عالم الأدب

ميسون خالد.. نجمة صغيرة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

دبي من أحمد خضر: لعل صدور مجموعة قصصية لفتاة لما تبلغ الخامسة عشرة ربيعاً، يبعث في الذهن أفكاراً غير عادية، ويعيد الأمل إلى النفس في أن الأدب لدى الأجيال العربية الصاعدة له مريدوه ومبدعوه، وله أصداء، واهتمامات متنامية، وعندما يجد المرء نفسه يقرأ كل كلمة كتبتها ميسون خالد في مجموعتها القصصية الأولى "للوحوش نصيب" التي احتفلت بتوقيعها اليوم في معرض أبوظبي للكتاب، يحس أنه أمام ولادة نجمة صغيرة بين نجوم الأدباء والشعراء، وسمكة ملونة في بحر الإبداع اللامتناهي، ويصبح جزءاً من التفاؤل، وعصر المستقبل، ميسون كاتبة تسير في الطريق الواضح مثل جدول الماء الصافي في الأرض العربية من المحيط إلى الخليج.
المجموعة القصصية عبارة عن 85 صفحة من القطع المتوسط، وهي صادرة عن مؤسسة مدبولي، وتضم اثنتي عشرة قصة قصيرة، تقع تحت العناوين التالية: من بعد الحدث، من.. إلى.. عن.. على، أعرف.. ويعرفون، صحافة بمفهوم جديد، لا يملكون عقلية الطيور، يوم في حياة ممثل مغمور، وأحياناً هو الصحيح، للوحوش نصيب، رب صدفة، من يعرفون النهاية، يا عزيزي كلنا كاذبون، يوم بكى حذائي.
ترى من أين تشربي هذه الزهرة البريئة كل هذه العناوين الكبيرة، وكيف استطاعت ذاكرتها أن تختزن صوراً ومشاهد واقعية، وهي منغمسة في حياتها المدرسية، وبين أحضان الطفولة وعلى عتبات المراهقة؟ هل أصبحت مدارسنا تخرج المبدعين والمبدعات؟ إذا كان الأمر كذلك فإن كل من يقوم برعاية هذه الموهبة وصقلها وتنميتها يستحق تحية.
لعل أبرز الأمور الملفتة في هذه المجموعة القصصية هو الشعور بالاضطهاد الاجتماعي الذي تعكسه ميسون خالد على لسان أبطالها المشردين والمغمورين والصعاليك، حيث تنحاز إلى جانبهم ضد التسلط، والظلم، وطغيان راس المال، وعلى سبيل المثال فإن علاقة الإعلامي بصحيفة الحرية التي يعمل فيها ليست علاقة مثالية حميمية، او علاقة العاشق الذي يكتب ما يجول في ذهنه، وإنما هي علاقة مضروبة تحكمها المصلحة، وتواطؤ لقمة العيش مع رب العمل، وفي هذه القصة تعرض الكاتبة لمعاناة الإعلاميين في وسائل الإعلام المختلفة، وتخلص إلى موقف مبدئي حين تقول "من باعك لا تفكر في شرائه".
أما في قصة "من.. إلى.. عن.. على" فهي قصة تنتقد فيها واقع المدرسة العربية التي ما زالت تستخدم وسيلة الضرب المبرح ضد التلاميذ، ولا تتعامل مع وسائل التربية الحديثة، وهو ما يدفع أعداد متزايدة من التلاميذ لهجران المدرسة وبالتالي تزايد نسبة الأمية في عالمنا العربي، وهي تقول "يا لسطحية، إن طرقاً كهذه لا تصلح كوسيلة للتعذيب عند هتلر، وأمثاله؟ وهي لا ريب المسبب الأول في كره التلاميذ للمدرسة، وهرب بعضهم منها، ولهذا فالأمية تزاد عندنا يوماً بعد يوم" إن هذه الصورة التي تقدمها تختلف عن تلك العلاقة النموذجية بين الطالب ومعلمه، باعتبار المعلم هو القدوة والمثال الذي يحتذى. إن هذه القصة أيضاً تكرس الطالب المقهور اجتماعياً، والذي ما زال يعيش حياة التخلف والرجعية من قبل أدوات الظلم والقمع والسيطرة في المدرسة، حاضنته الأولى، التي ينبغي أن تزرع في ذهنه العلوم والمعارف، وتشحذ همته من أجل الإبداع والعطاء.
وفي قصة "أعرف.. ويعرفون" نراها تتحدث عن موضوع كبير هو أن المبدعين مجانين، وهم مجال للسخرية والتهكم دائماً من قبل زملائهم من الطلبة العاديين، لكن هذه الشكوى الحزينة، تجعلها تتمسك بحلمها الجميل، وترى في نفسها حمامة بيضاء وسط هذه الضحالة والتفاهة.
إن نهاية الأبطال المحرومين الذين يعيشون واقع القهر والمعاناة تأتي دائماً حاسمة، ومفعمة بنبرة التحدي ففي "يوم في حياة ممثل مغمور" نجد شخصية مهمشة، لا يدع لها المخرجون والممثلون الكبار فسحة للتمثيل، لذا فإنه يعيش حالة من الفقر المدقع، ويعيش حالة الصعلكة، والتشرد، وهو يرفض عرض المفسدين في الأرض الذي يعترضونه في منتصف الطريق عارضين عليه صفقة من شقين الأول: أن يقتحم أحد المنازل الفخمة، ويسرق محتوياته، أو أن يقوم باغتيال أحد المشهورين المعروفين في مختلف الأوساط، والشق الثاني يعطونه حقيبة مليئة بالنقود، ولكنه يرفض ويقول: ربما يوحي منظري بأنني فقير معدم، لكنني لم أكن ولن أكون مجرماً أبداً.
ميسون خالد تقف بثبات في وجه الريح، تعلو وتكبر بالمبادىء والقيم، مع كل حرف يخطها قلمها، لكنها في الواقع ليست بلا أصل أو جذور أو انتماء، ذلك أن المناخ الإيجابي المملوء بالوعي والثقافة الذي تعيشه في كنف الأسرة هو الذي يحرك بوصلتها في اتجاهات سليمة، أديبة صغيرة عاشقة للحق، واعية للمستقبل، تزرع من خلال القصة والشعر أشجاراً خضراء يأوي في ظلالها الهاربين من حرائق الفقر، وسياط القهر والقلق والظم الاجتماعي، إنها وردة جديدة على طريق الإبداع في حديقة الأدب العربي المعاصر حيث امتزجت الموهبة، مع الوعي المبكر للحياة في العمق، فقامت برصد حالات إنسانية تعاني من مكابدة الظلم والظالمين، وحين نقرأ هذه القصص الواقعية نلمس روحها الشفافة النقية، وجوهرها الحقيقي، والفضاءات الواسعة التي تقتحمها بكل جرأة وثقة، لتتألق في باكورة نتاجها ككاتبة واقعية تتناول المحسوس المادي، وتبتعد عن المطلق واللانهائي والتجريد.
إن أكثر ما يدهش القارىء هو أن فتاة في عمر الزهور، لم تكتب أية قصة رومانسية، حتى وهي تتحدث عن نفسها في "صحافة بمفهوم جديد" تقول: "تعلمت منذ صغري أن الظروف القاسية تصنع فتاة قوية". لم تنهزم ميسون خالد، ولم تدع أبطالها ينهزمون، لقد وصفتهم بالعبقرية، والإبداع، والشرف، والعظمة، وجعلتهم يمتطون الريح، ولا يتخلون عن مبادئهم، أو يبيعون ضمائرهم للفاسدين، وما زال هؤلاء المسحوقين يرتدون أسمال المجد والكبرياء.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف