عالم الأدب

لَعْنَةُ الجغرافيا وخيانتُها روائيّاً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قراءة في رواية "أيّام حسّو الثلاثة" للروائيّ الكرديّ لالش قاسو
ترجمة وتقديم الباحث الكرديّ إبراهيم محمود

أيّام حسّو الثلاثة. هذا العنوان الروائيّ المعرَّب الصارخ في كرديّته، وتتجلّى كرديّته من خلال واو اسم العلم حسّو، هذه الواو التي هي العلامة الفارقة كرديّاً، ويبقى لها وقعها النفسيّ لدى القارئ دلاليّاً. من حيث المرمى والمراد منه. وحسّو بواوه، واو التكريد، هاته، بات اسماً مستقلاَّ قائماً بذاته ولها، و لم يعد يراد به التصغير التحبّبيّ أو التحقيريّ ي اللغة العربيّة، أو لتبسيط الأسماء عند استعمالها، بغية تسليسها على اللسان.. فلم يعد هذا الاسم في كرديّته تابعاً لحسن أو حسين أو حتّى (حسّان) في عربيّتهم، وإن كان اشتُقّ أصلاً من أحدهم (حسن هنا)..مثله في ذلك مثل كثير من أسماء العلم غيره، كـ رمّو، رشو، سمو، جمو، حمو، مستو...الخ، هذه الأسماء التي عرفت بكرديّتها منفصلة عن كلّ جذرٍ آخر، بل قد تصبح جذراً لغيرها من الأسماء المحوَّرة المعدَّلة عنها كـ : حسِّك، حسِّى، حسّوكي، حسكو، حسِّكِى، رمّك، رمِّى، رمّكو، أو رشّك، أو رشكا، سمك، سمكو، أو جَمِى..الخ.وعند وضع المترجم هذا العنوان للرواية التي تحمل في عنوانها الكرديّ الأصليّ (Secirc; Şev ucirc; secirc; roj)، أي حرفيّاً (ثلاث ليال وثلاثة نهارات) أو حسب التعبير الكرديّ الدارج(ثلاثة أيّام بلياليها)، للكاتب الكرديّ " لالش قاسو"، فقد وفِّق جدّاً في اختياره هذا العنوان المتعمّق في كرديّته من جهة حسّو، والدالّ في عربيّته على المضمون والواقع الكرديّين فيها.. وتقديمها للقارئ العربيّ على أنّها رواية العالم الآخر، وليس المقصود هنا بالعالم الآخر، عالم الجنّ، أو العالم المعادي، أو العالم المنفصل، بل هو العالم الآخر المجاور جغرافيّاً، المهمَّش واقعيّاً بكلِّ ما فيه إلاّ ثرواته، فيقول المترجم في تقديمها:
((مسعاي هنا هو التعريف بالرواية هذه باعتبارها رواية العالم الآخر، العالم الذي يعيش في مستوى، دون العالم المعاش اجتماعيّاً ومعتقديّاً ونفسيّاً وأقواميّاً ولغويّاً، وهو العالم الذي لما يزل يستميت في الدفاع عن وجوده البيولوجيّ قبل أيّ وجود آخر !))
هذه الأيّام الثلاثة الحافلة بآلامٍ ومآسٍ هي قوت قومٍ لا يحاول إلاّ التقوّت بها، واجترارها، وإعادة إيلادها بأكثر من صيغة، وبأكثر من لون وأسلوب، فتارة حداثيّاً، وتارة عولميّاً، وتارة ماضويّاً، وتاراتٍ ثأراتيّاً. وهذا هو الأهمّ والأعمّ.
هذه الرواية التي لم تنل حظّها من المتابعة والاهتمام والقراءة من قرّاء العربيّة لأسباب كثيرة، ولقد بقيت محصورة في إطارٍ، ولا يهمّ إن كان ضيّقاً قليلاً هذا الإطار أو كثيراً، المهمّ أنّه بقي في إطار معيّنٍ، ولم يكسره أو يتجاوزه، وذلك لكثير من الأسباب، التي قد تكون معروفة أيضاً في إطارٍ معيّن.
وأعتقد بأنّ رواية كهذه، هي سِفْر أسى، و(ملحمة- مَشْأمة) اقتتالٍ، وكتاب استقتال أخوة، واستنجادهم بالغير المستفيد من كلّ شيء، وكلِّ فعلٍ، فكلاهما عنده هنا واحدٌ وعدوٌّ يجب تفريقه لاستعباده وتدميره..
هؤلاء الإخوة الأعداء، الذين لا يقبلون بغير تحكيم العدوّ الجاثم المذوِّب كليهما في بْلاْوٍ صدئٍ يسمّم من يطعمه.. ويفيده (المحكَّم من الغير الذي هو التركيّ في الرواية) هذا التطاحن، وهذه العصبيّة التي ليست إلاّ غباءً مستديماً و إصراراً و مداومة على غباءٍ غير آيلٍ للعلاج الذي هو بداية النهوض من جمرٍ ورماد ٍ بشريٍّ متكبِّرٍ على نفسه..
وكم كان سيكون رائعاً لو كان مكابراً، أو بعض مكابرٍ مصابرٍ على أذىً قد يلحقه من أخيه المعفَى عنه حسب شرع الأخوّة وميثاقها المخترق من الكلّ ولصالح الغير....
فكم من فينيقٍ مؤاخٍ خلاًّ وفيّاً، هو خلّه وليس معلُّه، أو علّته، متصدّياً لغيلانٍ متربِّصةٍ به/ بهم، يحتاج هذا الشعب الطيّب في هذا الزمن الذي كثرت فيه المستحيلات وتجاوزت عددها المتعارَف عليه...!!!
والرواية هذه هي مخرج العبر و مرجعها، هذه العبر التي يجب أن تستخلص منها لأكثر من اعتبارٍ ولكلّ زمانٍ في هذا المكان تحديداً.
ويجب تعميم العبر المستخلصة هذه عنوة في هذه البقعة الجغرافيّة التي يجب أن تتجاوز هذا الاستعداء والتأليب والاقتتال و التطاحن والتصارع في ما لن يجدي أو يطعم حتّى دجاجة تكون هي في بعض الحالات منبع صراع عاصف بأكثر من طرفين قبليّين، لا يحاولان تجاوز قبليّتهما التي هي مصدر معظم الشرور والكوارث، إن لم يكن كلّها، والتي لا تخدم في كلّ ما تأتيه إلاّ المتربّصين بهم، سواء كانوا منهم - كما يدّعي البعض- أو ممّن يعاديهم، ولا يبتغي إلاّ إفناءهم، ممّن يثير هذه الجاهليّات التي تستميت في البقاء في هذه الجغرافيا، على الرغم من كلّ ادّعاءٍ بمحوها من التاريخ الذي يؤرّخ له حديثاً، أو باسم التاريخ المراد تأريخه، حسب الهوى و المقصد..
صحيح أنّ الرواية تتناول أحداثاً تجري في زمانٍ محدَّد، لكنّها في فضائها المفتوح على كلّ الأزمنة، مكثّفة تكثيفاً لا تستطيع معه أن تتجاوز صفحة أو تقفز عليها، وكأنّك تتابع فيلماً لا ينقطع، فيلماً كوميديّاً شائقاً للبعض، وشاقّاً قاتلاً ناخراً قلوب البعض الآخر الدامع القلب والعين معاً على هذه المأساة الساعية إلى إضحاك المتحكّمين المستمتعين وإلهائهم بالتموّت البطيء، المتفنَّن فيه، المستعذب للغير السيناريست هنا، والمخرَج من قبلهم أيضاً، ولكنّه يُنتَج برأس مالٍ كرديّ يدفع كلّ تكاليفه الباهظة، هذا الرأس المال الذي هو بشَرُ هذه البقعة غير المعتبَرين بشراً في عرف مخرجي ملهاتهم - مأساتنا..
هؤلاء المتمأزقون المتأزّمون الفرحون بتوجّههم إلى هذا التأزيم المحجور عليهم فيه والمراد تأبيدهم في تابوته.
وتقديم الرواية غفلاً من الإهداء، من قبل الروائيّ نفسه، وفي الأصل الكرديّ، له أكثر من بعد ودلالة، فقد يودّ تركها مفتوحة لكلِّ الاحتمالات- الإهداءات..، وقد يكون يقيناً منه بأنّ هذه الويلات المسعيّ إليها، والمكدود في هذا السعي، كثيرة وكبيرة لتهدَى إلى أشخاص بعينهم أو مدينة بعينها أو جماعة معيّنة أو..الخ، أو تراه قد أراد بعدم تخصيص الإهداء إبقاءها (أي الرواية) معمّمة لتختصّ هي نفسها بنفسها، إذ لم يخصّصها إهداءً ويحصرها بأحدٍ ليبقي على التعميم المرغوب فيه..
ولربّما يكون اقتناعاً منه بعدم بلوغ أبطالها مرتبة استحقاق الإهداء، وبخاصّة هم صنّاع الأسى فيها، ومصدر الإجرام الإفنائيّ المدفوعين إليه، والملزوز بهم اكتساباً وكأنّه طبع قد جبلوا عليه..
أمّا المترجم فقد خصّص إهداءها، بعد ترجمتها، إلى الأمير جلادت عالي بدرخان، واضع الأبجديّة الكرديّة اللاتينيّة، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله، حيث كتبت هذه الرواية بلغته.
يبتدِئ الروائيّ روايته زمانيّاً، أي بتحديد الزمان التي ستدور فيه الأحداث المآسي، ومن ثمّ المكان الذي سيطوّع للمخرجين تماماً، وبإرادة من أهليه واستجلاباً منهم، من جالبي الدبّ إلى كرمهم لتخويف بعضهم، والانتقام من أنفسهم، وتصفية الغباءاتِ الحساباتِ التي تحيّرهم وتفلِّسهم من كلّ اعتبارٍ..
وضرب المكان بنفسه من خلال تقتيل أهليه بعضهم بعضاً خدمة للبعيد المصدِّر أمر البدء، الجاني عليهم، والجاني ثمار تجنّيهم على بعضهم البعض، مدفوعين بغشاوات عامية، وعداوات معظَّمة من متعامين جهلَة بحقيقةِ ما يحاك لهم، لتلبيسهم ثوب الذلّ المُحاك بذكاءٍ كبير وحقدٍ مضاعَفٍ..
يستعين الكاتب بدرر وذخائر الشعب الكرديّ، وإرثه التاريخيّ من الأمثال والحكم والعبر المتناثرة في صفحات الرواية.. ويختصر بالمثل الذي يكون حصيلة تجربة واقعيّة الكثير من الكلام الذي سينتهي إليه..
ولم يترك الكاتب في روايته أيّ مجالٍ لأيّ تأويلٍ أو تفسيرٍ، فلم يرمّزها ولم يلغّزها، بل قدّمها على بساطٍ واقعيٍّ لشعبه و لقرّائه عساهم، عندما يقرؤون واقعهم مكتوباً ومصوّراً، يعتبرون.
وتضجّ الرواية بالكثير من الشخصيّات، الرئيسة والثانويّة، القائمة بذاتها والمتّكئة عليها، وأغلبها مدفوع بما لا يدري إلى ما يتبيّن له بأنّه سيقضي عليه، من الأبطال من هو رئيسيّ ومنهم هو ثانويّ، ومنهم ومْضيّون لحظيّون مستذكَرون مستحضَرون، مستبكىً لهم، مُتأسَّف عليهم، مهروب إليهم في عالمهم.. ونتعرّف على قصص هؤلاء وحيواتهم من خلال مرورهم في خيال الشخصيّات الرئيسة.
ومن هذه الشخصيّات:
حسّو، جرجيس، سارة زوج حسّو وأخت جرجيس، مَيْرو كنّة حسّو، تمّو ابن حسّو،ورشو وسيدو، و الأولاد خليل ودمو وشوقي الدين و نركز وسيْري، حمو، والراعيان فهميكو وكوران، الملاّ سالار، أوسفي قصري وابنه أكرم الذي قتله العسكر، برو و ابنه تاج الدين المقتول أيضاً على يد العسكر، وذلك لرفضه تسليم حصانه الرهوان إلى رئيس المخفر ليمتطيه، وتذرّع بهجوم كلبه عليه ليقتله.
وكذلك جليلو، وسائق السيّارة الماردينيّ، وداود عثمان ووالده عثمان وخاني خطيبته التي انتحرت بأن ألقت بنفسها قهراً وكمداً تحت عجلات القطار على داود المقتول على أيادي العسكر أيضاً.
ورستم الذي علِّقت جثّته على عمود الهاتف الحدودي، وأخوه جبران الذي ذهب إلى نصيبين أكثر من مِائة واثنتين وخمسين مرّة عساه يحصل على أيّ شيء يخصّ أخاه. ويذكر اسم عدلة، وفارس قصري، وزوجه روشه، وابنه مراد، و صاروخان المجبِّر، والضابط محمّد بيجر وعناصر المخفر.
جمو قصّاب المخفر، لقمان بِكر حسّو، فاتي زوجة لقمان، بدرخان بن حسّو، حسّوكي بن جرجيس، إدريس بن جرجيس، بوزان بن جرجيس، المختار بدران والبيك رمّو، هوتو، جمشيد، قاسو، جليلي حوري، كوبو الأومري، كنير، زينة التي تقتل على يد العسكريّ المذعور لمشاهدته حيّة في المتبنة أثناء تفتيشه فيها..
نجيم، رضوان، كسومة، هنانو المجنون، هدهدكي الخربقبلي، جميل الهوري، نصرو الحبيسي وزوجته شمس، جمشيد شفان، محو، ملسه زوج ميرزو، سكفان، سيراج، صادق، كاظم، كجه، لقمان الدياربكرلي،حتي،سفيان، جاسمِى، دركو عبدي، شاقولو، فرمان الستليلى، بشير، فرمز كويتاني، الملا خالد وغيرهم من الشخصيّات التي تتبدّى من خلال الاستذكار أو التذكير أو التذكّر أو الاستشهاد، حتّى لَيزيد عددها على العشرات..
يبدأ الروائيّ بتصوير المخفر الحدوديّ الذي سيكون محجّ الواتر والموتور، المظلوم والمظلوم، حيث كلاهما مظلوم من لدن الظالم نفسه، وهو سبب الداء الذي لن يعالجه إلاّ بإبقائه ملتهباً نازّاً نازفاً، هذا الذي يقصدونه ليكون الحكم الفيصل بينهما، وهو الخصم المستبدّ والحكم من دون أيّ حكمةٍ على الرغم من وباء التحكيمٍ..
وكأنّي بالكاتب لم يصبر كثيراً أو قليلاً ليضع بين يديِّ القارئ، موضعَ الداء، ومدبَّره، ومستفحلَه، فيرسم المخفر ويحدّد حدوده المعلومة مكانيّاً، والمنتهية عند هذه القرية المجاورة أو تلك، أو التابعة لهذه البلديّة أو تلك، ولا يعلّم حدوده أيضاً بنقاط علاّم تشير إلى انتهاء أمكنة صلاحيّاته غير المحدودة أو المحدَّدة، وغير القابلة للتحديد، بل يترك أفقه الظالم مفتوحاً مفضوحاً، يدرك القارئ ذلك مع انتقاله بين التلال والقرى و العداوات، واختلاق الذرائع من مساعدة مهرّبين أو ممنوعين للنيل من الجميع وإهانتهم..
وكذلك لا ينتظر الكاتبُ القارئَ ليستدلّ على اغتصاب المكان من قبل الأنظمة التركيّة، حيث يتجاوز ذلك وينقل القارئ إلى ما هو أهمّ وأكثر بلاءً، وهو كيفيّة معاونة هذا الغاصب على التجذّر للإمحاء، ومحاولات المغتصَبين الامّحاء حسب طلب الغاصبين، فيبدأ هذه البداية التي تقحمك وسط اللهيب، ولا تعود بعدها تملك حرّيّة إطلاق الحكم على الوقائع التي ستمرّ، طالما يحدّد الموقف مسبقاً:
فالبدء بـ : سنة 1969 م. و ترجمة و كتابة كلمة سنة محلّ بديلتها الكرديّة (sal) وعدم اللجوء إلى كلمة (عام) في هذا الموضع له دلالة كبيرة حسب التفسير الجاحظيّ للكلمتين، فكلمة سنة في اللغة العربيّة تشير إلى الجوع والقحط والفقر والفاقة..الخ، أمّا العام فيشير إلى الخير الوفير والنعمة...الخ، وهذه لفتة دقيقة وذكيّة من المترجم الذي أدرك بعدها، فأثبتها (سنة) وليس (عاماً) لأنّها في الحقيقة سنة ستليها سنوات قحطٍ على كلّ المستويات، الاجتماعيّة قبل الطقسيّة الأجوائيّة..
((ف1958هي سنة بناء المخفر الحدودي في الخاصرة الجنوبية لتل"قصراQesra".في رأس التل أعمدة خمسة غُرِزت، أزهقت أرواح الكثير من الناس، وتاريخها يرتبط بتاريخ بناء المخفر مع بناء المخفر،، وقد طوق التل بحجارة الوادي، مكلسة، مدهونة مدوّنة العبارة التالية:
((التركي يقابل العالم كله! كل تركي يولد عسكرياً! تركيا وطننا الأوحد الذي لايتجزأ).))
وهذا المقطع يبيّن سياسة التتريك المعمول بها، بغية التصهير العرقيّ في بوتقتها، هذه البوتقة التي هي ركام دينٍ مبتَلىً بهم، وتجزيء وتشتيت أمم أخرى ابتُليت بهم كابتلاء الدين نفسه، كي لا تعود تلك الأمم نفسها، أو تصبح غيرها، فتصبح بهذا تركيّة مهروب إليها. حسب المخطَّط المدبّر جعلها مهْرَباً ومتحصَّناً ومرتزَقاً..لدرجة اختيار لقبٍ تركيٍّ لكلّ عائلة..
ولا ينسى الكاتب التذكير بالمقولات والعبارات المنحوتة في هذه الأماكن كـ :
(طوبى لمن يقول أنا تركي، عظيم هو التركي) أو (تركيا إعصار، تركيا برق!)
ويسرد الكاتب نتائج الاتّفاقيّات الاستعماريّة التي قسّمت وجزّأت الأرض الواحدة بين بيْنين، وألقت بأخٍ فوق الخطّ، وبآخر أدنى الخطّ أو تحته.. وفي التعبير الكرديّ (xetecirc;, bin xetecirc; ser)تكون الدلالة أعمق أثراً وأعظم أسىً..
ولا يبدي الكاتب- فقط -معرفة واسعة عميقة بجغرافيّة المنطقة التي هي مسرح الأحداث، ومنطقته.. حيث يرد ذلك في سياق التذكير بأسماء العديد من القرى الحدوديّة وغيرها المتماسّة معها المتعاملة معها، المكتوية مثلها بالنيران نفسها..بل يتعمّق في تحليل نفسيّات وسلوكيّات أناسها.
ومنها إلزامهم أنفسهم بقبليّات مستنكرة، والتفرقة الواضحة بين الرجال والنساء، بإحقاق ما يحقّ وما لا يحقّ للرجل، وبإلغاء ما يجوز وما لا يجوز عن المرأة التي هي الجارية الخادمة فقط.
وكذلك الفرح لولادة طفل ذكر وإقامة عرس(مطنطن) حين ولادته، واستجرار مظاهر الحداد والحزن حين ولادة الأنثى.
ويسرد النفاقَ المعمول به في بعض القرى، والسلوكيّات البعيدة عن مضمون الدين الموجَّه عند بعضهم توجيهاً بعيداً عن غايته و روحه وتكييفهم الإسلام حسب راحتهم أو مرادهم..
بأن يؤمّوا امرأة هنا أو يمختروها هناك، أو تشييد مسجدٍ دون إمامٍ، أو في حال تأمّن الإمام ينعدم المسجد، أو نهب فرش المسجد وعدّته ليقنعوا أنفسهم بعدم ملاءمته. أو الحجّ إلى بيت الله أنصاف صوفيّين، أو استسهال التجديف على الله ورسوله، حتّى عندما يكونون بين يديه، وإتمام صلاتهم بعدها دون حرج.. أو الصيام دون تأدية الصلاة أو صلاة العيد أو عدم الصيام أساساً..
أو إسدال البعض الستائر على شبابيكهم وقد أصبح الوقت لاستيهام قيام الليل. فيتناول السحور، وهو ينوي على الصيام.
كما نراه يصف أفعال بعض المزاودين في صوفيّتهم المزوّرة بأن يقول :
((كان سهلاً على صوافيهم الأكثر عراقة في التدين أن يناموا مع زوجاتهم داخل المسجد، وأغلبهم عندما كانوا يقصدون "أومريان"لم يكونوا يتوضّؤون ورغم ذلك فقد كانوا يصلون. وفي الصلاة كانوا يذكرون البسملة دون العوذلة.))..وغيرها وغيرها من الأفعال التي تجيز ما لا يجوز، بل تبرّرها بعد إجازتها، و الالتهاء عنها وتناسيها، ومن ثمّ تحميل الدين المتجنَّى عليه الكثير من الخطايا، و الأوزار، و الانزلاقات، التي ليس سببها الأوحد غير الجهل المقنَّع.. و قد يكون في بعض الحالات التجاهل القانع بأعذاره..
وكذلك التقوّل على الله ورسوله، واستنباط تعاليمهم ممّا يلائم حالاتهم الضيّقة العابرة، دون أيّ سند أو دعم أو مدد إلاّ ما يبرق في خاطرهم لحظتها ممّا يلبَّس تأسلمهم، وتحاملهم على هذا الدين وتشويهه باسمه وتركيبه كلّ القبائح والموبقات الممارسة باسمه..
ويسهب الكاتب في التمهيد للوصول إلى زورآفا التي هي مقام حسو وصهره جرجيس الأخّين المستعديين المتعاديين منذ كانا، وإلى أن لن يكونا أو لن يبقيا. إلى أن يفنيا..
هذان المنقسمان هما و من يتبعهما باعتبارهما / اعتبارهم سدنة القبليّة المبيدة وحماتها العزّل إلاّ من الأحقاد، بين حزبين تركيّين يصوَّت لهما في الانتحابات. (أقول "الانتحاب" وليس الانتخاب).
وحقيقة لا تزال بعض القرى في هذه المناطق تعاني من هذا السلوك الشائن الذي يجمع بطاقات جميع الأفراد الذين يحقّ لهم التصويت لبيعها إلى هذا الحزب التركيشي أو ذاك، مقابل امتيازاتٍ فتاتٍ يحصّلها هذا المتاجر بأبناء جلدته أو ذاك..
زورآفا التي تخبّئ اندثارها بين جنبيها، والسائرة إلى المحو على يديّ أبنائها وساكنيها الساعين إلى دفنها، وجعلها منْعقاً للبوَمة والغربان، وحطاماً ويباباً وخرابَ أرواح وديار..
هذان اللذان تعود حكاية العداوة بين أسلافهما إلى زمان موغلٍ في القدم، هذا العداء وهذه الخصومة التي حصلت بين أبناء العمومة يعود إلى قصّة واقعيّة كانت هي الشرارة التي ألقيت غباءً وجهلاً لتسعّر أوار النار المراد تسعُّرها المزمن ودوامه الممرِض المنهِك المرهق كواهل الكلّ، الأخوة.
هذا الخلاف الذي يؤكّد بأنّه القشّة التي ستقصم ظهر البعير، وستقصم ظهر الأخوّة أو العمومة، ومن ثمّ تكون السبب في انفصام كلّ العرى، و تجييرها لاحقاً في خدمة العدوّ المستفيد أعظم الاستفادة من هذا الاقتتال الدائر الذي لا ينذر بغير الخراب. كما ستبدي الوقائع مستقبلاً.
حيث كان مصدر الخلاف وسببه، الاختلاف على حصّة كلٍّ منهم من الكوارع من جهة إضافة للحم، ومن جهة أخرى الكرش والمصارين للغزال القنَص المَصيد من قبلهم على مشارف عامودا..
لتبدأ المواجهة ويبدأ الخصام بالامتعاض وعدم الرضا بالقسمة والنصيب، إلى احتداد المواجهة الكلاميّة، والتلاسن، ثمّ الاشتباك المدشَّن بقتل أحدهم (كيدو) على يد (غيدو)، ولتتأصّل العداوة التاريخيّة المفنية بدءاً من هذا الحدث.
هذان اللذان لجأا لاستئصال جذور العداوة من بينهما إلى زواج البدل (نكاح الشغار) الذي لم يحمهما، ولم يستمرّ في المحافظة على سلامهما المشوَّه الذي لأتفه الأسباب سينقض. وذلك لاقتحام دجاجات أحد الطرفين مزرعة الآخر، ليتجدّد الخلاف ويستعر من جديد، ويلتهم عشرات الرجال من الطرفين بين قتيلٍ وجريحٍ وكسيحٍ ومعتوه.
وكثير من الأحداث يسردها الكاتب من خلال استذكار حسّو الآلام واستحضاره المصائب التي حلّت، والتكهّن بما سينزل بهم، في تلك الليلة الشتائيّة القارسة البرودة والتي لا تغادر فيها الوحوش أوكارها، حيث ينشط المهرّبون الذين يقطعون الحدود في مثل هذه الليالي، وبعدها تعريض القرويّين للأذى، وتركهم نهباً للعساكر الذين لا يتورّعون عن إذاقتهم شرَّ العذاب، بل يسعدون بذلك كلّ السعادة.
ومن تلك المآسي المستحضرة والآلام المستذكرة من قبل حسّو، تلك التي تدور- وليس هناك غيرها- حول أساليب القتل المتّبعة في قتل القرويّين لسببٍ أو دون سببٍ، والتمثيل بجثثهم، كالإلقاء بها بين الألغام لتلتهمها الوحوش، أو تعليقها على عواميد الهاتف، وغيرها من أبشع المِيتات التي تكون من نصيبهم، وقسمة ارتضوها مذعنين راضخين، بل وأحياناً مشاركين فيها بأكثر من تسبيبٍ.
ولا يشترط حسّو تكلّم الكرديّة في أحدهم حتّى يكون كرديّاً، وحجّته في ذلك أنّ شخصاً مثل جرجيس بدوره يتكلّمها.. وكأنّي به يشاطر الأستاذ هادي العلوي نظرته بأنّهم أكراد بالجغرافيا. كما ورد ذلك في مقدَّمة المترجم راج آل محمّد في كتاب لا أصدقاء سوى الجبال لمؤلّفيه موريس وبلوج.
ويحزّ في النفس حياتهم أسرى في قراهم، وفي أحقادهم، وفي أحزانهم، وسيل الممنوعات الذي يقيّدهم ويفرَض عليهم، والويل لهم إن لم يتقيّدوا بها، ومنها ما سيبوح به تمّو غيظاً، لكنّ أمّه سارة الحاقدة على العسكر تسبقه بأن تذكر بعضها، ومنها عدم استطاعتهم الخروج ليلاً وأحياناً نهاراً من القرية، وعدم استطاعتهم الخروج للإتيان بأحد دوابّهم من الجبل إذا حال حائل دون إيابه إلى البيت، وتركهم فريسة للذئاب، وعدم تمكّنهم في الليل من حمل القنديل لتفقد الحظيرة، لا استخدام (البيل) للسهر في بيت ما في القرية أو السير في زقاقها، لقد ألغوا مباراة لعبة الخاتم بين أبناء القرى، كما أُلغيت السهرات. وكذلك إحضار الجبنة لهم، وإيصالها حتى عتبة بيوتهم..وغيرها وغيرها..
حتّى تقول سارة في تحقيرهم بأنّهم ليسوا في مستوى الكلب حتّى، لأنّك إن أطعمت الكلب، فإنه لن يعوي عليك بل يمسي لك صاحباً وحارساً..
كما أنّ كلّ ضابطٍ جديدٍ يأتي يضيف بدوره ومن جهته محظوراتٍ جديدة إلى سلسلة المحظورات المعمول بها، والتي استكانوا إليها وألفوها..
والضابط عادة يعرف القرويّين معرفة جيّدة، بل أكثر منهم أنفسهم، ويعرف تاريخ الخلاف والعداوة التي يفنون بعضهم في مستنقعها، وكلّ ضابطٍ يعرفهم من منطلق: اعرف عبيدك لتخلِّدهم في عبوديّتهم، وتجذّرها لهم، لا من منطلق: اعرف عدوَّك، لأنّ هؤلاء البؤساء لم يبلغوا بعد مبلغ العدوّ الندّ.
وبالغ الغرابة يتجلّى في اللجوء إلى المخفر لحلّ كلّ القضايا، والنيل من الخصم العدوّ الأخ الذي يلجأ بدوره إلى الجهة نفسها، المخفر الذي سينال من كليهما، وسيهزّئهما، ويبهدلهما، وينشّفهما سلباً و استلاباً..
ولا يخفى بعض الإطالة في بعض المقاطع، ومنها المقطع الذي يقرأ فيه التفقّد، بعد تجميع القرويّين وصفّهم، والانتقال من إهانة الأوّل إلى التالي إلى الآخر..الخ. وأعتقد بأنّه قد أطال الوصف ليظهر المدى المخيف الذي توصّل إليه الضابط في غيّه وضلاله، دون أن يُلاقى بأيّ معارضة من مدمني الإذلال والإخصاء. حيث لا يساوي الإنسان في قيمته قيمة الرصاصة التي تقتله. أي كما يقول المثل الكرديّ: SerIcirc; bi pIcirc;vazekecirc; bu. حرفيّاً: الرأس ببصلة. أي رأس الإنسان رخيص رخص بصلة. ورأس الكرديّ أرخص عند العسكر التركيّ من قشرة بصلة. كما يتبدّى في الرواية.
والأغرب أنّ كلّ التعذيب الملحَق بهم، والذي يسوطهم به رئيس المخفر وعناصره، وتلك الإهانات التي تشكّل سيلاً لن ينشف تسعدهم وتواسيهم أكثر من مدّ يد السلام إلى بعضهم بعضاً.
وعلى الرغم من كلّ ما يلحق بهم من أذىً على أيدي رئيس المخفر المؤلَّه وزبانيته، وعلى الرغم من سلوكه المنشاريّ الآكل من كلا الجانبين، والمخرّب في وسيلته وغايته، فإنّه يبقى ملجأ الطرفين، ومدفنهما.. هؤلاء المنتقمين من أنفسهم ومن أخوتهم بـ (عليّ وعلى أعدائي) والتمسّك بالكيديّات وتأصيلها وإعرافها. أي جعلها عرفاً.
خوفاً وتوجّساً من قبل كلا الطرفين استباق الآخر بتأكيد الجدارة بالعداوة، وتقديم فروض الولاء التي لا تشبع نهم هذا الحوت إلى الإفناء والتجويع، بغية التهجير والترحيل للتذويب.
حيث يكون بمقدور عنصر تافهٍ تمريغ أنوفهم ووجوههم في الوحول وترذيلهم والمبالغة في إيذائهم، ويبقى كلّ واحدٍ منهما مفضّلاً أن يداس بأحذية العناصر العسكريّة، ويُبصَق في وجهه من قبلهم، على أن يمدّ يده بالخير والسلام إلى أخيه..
حيث تكون صلاحيّات العسكريّ المحدود الصلاحيّة في هذه المنطقة غير محدودة، ويصفها الكاتب بقوله : كصلاحيّات حاكمٍ عربيٍّ. إذ يتوصّل بهم التفنّن في تعذيب القرويّين لدرجة تأكيلهم البراز، وإلى امتطاء كلّ عسكريٍّ أحد القرويّين، ويوجّهه إلى أعلى القرية متنقّلاً في تعذيبه بين النخز واللكز.. لأنّ الرجل الذي تعدَم شخصيّته بوسعه ممارسة كلّ شائن. كما يقول الضابط بيجر أثناء حفلة التعذيب.
ويصل الخوف أقصى درجاته عندما يستقرّ في العظام ويجري الذلّ مع النبض في العروق،لدرجة ((إن أي قروي في المنطقة عندما كان يلتقي عسكريا في البرية أو على الطريق أو في أي مكان، لايهم، كان من حق العسكري عليه أن يترك أعماله كاملة و يدخل في طاعته وتحت إمرته، ويخدم حتى يحقق له مطلوبه! في عام 1968، عرض أربعة عساكر من مخفر بيربوكي ثلاث وأربعين رجلا من سار ينجي للفلقة إلى درجة أنهم كسروا رجل أسعد جنو وشوهوها بسبب الضرب!عسكري واحد فقط كان يجر القرويين جميعا خلفه ويوصلهم إلى حيث تنتشر الألغام على طول الحدود ليقلع بهم الشوك.))
فهل بعد هذا المصاب مصاب..؟!!! نعم هنا.
والكلّ راضخ جبان متخاذلٌ إلاّ سارة التي تتحدّى، ولكنّها لا تستطيع شيئاً سوى أن تردّ على كلّ الإهانات، وعلى إهانتها الشخصيّة عندما قال لها الضابط:
((ياالكلبة النجسة انقلعي إلى بيتك، وحاذري، لسوف أشقك ها. قالها ووجه ركلة إلى بطنها، أوقعتها أرضاً على ظهرها، ثم لم تلبث أن نهضت، وبعد أن تفلت عليه بحقد مكبوت، عنفته:
- ياولد، والله إنّك لست من الرجال بشيء،لكن ما باليد حيلة، لذلك فلتنزُ على أمّهات ونساء هؤلاء جميعاً وكفى!
ثم يمّمت شطر الحارة العلوية، ولكنها التفتت إلى الجميع وهي لم تخطُ سوى خطوات معدودات لتقول: تتقاوون على بعضكم بعضاً أيها الأردياء. أتراه الله مع الحق أم ضده، فقد كان يجب أن يجعلني رجلاً ويبقيكم نساء.))
وفي هذا المقطع يصرخ الكاتب بلسان سارة لاعناً عدم الحيلة، وخيانة القدر، وفقدان العدالة وغدرها بها. لدرجة تصل حدّ التشكيك بموقف الإله غير المنصف بحقّها. وحقّهم.
