيصريون "، والمرآة الأثرية، في القصيدة الاخرى. كلاهما " شهَدَ " على الواقعة الخاصة به، وعن طريقه حسب، أمكن للقاريء " معرفة " ما جرى فيها. بغض الطرف عن حيادية المصدريْن / الرمزيْن، هنا وهناك، إلا أنّ تعاطف كل منهما مع البطل غير خافٍ؛ لجهة وصفه ومصيره : إنّ قيصريون، وبالرغم من أنّ سطوراً قليلة في " كتاب التاريخ " تتكلم عنه، بحسب القصيدة؛ فإنه حظيَ على كل حال بنعمة الخلود، من خلال نفس الكتاب الذي تخطى شخصيات عصره، ممجداً جماله ومتأس لعمره الغض، المهدور على مذبح المكائد والمطامع السياسية. كذلك يمكننا القياس نفسه، بشأن رمز المرآة الأثرية : فهي مركونة بإهمال في منزل الأثرياء ذاك، ولا بدّ أنها رأت الكثير من الوجوه المتورّدة بالرخاء والعافية؛ بيد أنّ وجهاً واحداً، لفتىً فقير، من أفرحها وجعلها فخورة بإستقبال جماله، ولو لدقائق معدودة. إنّ فنّ الشاعر، في قصيدة " قيصريون "، هو من أهمل، في الواقع، شخصيات ذاك العصر البطولي، متكفلاً، بالمقابل، بتخليد إبن كليوباترا، التعِس؛ هذا الفنّ، نفسه، من " إختلق " واقعة المرآة، لكي يتغنى بالجمال الحقيقي، لهذا العشيق القديم أو ذاك، الذي ما كان لكافافيس إلا أن يفتقده، دوماً، وهو في شيخوخته. (8)

هوامش ومصادر :

1 _ رولان بارت، نقد وحقيقة _ الطبعة العربية في حلب 1994، ص 70
2 _ نفس المصدر، ص 82
3 _ إريك فروم، اللغة المنسية : مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير _ الطبعة العربية في بيروت 1992، ص 12
4 _ لورنس داريل، رباعية الإسكندرية ( الرواية الأولى : جوستين ) _ الطبعة العربية في القاهرة 1969، ص 54
5 _ كافافيس، وداعاً للإسكندرية التي تفقدها / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979 : وجميع المقاطع الشعرية، الواردة في المقال، مستلة من هنا
6 _ البروفيسور س. م. بورا، قسطنطين كافافيس والماضي الإغريقي : من كتاب " التجربة الخلاقة " _ الطبعة العربية في بغداد 1977، ص 40
7 _ ريكس وارنر، مقدمة لأشعار كافافيس، " وداعاً للإسكندرية التي تفقدها "، مصدر مذكور، ص 5
8 _ كتب كافافيس هذه القصيدة، " المرآة في القاعة "، عام 1930 : أنظر ديوان كافافيس، شاعر الإسكندرية / ترجمة عن اليونانية للدكتور نعيم عطية _ القاهرة 1995، ص 138

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف