مناجاة هاملت الثانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في هذه المناجاة نتعرف على أسرار جديدة. نتعرف على مكامن خفية في شخصية هاملت . قبل ذلك يروي شبح الملك أسراراً لهاملت قد لا تُكشف. بهذه الطريقة نكون، كنظّارة، على علمٍ بها دون بقية شخوص المسرحية.تتوقّت المناجاة عادة حين يكون البطل Protagonist وحيداً على خشبة المسرح. إنّه مقتنع أنْ ما من أحدٍ يسمعه. وعلى هذا يفضي بما يعتمل في صدره، وما الذي ينوي عمله، بحرية وبلا تحفّظ. بكلمات أخرى نتعرّف على فكرته المهيمنة المتكررة: Leitmotive. قيل لولا مناجيات هاملت لكانت شخصيّته أقلّ شموليةً وعمقاً. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ توقيتها يزيد من الإيقاع الدرامي" ويحدث توقفاّ أو انقطاعاًCaesura للتأمل في النقاط المهمة" تأتي هذه المناجاة في المشهد الخامس - الفصل الأوّل. وحتى نتعرّف على مراميهابصورة أفضل، فلا بدّ من تصفّح المشهد الرابع، لأنّه ممهّدٌ لها. يبدأ المشهد الرابع على الوجه التالي:
هاملت: الهواء يلذع يحدّة. الجوّ بارد جدّاً
هوراشيو: الهواء قاطع وقارس.
هاملت: ما الوقت الآن؟
هوراشيو: أظنّ أقل من الثانية عشرة.
مارسيليوس: لا، لقد دقّت الثانية عشرة
هوراشيو: صحيح؟ لم أسمعْها
إذنْ تقترب الساعة من الوقت
الذي تعوّد الشبح على أن يتمشّى
( هتاف أبواق وقذيفتا هاون)
ماذا يعني هذا يا سيّدي اللورد؟
في الحوار أعلاه، يبذر شيكسبير عدّة بذور مهمّة، لها صلة وثيقة بهذه المناجاة موضوعة البحث. ففي قول هاملت: "الهواء يلذع بحدّة. الهواء بارد جدّاً"، يتكشّف لنا مفهومان من العصر الاليزابيثي. فالبرد يدلّ على وجود هاجس غامض، وكذلك على خوف. هذان الشعوران الطارئان، سيعودان وينتابان هاملت حينما يلتقي بشبح أبيه، كما سنرى.
البذرة الأخرى التي زرعها شيكسبير، في الاقتباس أعلاه، هي ضيق الوقت. بهذه الحيلة أخذت الجمل تتدفق كاللهاث، أخذت الأفعال تنفجر بإيجازات سريعة، أخذت الأفعال طابع الاستنفار. من هنا يكون لسؤال هاملت، و هو سؤال بسيط في الظاهر: "ما الوقت الآن؟"، أهمية استثنائية. ذلك لأنّه ليس زمناً روانيّاً سرديّاً وإنّما هو زمن مشحون بالترقّب فيزيد من حجم الهاجس، ومن حجم الخوف. بالإضافة، حين قال مرسيليوس: "لا، لقد دقّت الثانية عشرة"، أجابه هوراشيو: "صحيح؟ لمْ أسمعْها ". لماذا لم يسمعْها؟ ألا يدلّ ذلك على ذهول طارئ أعمق من الذهول العادي؟ هذا هو فعل الهاجس إذنْ. يصيب الإنسان بالصمم ولو موقتاً. يبات مشدوهاً ومنصعقاً. الثانية عشرة ليست كأية ثانية عشرة تمرّ وتمّحي. إنّها الدقيقة التي يظهر فيها شبح الملك بكامل ملامحه الحيّة، وبكامل بزّته. ميتاً ويتنفّس. ميْتاً وينطق.
ترافق الموسيقى ظهور الملوك عادة . عُزِفَت الموسيقى فعلاً، وسُمعَتْ "قذيفتا هاونْ". المفارقة إنّها ليست إيذاناً بدخول شبح الملك، ولكنّها إعلان عن الحفلة الصاخبة التي شرع الملك بحضورها في تلك اللحظات. هكذا يتفاجأ النظّارة بزمن ردئ، بعد أن توقّعوا زمناً جليلاً.
هاملت: "سيبقى الملك سهران يشرب
ويقصف ويرقص الرقصة الألمانية
وكلّما عبّ جرعة كبيرة من خمر الراين
مرّةً واحدةً، إلى آخر قطرة، نهقت لانتصاره المجيد
موسيقى الطبل والبوق"
ربّما أراد هاملت بهذه التفاصيل نفسيّاً أن يبتعد عن مخاوف الانتظار. أما كلمة: " نهقت"، فكأنّه كان يقارن بين موسيقى روحيّة عالية، وبين موسيقى بهيميّة واطئة، على غرار مقارنته بين زمنين كما مرّ بنا. على أيّة حال، في هذا الجوّ الممتلئ جَلَبةً ودناءة وفوضى يظهر الشبح بأجلّ نظافة رصيناً ومتوازناً. أراد الشبح أن يكلّم هاملت على انفراد. ولكن ليست كلّ الأشباح خيّرة حتّى وإنْ بدتْ كذلك. ألحّ هوراشيو ومارسيليوس على هاملت ألاّ ينصاع لإرادة الشبح، إلاّ أنّ هاملت أجاب
برباطة جأش:
"ما وجه الخوف؟
لا تعدل حياتي خردلة"
ولكنْ لماذا قاس هاملت حياته بخردلة ، وهو لا يعرف لحدّ الآن أن عمّه هو الذي صبّ السمّ في أذن أبيه فقتله؟ هل كانت هواجس هاملت بهذا القدر من التوحّش والشراسة بحيث صيّرت حياته خردلة؟ حاول هوراشيو وهو الشخصيّة المثقفة العالمة في المسرحية أن يثني هاملت، فالأشباح تبطن غير ما تعلن. وحين لم ينفع المنطق، صوّر هوراشيو مشهدا طبيعيا ً يدخل الرعب في النفس، ويسبب الدوار المغثي حتى وإنْ خلا من أيّ شبح:
"ماذا لو أغراك صوب البحر، يا سيّدي اللورد
أو إلى قمّة المنحدر الصخري المرعبة
تلك المعلّقة فوق قاعدتها في البحر
وهناك ينتحل شكلاً مخيفاً آخر
قد يجرّدك من السيطرة على عقلك
ويسحبك قريباً من الجنون؟"
إلاّ أنّ هاملت يجيب ببساطة البديهيّات: "القدر يناديني: ."القدر يناديني" مشحونة بالاحتمالات وربما بأعراض جنونية موقتة، مؤدّاها استلاب العقل. مهما يكنْ من أمر، يبدأ المشهد الخامس حيث موقع المناجاة، بهاملت وهو مرتعدة فرائصه خوفاً. أين اختفت رياطة الجأش؟ وأين الخردلة التي ادعاها؟ وأين "القدر يناديني"؟ الآن يقول مخاطباً الشبح، بضعف بشريّ هشّ:
"أين تقودني؟ تكلّمْ لن أمضي أبعد من هنا"
ذكرنا في بداية المقالة أنّ قِصَر الوقت كان إحدى البذرتيْن الفنّيّتيْن اللتيْن بذرهما شيكسبير ممّا جعل الحوارات أحكم إيجازاً ونفاذاً . وها هو الزمن يتمظهر مرّة أخرى على الوجه التالي:
"تكاد ساعة الصباح تقترب
حيث يجب أن أسلّم نفسي
إلى تعذيب النيران الكبريتية"
الغريب؛ إنّ النور، مصنوعاً كان أمْ طبيعيّاً، وعلى الأخصّ الصباح في هذه المسرحية لا يأتيان إلاّ بالكوارث، وهما أشبه بصباح طوفان اوتونافشتم ( أيْ نوح) في ملحمة كلكامش، حينما زلزل الإله أدد، الأرض والسماء بهزيم أعتى الرعود، وأنزل أحلك ظلام في عزّ الفجر. لماذا قال الشبح: "ساعة الصباح تقترب؟ ولماذا يخاف من دنوّها ؟ وما هي النيران الكبريتية؟ (أنظر الهوامش أدناه) إذن ها قد حان موعد عودة الشبح إلى المطهر. لا بدّ له من الاغتسال بالنيران الكبريتية حتّى يتطهّر من ذنوبه.