يبدي الكاتب فشل كلّ المحاولات الساعية إلى استنهاضهم وإعادة الشعور بالرجولة إليهم، وذلك تارة على لسان سارة وأخرى على لسان بعض الشخصيّات الأخرى، لكنّه وكأنّه يقرّ ويعترف ويرضخ إلى غلبة الخطايا المميتة عليهم، أو يقطع كلّ رجاءٍ أو أملٍ في الإصلاح.

ويبقى كذلك النظر إلى سيل الإهانات على أنّها أمور هيّنة، أو تهون، مقابل التنازل للأخ الصهر العم، ورؤيته ذلك كسراً للكلمة و تدنيساً لقداسةٍ وهيبةٍ وعظمةٍ موهومةٍ..
لذلك فيسعى كلّ منهما إلى أن يتسامى ويرتفع إلى درجة أرفع وأعلى في الذلّ الذي يغرقه، ليكون أعظم ذلاًّ من غريمه..
ونلحظ بأنّه عندما ينفكش قدم حسّو فإنّه لا يهتمّ لما سيلحق به من إهانات، ولا يكترث للعصي والصفعات التي ستناله من العناصر الأتراك، بل ينحصر كلّ همّه أن لا يراه غريمه جرجيس وهو يعرج لأنّه وأهل القرية، الذين رأوا نشاطه قبل يومٍ، سيقولون بأنّ حسّو يدّعي العرج تجنّباً للضرب.. ويأسف كلّ الأسف لتداوي أبناء جلدته بالحقد، واكتوائهم باستعدائهم المتعاظم في كلّ لحظة..
وعدم قبولهم إلاّ بأمواتهم أحياءً. كطلبِ الزير المستحيلِ عندما كان يشترط إعادة كليبٍ حيّاً لإيقاف الاقتتال.
ومواقف التكايد لم تكن تتوقّف في المنطقة الساعية إليها في مركب جهلها وتخلّفها الموثَّن، فترى بعضهم يشرّدون قرية بأكملها في خلاف على عشِّ الحجل، أو لأنّ حمار أحدهم واقع أتان الآخر الذي اعتبرها ضمن جرائم الشرف.
ونجده في كثير من المقاطع الروائيّة يدقّق في الوصف، سواء أكان وصف الطبيعة، أو المواقف، أو الأشخاص.
يصف جمال الطبيعة وبهاءها و سكونها، فيسرح القارئ معه مرتاحاً في طبيعته الموصوفة بجملٍ تنقله إلى عالمها، ليهدأ بالاً ويبتسم راحة لهذا الهدوء المسبَغ على الروح.
وقد يصف مواقف بعينها، ويتعمّق فيها، فيثير عندك رغبة التقيّؤ- من جهة البراعة في توصيف المشهد- التي تنتابك بالترافق مع الجمل والكلمات المصاحبة الواصفة المشهد المؤلم ذاك.
وليس لأنّ الكاتب يفشل في نقل تصاويره، بل لإبداعه في نقلها، حتّى لتخالها وكأنّها تجري أمامك، وتحت بصرك.. ومنها تصويره لهوتو في درْسه القمح والكيف أنّ القرويّين يسعدون لمرآه.. وكذلك الكيفيّة التي يعلّم بها ميرزو دجاجاته على الرقص.. أو تصوير الحالة المزرية التي يعيشها حسو وحمو في السجن، بدءاً من التلاعن، وانتقالاً بالتجديف على الله المنشغل بالجنّة عن عباده..
ونرى طرح بعض المفاهيم الفلسفيّة على لسان بعض الشخصيّات ومنها مثلاً إسهاب حسّو بالحديث بقرويّته وبساطته عن جناية إبليس الذي رفض أن يسجد "للزبل"،لأنّ أيّ عدالة ستكون في سجود النار للزبل!!! وتنفيذه في ذلك أوامر ربّه الذي كان قد أمره سابقاً بألاّ يسجد لغيره. وكأنّه يحاول أن يقول بأنّ الله هو من عاد عن كلامه وتراجع عن قراره وليس إبليس الذي خالف أمره الثاني المخالف لأمره الأوّل الواضح كلّ الوضوح. أي فكرة جبريّة إبليس فيما أتاه. وقد نستذكر هنا أبياتاً للشاعر بشّار بن برد في تفضيله النار على الطين عندما كان يقول :
إبليس أفضل من أبيكم آدم فتنبّهوا يا معشر الفجّار
و كذلك :
الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار
وذلك حين يأتي على لسان حسّو لا من باب المفاضلة بين الطين والنار أو تفضيل النار من جهة الحنين إلى عبادتها : ((- أي نعم ياآمري لقد خلقتَ الشيطان من النار، وصيرته كبير الملائكة بامتياز، إلى أي درجة هذه الواقعة صحيحة، لاأدري، إنني أتحدث من خلال ماتقوله الكتب، وخلقت آدماً من الطين والزبل وأضرابه، ولأن الشيطان لم يسجد لآدم، اعتبر ذلك عصياناً عليك فعاقبته، ترى كيف تسجد النار للزبل، أي عدالة هذه ؟ ولكن أليس هو نفسه من عصاك، فلم لم تعاقبه؟ إن طرده من الجنة، كما يبدو كان بمثابة عقوبة لـه. ولكن أنت تخدع من؟ من البداية رفعت آدماً إلى مقام الشيطان. لقد صيرت الإنسان كل شيء، لقد خلقت الإنسان وأوجدت لك ممثلين، تركبهم الملائكة ليصعدوا بهم إليك، لقد كان لك من الإنسان أمثال عيسى الصالح و جرجيس الطالح، ليتنازعوا فيما بينهم لاحقاً ما الذي تريده من الإنسان؟))
ولا ينسى الكاتب أن يبرز بعض الأصوات الداعية إلى إنهاء هذه الحالة العبوديّة، ومنها صوت سارة المنادي بأنّ أصحاب الأموال والخيرات هم أولى بها من تلك الذئاب البشريّة المعتاشة عليهم والتي ترتوي من استنزاف قراهم.. وقلوبهم.. سارة التي يفقد صوتها قيمته، في دعوتها إلى أنّ هذه الغلال والدوابّ والطيور المهداة إلى القتلة هي ملك لأولادهم وأحفادهم، ويظهر نشازاً بين أصوات الجوقة المذهوب بها.
وسارة التي لا تهاب العسكر، بل وتدعو دائماً إلى تحدّيهم، وقتلهم، لإقامة بعض التوازن في القتل.
ولا في التفاتة منه إلى إظهار صوتٍ عادلٍ محقٍّ الحقَّ، ومعترِفٍ به، ومؤيّده، يظهر المعلّم التركيّ الأصل أرول، الداعي إلى الخير، والذي تعلّم اللغة الكرديّة وأتقنها، وفرض احترامه على من كان يحاول إدراجه في خانة الأعداء..