توقيت اقتراب الصباح هذا، قطع على هاملت أيَّ سؤال. ثنّى الشبح قائلاً:
"محظور عليّ أن أخبرك
عن أسرار سجني، وإلاّ لرويت لك قصصاً
وأبسط كلمة فيها تمزّق الروح شرّ ممزّق
وتجمّد دمك الفتيّ
وتجعل عينيك تطفران من محجريْهما كنجميْن من مدارهما
وتفرق لها خصلات شعرك المعقودة
وتقف كلّ شعرة على طرفها
مثل حسائك قنفذ خائف"
هكذا نقل الشبح خوف هاملت من هواجس دنيوية إلى أقاليم سماوية من الرعب، غامضة، مجرد التفكير فيها يُذيب الروح. وكعادة شيكسبير في تطعيم التخيّلات الغيبية بصُوِرٍ قريبةٍ ملموسة لمس اليد، فقد لجأ هذه المرّة إلى خصلات شعر هاملت ومن ورائه شعر السامع. وهل هناك شئ أقرب من شعر الإنسان إلى الإنسان؟ وبكلمة "معقودة" جعلها أكثر خصوصية، ويتشبيهها بحسائك قنفذ جعلها مادّية، وبتشبيهها بقنفذ خائف فإنّما حددّ نوعيّتها، فباتت أقرب إلى التصديق. لم يُجِب هاملت إلاّ: "يا إلهي"، وكأنّه تشرّب كلَّ كلمة فاه بها الشبح، فاستغاث بضعف وذهول. ذهب اعتداده بنفسه، والاعتداد بالنفس رذيلة بأيّة صورة جاء. لا يفوتنا هنا أنّ شيكسبير بهذه الوسيلة في إرعاب هاملت عقلاً وعاطفة إنّما جعله أكثر استعدادا لتقبّل الوقائع التالية التي سيسردها الشبح. أيْ أنّ وصف المطهر ليس مهمّاً بحدّ ذاته، وإنما كان مجرّد حيلة فنية لاستلاب أوتخدير حواس هاملت حتى يسهل تمرير أفكار أساسية أخرى. حين تمّ التبنيج إن - صحّ التعبير - سرد الشبح عند هذا التوقيت، كيف وقعت جريمة قتله، وكيف جرى السمّ في جسده. مرّة أخرى يقطع الشبح على هاملت السبيل لأيّ سؤال، فيقول:
"عليّ أنْ أودعك في الحال
فحشرات الحباحب تنبئ بأنّ الصباح قريب
لأنّ الوميض على أجنحتها شرع يشحب ويضعف
وداعاً وداعاً وداعاً أذكرْني".
نتعرّف في الأبيات أعلاه على صورتين فنيّتيْن هما، أن الشبح لم ينتبه إلى الصباح بالنور في الأفق، أو ببوادر انكشاف الظلام، وإنّما بحشرات الحباحب، أي أنّه كان ينظر إلى أسفل أيْ إلى هاملت. بالإضافة قد يعني تكرار وداعاً ثلاث مرّات بأنّه راح يتلاشى تدريجيّاً. بعيداً بعيداً فأبعد. مع ذلك يبقى المفتاح المهم كامناً في الكلمة الأخيرة: "أذكرني". أصداؤها في تضاعيف المسرحية لا تتوقف. على إيقاع: "وداعاً وداعاً وداعاً أذكرْني" يجد هاملت نفسه وحيداً ، فتبدأ مناجاته التالية، وترتكز على مرتكزيْن أساسييْن هما: الذاكرة، والمداهنة المتمثلة بالبسَمات:
هاملت: آ ، يا ملائكةَ السماء جميعاً! يا أرضُ ! هل من شئٍ آخر؟
هل أدخل الجحيم في استغاثتي؟ تبّاً، لا تنكسر يا قلبُ
وأنت يا عضلاتي لا تشيخي الآن واصمدي بقوّة
أذكرك ؟أجلْ أيّها الشبح المسكين، ما دام
للذاكرة مكان في هذا الرأس(1) المتشوّش. أذكرك؟
نعم سأمسح من لوح ذاكرتي(2) كلَّ المدوّنات السخيفة الجنونية
كلَّ مأثورات الكتب(3)، كلَّ الأشكال، كلَّ الانطباعات الماضية
وأمرُك وحدَه سيبقى
مسطوراً في كتاب ذاكرتي الكبير
غير مخلوطٍ بمعدن خبيث (4) . نعمْ قسماً بالسماء
آه، أيّتها المرأة البالغة الخبث!
آه، أيّها الوغد، أيّها الوغد، أيها الوغد اللعين المبتسم!
مناضد كتابتي، من المناسب لي أنْ أسجّل
قد يبتسم المرء، ويبتسم ويكون وغداً -(5)
أنا متأكّد قد يحدث مثل هذا بالدانمارك في الأقلّ ( يكتب)
لذا، سجّلت يا عمّ تعليقي عليك في دفتري
" الوداع، الوداع، الوداع"
الهوامش
1 - في النصّ Globe وهو كذلك اسم المسرح الذي مُثِّلتء على خشبته مسرحيّة هاملت لأوّل مرّة.
2 - في النصّ Table وتعني كذلك: لوحة مرسومة.
3 - في النصّ Saws (اعتياديّاً هي صيغة ازدرائية بصورة ما )
4 - يُستعمل هذا المصطلح للإشارة إلى أنواع من المعادن (في الغالب الحديد والرصاص)
التي يحوّلها الخيميائي إلى ذهب. قارنْ يوليوس قيصر: الفصل الأوّل - المشهد الأوّل_66، وكذلك الفصل الأوّل - المشهد الثاني 312 -314.
5 - مثل إنكليزي: "يبتسم في وجهه ويقطع رقبته". أنظرْ كذلك: هنري السادس (3) الفصل السادس: المشهد 3 -2 182: "لماذا ، أبتسم وأقتل بينما أنا أبتسم".
Hamlet - O all you Host of Heaven, O Earth,
What else,
And shall I couple Hell? - O fie, hold, hold, my
Heart,
And you, my Sinows, grow not instant Oldو
But bear me swiftly up. - Remember thee,
I, thou poor Ghost, whiles Memory holds a Seat
In this distracted Globe, remember thee;
Yea, from the Table of my Memory
Irsquo;ll wipe away all trivial fond Records,
All Saws of Books. All Forms, all pressures past
That Youth and Observation copied there,
And thy Commandment all alone shall live
Within the Book and Volume of my Brain
Unmixrsquo;d with Baser Matter; yes, by Heaven.
-O most pernicious Woman.
-O Villain, Villain, smiling damned Villain.
-My Tables, meet it is I set it down
That one may smile, and smile, and be a
Villain,
At least I am sure it may be so in Denmark.
-So Uncle, there you are. - Now to my Word:
It is lsquo;Adew, adew, remember mersquo;.
I have swornrsquo;t.