هذا المعلِّم الذي يكنّ كلّ الاحترام والتقدير لهم، ويسعى في سبل الخير لفضّ النزاعات، وإرشادهم إلى حلّها، والتوفيق بينهم، ونصحهم بعدم اللجوء إلى من سيرشّ على النيران البنزين..ويوصيهم بترك المكايدات، والمباشرة بالعمل، والعلم.
ويقول من خلال هذا المعلّم بأنّه ليس بالضرورة أن يكون كلّ الأتراك معادين ظلاّماً كالعساكر، فلا يعدم أن يتوفّر بينهم بعض المعتدلين المنادين برفع الغبن عن كاهل الشعب الكرديّ المسحوق، والذي يتآمر بعضٌ من أبنائه - من حيث يدري ولا يدري - مع ساحقيه على نفسه وبنيه وأخوته..
فنجد المعلّم في نفسه يعتذر لسارة عن الجرائم المرتكبة بحقّهم: ((كان يقول في سره: نفسي فدى جرأتك! إن الإنسانية تشبُّ عن الطوق بأمثالك، ولولاك لكانت هذه القرية في خبر(كان)!!ليتك كنت زعيمة تركيا، فلربما بِحلمك،استطعنا نحن الترك أن نرتقي إلى مستوى الإنسانية، ورفعنا الظلم عنكم أنتم الكرد، ولعاش الترك والكرد معاً إخوة، ومن يدري فلربما استطعنا نحن الترك وقتها بحميّا الكرد، أن نسود العالم مرة أخرى. إننا نجور عليكم، وإنني أخجل من التركي في داخلي ؛ لكن ياالعجوز الطيبة، فثمة أمثالكم أخيار وأشرار بيننا نحن الترك، كم أتمنى أن تميزي بين الصالح والطالح فينا.!))
يؤنسن الكاتب الأتراك من خلال شخصيّة المعلّم ليستدلّ على أنّهم ليسوا شرّاً بالمطلق، وإن كانوا أشراراً على الأعمّ في مكان الأحداث الروائيّ. وقبله يذكر الضابط الحدوديّ آيدن غوزال الذي نشر السلام بينهم، واستقدم إليهم بعض العادات الجديدة المدنيّة، أو حاول التدرّج بهم إليها للخروج بهم من مستنقعاتهم وأوحالهم.
كما نجده ينتقم من رئيس المخفر بتعهير زوجته وتدعيرها، وتصويره ديّوثاً، غير مهتمٍّ ومبالٍ إلاّ بالمال، والإذلال الذي يتحوّل إلى تسلية وترفيه له ولزوجته، وتحقير للملتجئين اللائذين به، الساعين إلى تليين صرامته، وإلى التخفيف من حدّة احتقاره، عن طريق النقود الموهوبة له، إن كانت تقسيطاً فإنّها لا ترويه، وإن كانت دفعة واحدة فلن تكفيه، مهما كثُرت..
كما يظهر الصراع واضحاً جليّاً،، ويتبدّى في كلّ ما يؤدّي الإكثار من الاحتراب والتدمية، حيث يظنّ كلّ جيل بأنّه الأصدق والأعلم والأفهم من الآخر الذي يجب أن يترك له أهليّة المسؤوليّة.
ويصل الأمر إلى نسف وتفجير بيوت بعضهم البعض، واستقواء كلّ منهم بطرف.
ينتقل بروائيّته، وحكائيّته، ومباشريّته (الفجّة) أحياناً- إن جاز التعبير- من ذروة الإيلام المتبادل الدور بين الأبطال، إلى ذروة التهريج والإضحاك، ومنه إلى مشهد هو أكثر ما يدعو إلى التبصّر والتأمّل والتدبّر، من جهة الغرابة في التفكير السائد لدى الشخصيّات الداعية والساعية إلى التفاني..
ومن المواقف المضحكة التي تستوقفك، الموقف الذي يضاجع فيه حسّو بعيد منتصف الليل زوجه، صوت العقل المتفرّد تقريباً المنادي بإيقاف الإفناء الذاتيّ والتوجّه إلى البناء، والإعمار، والتحابب، عكس ما يجري التقيّد به من منهجٍ غدا خطّاً ثابتاً لا يحيد عنه الملزمون به ممّن ألزموا بطريقة أو بأخرى، اقتناعاً أو إقناعاً. وكذلك إبقاء أشخاص ينشدون السلام ومنهم إضافة إلى سارة، بريخانه، معلم القرية، ميرزو الغجري، الملاسالار.
ويحمّل الكاتب آراءه ورؤاه الخاصّة بعض شخصيّاته، على الرغم من كلّ محاولاته الحياد، وتركها تسترسل حسب الموقف، ويقوّلها ما يريد قوله، وذلك بذكاءٍ ولحظةٍ عابرة بين لحظتين صامتتين، أو في لحظة تأمّلٍ على لسانٍ متأمّلٍ في لحظة ضبابيّة بين لحظتين آلمتين.
ويلاحظ بأنّ الإطالة في الاهتمام بالجزئيّات في جلّ الرواية يتحوّل إلى إيجاز تعميميّ في بضع الصفحات الأخيرة منها. والأيّام الثلاثة بكلّ ما فيها بكاء وإبكاء، من ألمٍ وإيلامٍ، تتلخّص في نهايتها التي تكون بدايةً لبداية أخرى تنتفي فيها الخلافات القرويّة الصغيرة ليبدأ الحلم المشروع بمشروع الفكر الجديد والجيل الجديد بتطلّعاته.
كما يلاحَظ بأنّ المترجم قد آثر (التضحية) - أقول التضحية متحفّظاً - ببعض الجماليّة في صياغة وتركيب الجملة في العربيّة، وذلك في سبيل المحافظة على معناها الكرديّ (كرديّة المعنى وأحياناً التركيب اللغويّ والمبنى، وهذه طريقته التي اعتمدها في ترجمته) بغية نقله قدر ما ينقل من الأحاسيس و محاولة الاحتفاظ بكلّ مراميه ومحموله، وبعده في نفس القارئ الذي سيدرك بأنّها منقولة ومترجمة من لغة لها كلّ خصائصها التي تفرّدها كلغة، ومن ثمّ تميّز أصحابها كقومٍ.

والروائيّ ههنا (في روايته) يكسر القالب المتعارَف عليه في الرواية وهي البدء ببداية ومنها إلى العرض ومن ثمّ الخاتمة أو مقدَّمة وعقدة وحلٍّ في النهاية لما سبق من عقدة. لأنّ الرواية تبدأ بعرض عقدة مستعصية وتنتقل منها إلى عقدة تالية أكثر استعصاء، ومنها إلى ثالثة، وهكذا تنعقد كلّ عقدة على سابقتها المنعقدة على سابقتها بدورها. أي لا نرى حلّ العقدة إلاّ بتعاظمها ككرة الثلج المتدحرجة، فكلّما نستغرق في الرواية تتعقّد الأحداث و لا نجد أي حلّ أو تفكيكٍ للعقد المنعقدة على عقدة الجهل الأولى. وكأنّه هنا أسير الواقع بعُقَده التي لا يبدو لها الحلّ إلاّ في عقدة لائحة في أفقها السرابيّ المضبّب.. ولا يكون الانفراج إلاّ غرقاً وإغراقاً في العقد أو التعقيد المساق إليه أبناء هذه الجغرافيّة وأبطال هذه الرواية المؤلِمة.
يبقى أن أقول بأنّ محاولتي تبقى ناقصة لأنّ رواية كهذه تلخّص عالماً كاملاً مقدَّماً من خلال عوالم تصبّ في المجرى نفسه، ورواية كهذه تحتاج إلى دراسات جادّة متأنّية تقف بالتفصيل على النقاط المفصليّة التي يتناولها الروائيّ ويعالجها والمشاكل المتعاظمة التي يطرحها..
وهذه المحاولة هي اجتهاد في التأويل، والوقوف على بعض المواقف الروائيّة، ومحاولة لإبراز عمق الرواية المتناوَلة في تناولها لما تناولته من حياة معاشة، وغير معاشة، وغوص الروائيّ في تصوير مدى احتراف المناكدة والمكايدة والمناكفة والجدال الحامل بكلّ صنوف العذاب والقهر على أيدي السعداء "بعدالة" وكفاءة تحكيمهم، وببراعة تحكّمهم المشكور في العاصمة، وعند الرؤوس المدبِّرة..
ويكون مخطئاً أعظم الخطأ، ويكون خطّاءً، من سيظنّ بأن الروائيّ أراد في ما أراده أن يحطّ من شأن المنطقة وأبنائها، واستغراقه في ذرّ الملح على الجرح هو لتطييب ومداواة الجرح، لا طلباً لتعفينه واستشرائه، ولجوءه إلى إبراز بشاعة نتائج الأفعال الممدوحة المذمومة حسب مزاج المتلقّي ومصلحته هو لتدارك ذلك، وليس تشفّياً أو نيلاً من الذات بجلدها وإساطتها بالتعذيب كفعلٍ مازوشيٍّ، قد يكون بعيداً عنه..
لعنة الجغرافيا وخيانتها روائيّاً، ستبقى واصمة هذا المكان إلى أن يكتنهها التفهّم والتفاهم تلقائيّاً، ويتهندس ذاتيّاً، ويشخّص كلّ عللها، ويداويها، حتّى وإن كان هذا الدواء كيّاً، أو حتّى بتراً- بتر العضو المصاب لإيقاف التسرطن- حين لا يعود الكيّ بأيّ نفعٍ مرتجىً..
كما أنّ الخارطة الجغرافيّة تخيّم في المكان بكلّ إحداثيّاتها ومَعْلوماتها، تلعنه وتخونه عندما يلعن أصحابها أهدافهم وأمكنتهم المعلومة ويخونونها، فلا يعود في هذه الخارطة إلاّ جمع من المجاهيل التي لن تعرَّف أو تُعْلم، والحال هذا.
وكما يقول الشاعر: " لا يلام الذئب في عدوانه إذا كان الراعي عدوَّ الغنم".
وكأنّه قد كُتب على هذا المكان أن يستمرّ معلولاً بهذه العلّة المميتة وحاملاً بما يفنيه منها، من بذور الحقد والاستعماء و الجحود، ويداوم الذين يدّعون بأنّهم حماته في طليعة المقتصّين منه، تحت ذريعة الاقتصاص من العدوّ..
وإن لم تتحوّل العلاقة من علاقة استعباد وعبوديّة إلى علاقة ندّيّة تكامليّة، سينهار المكان رويداً رويداً، ليغرق كلّه في عبوديّة أبديّة، وسيروم المستعبَدون حينها ويبتغون جاهدين بعضاً من الندّيّة التي كانت مرفوضة، والتي لن تُنال أبداً.. ولن يُتْرَك لها أيّ مجالٍ لتنتقل من العبوديّة الآنيّة المحاوَل تمديدها لتصبح مستقبليّة أيضاً، ولتبقى هي السائدة والقائدة.. رغم أنّها بائدة.
فَمنْ علّة مَنْ..؟!
المكان علّة ساكنيه أم العكس بالعكس..؟!!
ومَنْ - ترى- يأتي بالدبِّ إلى كرمه ليكرمه بدم بنيه ودمه..؟!!!
واللعنة والخيانة العالّتان اللتان تمهران المكان متى سيقُضى عليهما ؟!!!!
وهل يخطَّط لذلك بجدّيّة كما خُطِّط تلعينه وتخوينه بجِدّية وحِدّيّة وعِدائيّة.....!!؟؟
وأجزم بأنّ رواية ((أيّام حسّو الثلاثة)) في ترجمتها إلى العربيّة هي إضافة قيّمة للمكتبة العربيّة المفتقرة إلى أعمالٍ بهذا العمق الواقعيّ في التناول والرؤية، وستشكّل خير تعريفٍ للعالم القريب مكانيّاً المبعَّد اجتماعيّاً عن هذا الجار المحبّ الوفيّ.
الرواية جزء أوّل آلم مؤلَّم، هي مدخل إلى إغضاب الحرّيّة المستجرّ نقمتها تالياً، ليحلّ، وليكون بعد ذلك الخراب العامّ والعامِي غير المستثني أيّ بزوريٍّ أو هوريٍّ، أو أيّ جبليّ أو سهليّ، الخراب الهادّ كواهل الأرواح التي ستراهن على إنسانيّتها ووجودها، المتأرجحة بين هجْرٍ وتهجيرٍ، بين حجر عليها وتحجيرٍ لها.
وكذلك تشكّل الرواية مادّة سينمائيّة و تلفزيونيّة خاماً، بانتظار من سيعرف قدرها، إذ يزيح عنها الغبار، ويهديها ويضفي عليها من روحه ومن جهده كلّ مصداقيّة، كما أهداها الكاتب من وجع روحه ومصداقيّته المتبدّية في تناوله ومعالجته وتصويره، والمترجم من مشاركة في الوجع، وبكلّ سعيٍ ناجحٍ صادق في الرسالة التي يجب أن يُشكَر عليها، وأمانة ممكنة في الترجمة من خلال معجمه الثرّ المثري بدوره معجم القرّاء، ولغته الغنيّة..تلكم هي ذخره ومحاميه.. لتقدَّم هذه الرواية إلى الأجيال وإلى التاريخ كشهادة حيّة تستنطق كلّ قارئ، كلّ متابعٍ، كلّ متفرّجٍ، وتحاسبهم سواءً بسواء. كلّ حسب تفهّمه وتقديره.


ملاحظة: اعتمدتُ في هذه القراءة على النسخة المنشورة إنترنيتيّاً على حلقات في موقع عفرين.نت من رواية "أيّام حسّو الثلاثة"، لذا فالمقاطع التي اقتبستها من الرواية لا يمكن تحديد صفحتها بدقّة حسب الترتيب الذي سيرد في الكتاب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف