سرّ كافافيس (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في جسد "مدينة العالم":
تحتمَ على كافافيس، إنساناً وفناناً، أن تلازمه صفة التغرّب في حياته، وبعد مماته أيضاً. كإغريقي مصري، كان عليه أن يقبل بقسمته تلك، مقاسماً أبناء جلدته فيها؛ أولئك المتجذرة شجرة سلالتهم العريقة على ضفتيْ وادي النيل، قبل أن تدهمها وتذريها صاعقة التحوّلات السياسية؛ بدءاً بالهيمنة البريطانية وإنتهاءً بالمرحلة الإنقلابية، الناصرية. على أنّ الجذور، الراسخة، ما فتئتْ حيّة رغم كل ما ألمّ بتلك الجالية اليونانية، العريقة، من آلام ومحن؛ الجذور التي ضافرَ في روائها ما إرتوته من سلسبيل كلمات إبن الإسكندرية وشاعرها. ما كان كافافيس ليجاهر بتغربه، وربما صحّ له أن يتجاهله. لقد كان معتداً دائماً بإنتمائه لمسقط رأسه وحاول، على طريقته، أن يكون جديراً بهذا الإنتماء. فعلى ذمّة علمنا، ما من شاعر آخر، غيره، تماهى إسمه بإسم مدينته؛ حدّ أنها تنعتُ ببساطة " إسكندريّة كافافيس "، سواءً بسواء عند المصادر المحلية أو الأجنبية. كما أننا لا نعثر على شاعر يُماثله، لجهة حقيقة اخرى: تشابه مصيرا أسرته ومدينته؛ من التألق والتسامي، إلى التردي والإنحدار.
هذه الحقيقة وتلك، هما منبع فنّ شاعرنا وتأتى لهما، أيضاً، أن يكونا سببَ شهرته؛ شهرة لم يسعَ هو إليها أبداً في حياته، بدليل أنه لم يرَ من ضرورة لجمع قصائده في ديوان.
ملاحظة الروائي، الأخيرة، عما وصفه بـ " الحبّ السوقي "، المرهونة له حياة كافافيس، الجنسيّة، تضعنا في أجواء شعره؛ الشعر المخلد ذلك الحبّ، بحسب القول آنف الذكر. وقبل كل شيء، علينا ملاحظة أنّ كافافيس، وعلى الرغم من محتدّه النبيل ومنشئه الغنيّ _ في سنوات يفاعته على الأقل؛ فلم يتوانَ عن البوح في قصائده برغباته الجسديّة، السريّة. ولعله أيضاً، بين الشعراء المعاصرين، كان الأكثر جرأة في التعبير عن رغباته تلك، المثليّة. ها هوَ في إحدى قصائده المبكرة ( " نعم ولا " )، يحتفي بأولئك الرجال الجسورين، المفصح كلّ منهم عن موقفه في لحظة ما، حاسمة، من عمره:
" على بعض الناس، يأتي يوم
يجب أن يقولوا فيه " نعم " الكبرى، أو " لا " الكبرى.
وكائناً من يكون الرجل
فسيظهر، فوراً
مَن في داخله " نعم " جاهزة لتقال
وهو يمضي قدُماً، مشرفاً "
إن من لديه كلمة " نعم "، جاهزة دوماً، ماض ٍ في طريق سهل، لا محالة، وربما يوصله لمراتب الشرف والرفعة. أمّا ذلك الرجل، المختلف، المستعد لقول " لاءته " في الموقف الصعب، فسيقولها:
" ولن يندم من أنكر
سيقول " لا " ثانية، إن إمتحِنَ
لكن " لا " المتميزة تلك، ستسعده في حياته
كلها " (3)
عنوان هذه القصيدة، الأصلي، سجله الشاعر باللاتينية، نقلاً عن جملة مروية في " جحيم دانتي "، منقولة عن لسان البابا سيليستينوس الخامس: " ذاك الذي أقدم على الرفض الكبير، بسبب جبنه " (4). وعلاوة على تصرّف كافافيس بهذه الجملة، فمن الأهمية ملاحظة مصادره التاريخية، والملحمية، المتنوّعة؛ المصادر التي وجدَ فيها رموز فنه ومقاصده. ما من ريبٍ أنّ شاعرنا، في خاتمة تلك القصيدة، كان يشير إلى خيارات حياته القاسية، الحرجة، وكيف أنّه مضى في إمتحان " الرفض الكبير "، بلا ندم أو وجل. يجوز لنا الإفتراض هنا، أنّ إختيار كافافيس لجملة واردة على لسان البابا _ وبغض النظر عن تناقضه المذهبي معه _ ربما فيه من السخرية ما فيه: أيْ كأنما هدفه الإيحاء لقارئه ( أو لنفسه تحديداً، لم لا؟ )، بالعمل المعاكس لإرشادات رجال الدين وتعاليمهم. بيد أنّ هذا الأمر، ليس من الضرورة أن يعني إهتمام الشاعر بإزجاء النصائح وتحديد ما يتوجّب من سلوك. فالنقاد، بشكل عام، إتفقوا على أنّ فن كافافيس في أوان نضجه، وخاصة ّ ما فيه من إستلهام للماضي الإغريقي، لم ينطو البتة على نزعة تعليمية أو مغاز أخلاقية؛ بل كان موضوعياً مجرداً ينمّ عن ذوق مرهف، قبل كل شيء. (5)
الرغبة غير المنتصرة، هي من موضوعات كافافيس، الأثيرة. تبدو هذه الموضوعة، ظاهرياً على الأقل، أكثر ذاتيّة وحميميّة، في فنه. مما له مغزاه، والحالة هكذا، أن تكونَ " الرغبات "، هي قصيدته الأولى، المبوّبة في تصنيفات أعماله المكتوبة في تواريخ تسبق العام 1911، وبإتفاق مؤرخي الشاعر ونقاده. سيؤوب كافافيس إلى هذا الموضوع، المرة تلو الاخرى؛ حتى أنّ قصيدته ما قبل الأخيرة ( وعنوانها " أيام 1908 " )، المكتوبة في العام الذي سبق وفاته، يحلق معناها بذلك الإتجاه الموصوف. فلنرَ أولاً، ما تقوله القصيدة الأولى:
" مثل أجساد جميلة، ميتة، لم يمر عليها دهر
مغلق عليها، مع الدمع، في زينة المدفن البهية
الورد عند رؤوسها، والياسمين عند أقدامها.
الرغبات هي مثلها
رغبات أمست باردة
دون أن تلبّى
دون أن تحظى في ليلة عذبة
بوقت فرح
أو ألق صباح "
هذه القصيدة، المقتصدة المفردات والشديدة التكثيف، تختصرُ فنياً إسلوب كافافيس؛ بالأخص لجهة ثيمة " البوح الجسدي "، بما هي الهاجس الأول لعالمه الشعري .. في وجهة نظرنا. لا تبدو هذه القصيدة المبكرة _ مثلما هو أمر أخواتها اللاحقات _ ذات رؤىً فلسفيّة أو دلالات معرفيّة، خاصّة. إنها تعطي " فكرة " عن رغبة ما، لم يتهيأ لها حظ التلبية. حتى الصورة، فإنها على شفافيتها ونعومتها ومسحة الحزن فيها، مألوفة ٌ ولا تدّعي الغموض والمماهاة. بيْدَ أنّ قراءة اخرى _ بين السطور، كما إعتدنا القول _ تستدعي على الفور مسألة المثلية؛ أو البوح الجسدي، عند كافافيس. الرغباتُ، إذاً، مغلقٌ عليها كأجساد جميلة، ميتة، ما لم تلبّى؛ هكذا يقول المعنى الظاهري للقول الشعري هنا. إلا أنّ هذا القول، بما هو إيحاءٌ قبل كل شيء، يذهب بنا إلى " ماهيّة " رغبات كافافيس، حصراً: إنها على كل حال، وبصفة سرّانيتها، ما كان لها إلا أن تبقى مغلقاً عليها ! هذا ما يؤكده الشاعر، في قصيدة اخرى بعنوان " تفرستُ كثيراً "، كتبها في غمرة أعوام الحرب العظمى وفي أوج عطائه. يقول المقطع الأخير من هذه القصيدة:
" خطوط الجسد، الشفاه الحمر، الأطراف الشهاء
ذلك الشعر.. وكأنه مأخوذ من التماثيل الإغريقية
الشعر الجميل، دوماً حتى لو كان أشعث
ينحدر، قليلاً، على الجبهة البيضاء.
وجوه الحب.. تماماً مثلما أرادها شِعري
مثلما أرادها.. في ليالي فتوّتي
في ليالي لقاءاتي السرّية "
المدهش في ختام المقطع هذا، ليس تأكيد كافافيس على أنّ " وجوه الحب "، المرتسمة في فراسته، كان قد سبق له الإلتقاء بأشباه لها في ليالي فتوّته، بل لأنّها: ".. تماماً مثلما أرادها شِعري ". فهو هنا، يقدّم المقصد الفني على ما عداه؛ بمعنى أنّ تسجيل تلك الرؤى، القديمة بشكل خاص، لفتوحات الحبّ والرغبة الجسديّة؛ هذا التسجيل، هو ما كان يشغل الشاعر، قبل أي شيء آخر.. بحسب ما تقوله شواهد اخرى من شعره. سنرى، ايضاً، ما يدعم هذا القول، في قصيدة بعنوان " بصيرة "، مكتوبة في نفس الفترة الزمنية لسابقتها. حيث نقرأ في أحد مقاطعها:
" في سنيّ شبابي المنغمسة
كانت تتشكل مقاصد شِعري.
ويتصمم إقليم فني "
و عودَة إلى موضوعنا، المسمّي رغبات كافافيس، السريّة، سنوردُ تلك القصيدة ما قبل الأخيرة في مجمل أعماله الشعرية؛ وهي بعنوان " أيام 1908 "، ويقول المقطع الأخير منها:
" يا أيام ذلك العام، عام التسعمائة والثمانية، إختزنتك ذاكرتي ومن صورتك،
إنمحت رويداً رويداً السترة المتهرئة، البنية الحائلة اللون مثل القرفة.
وإحتفظت به يخلع سترته المتهرئة. يلقي بها من عليه، ثم ينفض عنه ملابسه الداخلية
المرتقة. ويبقى أمامي عاري القوام بالغ الكمال مثل تحفة لا تشوبها شائبة. شعره مشدود
إلى الوراء غير ممشط. وقد لوحت الشمس قليلاً أطرافه، بسبب عري الصباح، أثناء
الإستحمام في البحر، والإستلقاء للإستجمام على الشطئان " (6)
مقاربة هذه القصيدة المتأخرة، بتلك المبكّرة المسماة " تفرست كثيراً "، سالفة الذكر؛ هكذا مقاربة، تستدعي أولاً إسلوب كافافيس الفني. فكما ذكرنا من قبل، كان في شعره مُقتصدَ المفردات إلى حدّ الشحّة؛ حتى أنه يكررها في القصيدة تلو الاخرى، لدرجة مؤالفة القاريء لها. ويذهب ناقدو الشاعر إلى القول، بأن إسلوبه هذا قد ألب عليه أنصار الجديد والقديم في الأدب اليوناني الحديث، على السواء (7). ولكننا في مقارنتنا بين القصيدتيْن المذكورتيْن، سنعثر أولاً على موضوعه المفضل، الموصوف؛ الرغبة السريّة، المستعادة: ها هنا وصفُ الحبيب، المحتفظة به ذاكرة فناننا، تعتريه سمات الحسن، ذاتها؛ خصوصاً شعره المتطاير وأطرافه المتألقة العريّ. علاوة على صورة شعرية، مشتركة، هنا وهناك؛ المتمثلة بالتمثال الإغريقي في قصيدة " تفرست كثيراً "، والتحفة في القصيدة الاخرى " أيام 1908 ". هذه الصورة، المتماثلة الإيحاء، تحيلنا إلى جذور الشاعر؛ الإغريقية المتحدّرة من سلالة نبيلة. ليس بغريب، إذاً، أن يكتشف كافافيس رموزه وإستعاراته، غالباً، في أوابد أثرية أو أشياء أنتيكا؛ هو المحاط بها على الدوام، بحكم تعايشه اليومي لمدينة ذات ماض ٍ حضاريّ كالإسكندرية. إنها على أيّ حال، الحاضرة التي كان لورنس داريل قد قصَدَ ربما شاعرَها الإغريقيّ، بقوله على لسان بطل رباعيّته: " إنّ المدينة تصبح ُ عالماً، عندما يحبّ المرء أحد سكانها " (8). واقع الإسكندرية، المتردي قياساً لمجدها السالف، لعب دوره في إتجاه مقاصد شعر كافافيس، فضلاً عما ألفه في طفولته وصباه، من أبهة الحياة الرغدة. كان شاعرنا قد أضحى شبه مفتقر، حينما بدأتْ مرحلة إنتاجه الناضج وتفتح زهرة عبقريته؛ الزهرة المنصاحة بمعجزة، في خريف عمره. ورغم مجد عائلته الأرستقراطي، المندثر آنئذٍ، فإنّ كافافيس ظل متعلقاً بأصرَة ذكرياته؛ هذه التي صارت تصدى بشدة في قصائده:
" لكن ليس غريباً عليّ، وأنا منفيّ هنا، رهين الأدواء
( لتنتبه إيرين دوكينا الخبيثة )
أن أسلي نفسي بنظم ستة أبيات أو ثمانية _
فإن فتنتني كتبتُ حكايات أسطورية
عن هرميس وديونيسيوس وأبولو
عن أبطال ثيساليين أو بيلوبونيزيين.
وأنا أتبع أدق القواعد في الوزن الإيامبي
إلى حد _ ولتسمح لي أن أقول هذا _ لا يتقنه أدباء القسطنطينية.
وربما كانت دقتي هذه سبب إستنكارهم "
في هذا المقطع، المقتطف من قصيدة " نبيل بيزنطي في المنفى يكتب الأشعار "، يجوز لنا الإفتراض بأنّ كافافيس قد شاء " تقمّص " شخصيّة ذلك النبيل، باثاً من خلال لذعاته المتهكمة شجونَ روحه المعلقة بين عالميْن. صحيحٌ أنه إبن أصيل للإسكندرية، وكان فخوراً دوماً بإنتماء تاريخها الذهبي لعصر أسلافه؛ ولكنه كان، أيضاً، " منفياً " ضمن لغته القومية، ذاتها. فبحكم إنقطاعه الكلي عن اليونان؛ الوطن الأم للغته الإغريقية، رأى نفسه في قطيعة شبه تامة مع إرث ذلك الموطن، الأدبي والثقافي. إضافة للمشكل الأهم، وهو كتابته الأشعار بلهجة محلية صرفة، غير مألوفة سوى في وسط الجالية اليونانية الإسكندرانية؛ لهجة يُضافر إشكال محليتها ما كان من تزمتها وقلة مفرداتها (9). إن قول كافافيس، في تلك القصيدة المذكورة، على لسان بطله " المُتقمّص " من قبله، بأنه " يسلي نفسه بنظم ستة أبيات أو ثمانية "، كان واقعيّاً للغاية. فما نعرفه عن سيرة حياته كشاعر، عزوفه عن الإحتفاظ بقصائده أو نشرها، إضافة لإحراقه الكم الأوفر منها بسبب دقته في مسألة الجودة الفنيّة، أو لأسباب اخرى نجهلها. بيدَ أنه كفنان لاذع، لا يخفي إعتداده بنفسه، لم يكن ليتحرّج من " إخراج لسانه " لشعراء موطنه الأم؛ متمثلاً إياهم في قصيدته بـ " أدباء القسطنطينية "؛ المدينة التي كانت في زمنها، كبرى حواضر الثقافة البيزنطية اليونانية. وتبلغ سخرية كافافيس من أولئك الشعراء أوجها، حينما يعرّض بتعلقهم بالأطلال والخرابات المندثرة، مرمزاً ذلك بكلامه عن الحكايات الأسطورية والتواريخ البطولية. لا غروَ أن يحتفي مؤلف رواية " رباعيّة الإسكندريّة " بروح الشاعر، التهكمة بفطرتها، المفصحة عن أصالة وفرادة، حدّ أنه يكتب عنه: " إنّ مساواته الرائعة بين السخرية والرقة، كان من الممكن أن تضعه في مصاف القديسين لو كان رجلاً متديناً. ولكن المشيئة الإلهية لم تجعل منه غير شاعر، وفي أغلب الأوقات شاعر حزين، غير أنّ المرء يحس وهو معه بأنه يمسك بكل دقيقة تمرّ عابرة ليقلبها رأساً على عقب حتى يكشف جانبها السعيد ". (10)
في الحق، كان كافافيس " يُخرج لسانه " لقدَره، قبل كل شيء؛ لقدر أسرته النبيلة، المتهاوية بفعل الإفلاس إلى درك درجات المجتمع. كأنما طقوس ممارساته السريّة، وبوحه بها في شعره بأوضح العبارات وأكثرها جرأة، هو تعبيرٌ عن تحدّ لمصيره وسخرية منه. فكافافيس سليل الأرستقراطيين، المرهف الشعور والمبالغ بالإعتناء بأناقته وإختيار صداقاته وأمكنة سهراته؛ هذا الرجل نفسه، من كان يطوّف ليلاً في مسالك الإسكندرية وحواريها المعزولة، المشبوهة، بحثاً عن " قنيصة " يتمتع معها لسويعات قليلة. غير أنّ حقيقة اخرى، فجة، هي التي كانت تؤلمه: رضوخه لواقع وظيفته الصغيرة في دائرة الريّ بالمدينة؛ وهي الوظيفة التي مارسها بإلتزام ودقة حتى لحظة تقاعده. تلك الحقائق جميعاً، جعلته رجل المتناقضات والأهواء المتضاربة، عكسها شعره بأجلى عبارة أحياناً، أو تماهتْ في غوصه خلل مجاهل التاريخ القديم. ها هو في قصيدته " إلى اللذة " يُسمّي متعة حياته، متبطناً، كالعادة، لهجة السخريةٍ واللا مبالاة:
" بهجة حياتي وعطرها
هما في ذكرى الساعات التي ألقى فيها اللذة وأمسكها
كما أردتها.
بهجة حياتي وعطرها
هما رفضي كل إنغماس في الحب المألوف "
اللافت هنا، أنه لم يقل: " ممارستي للذة، هي بهجة حياتي وعطرها "، بل يلحّ على " ذكرى الساعات " التي يلقى فيها لذته. ها هو، مرة اخرى، يحتفي بما كان يدعوه " مقاصد شِعره "؛ مصرّاً على أنّ تسجيله الفنيّ، على الورق، لذكرى فتوحاته الليلية تلك، هي بالذات " بهجة حياته وعطرها "؛ البهجة الشاذة، المتحددة برفضه أي إنغماس بـ " الحب المألوف ". وحتى إسرائه إلى آفاق التاريخ الهلليني أو البيزنطي لمدينته وغيرها من حواضر البحر المتوسط، كان فيه ما فيه من تمجيدٍ للحياة الحرّة، شبه الإباحيّة، المنذورة للإبداع والبطولة، سواءً بسواء:
" أكان ممكناً أن يتخلوا عن طريقة حياتهم المغرية،
وألوان ملاهيهم اليومية،
ومسرحهم الممتاز، حيث أوجدوا إتحاد الفن بشهوات الجسد؟ "
هكذا يستهل شاعرنا قصيدته " جوليان ومواطنو أنطاكية "، التي يتطرق فيها لذلك الفردوس المفقود؛ موضوعه الأثير، المألوف. إنّ جوليان، خليفة قسطنطين الكبير على عرش النسر الروماني، يحاول إعادة الوثنية التي أنكرها سلفه المتنصّر. إلا أنّ زيارته لأنطاكية؛ حاضرة البيزنطيين مذ ذاك الحين، أصابته بصدمة. فالأهالي كما تقدمهم القصيدة، غير مبالين بتعاقب العقائد وغير مستعدين للعودة مجدداً إلى الوثنية، وما يستجره ذلك من صراعات متجددة:
" كانوا ضالين إلى حدّ ما، وربما إلى حدّ كبير.
لكنهم راضون بأنّ حياتهم البهيجة
التي كثر الحديث عنها في أنطاكية
هي حياة رفيعة المذاق.
أعليهم أن يتخلوا عن هذا كله.. لتتقبل عقولهم..
ماذا؟
ألتتقبل ثرثرته الفارغة عن الآلهة الزائفة؟
ثرثرته الفارغة عن نفسه؟
خوفه الطفولي من المسرح؟
تزمته الخشن، ولحيته المضحكة؟ "
وإذاً، بعد سلسلة من القصائد المستعيدة للحقبة الهللينية، هوذا شاعرنا يحث قلمه للخوض بالوجه الآخر للتاريخ الإغريقي في حوض المتوسّط؛ أيْ الحقبة البيزنطية، التي كانت الإسكندرية وأنطاكية من شوامخ مناراتها. إنّ عبقرية كافافيس، في إنتقائها للمواضيع وعمق رؤيته لها، ما كانت إلا لتفصح عن نفسيّة العامّة في مسألة الإنقلاب الديني، المتمثل بتنصّر الإمبراطور الروماني قسطنطين وإعلانه المسيحية ديناً رسمياً للدولة. فالحياة في حاضرة كبرى كأنطاكية، ما فتئت على حالها من اليسر والملاهي والمسرات، وعلى الرغم من إنكار الوثنية وآلهتها. وبما أنّ " الناس على دين ملوكها "، كما يقال، فأهل تلك الحاضرة شأنهم في ذلك شأن باقي مدن الإمبراطورية، قد تعاملوا مع ذلك الإنقلاب الديني بواقعية، وربما بلا مبالاة أيضاً. إنّ نهوض العاهل الجديد للدعوة إلى الإرتداد للعقيدة القديمة، قابلوه بالسخرية خصوصاً لناحيةٍ قصدَتها قصيدة ُ كافافيس: إنها شخصية الإمبراطور المتسمة بالغرور والإدعاء والتزمت؛ هذه الشخصية، التي لابدّ وأعادت لأذهان الخلق ما عهدوه من أمثالها، من دعاة التنصّر، الأوائل، المنادين بتحريم مباهج الحياة وما كانوا يدعونه بتخليص الروح من آثام الجسد. من المهم الإشارة هنا، إلى أنّ كافافيس عاد إلى نفس الموضوع في قصيدته الأخيرة ( وعنوانها " في ضواحي أنطاكية " )، وهي الوحيدة التي كتبها في العام 1933؛ العام الشاهد على موته:
" دهشنا في أنطاكية حين سمعنا بتصرفات جوليان الأخيرة.
لقد غضب أبولو على السيّد، في " دافني " !
ورفض أن يوحي إليه ( أقلقنا الأمر ! )،
وصمم على أن لا يتنبأ
إلا إذا طهّر حرمه في " دافني ".
معلناً أنّ الموتى المجاورين يزعجونه.
في " دافني "، قبور عديدة
وأحد المدفونين، هناك، هو الشهيد
الرائع، مجد الكنيسة، المقدّس، المنتصر:
بابيلاس "
كما نرى، فثمة سخرية مُعلنة أو خفيّة، في كل بيتٍ من أبيات هذه القصيدة: ها هو جوليان، ( مرة اخرى ! ). إنه على حاله، من التهوّر والتزمّت. لا ندري ما الذي يعنينا، أو يقلقنا، أاوحى إليه إلهه في " دافني "، أم رفض ذلك؟ وماذا يُدعى، إلهه هذا: أبولو! ولكن، مهلاً. إنّ جوليان الملك " يدّعي " بأنّ إلهه غاضبٌ علينا نحن أهالي أنطاكية، بسبب إيداعنا جدث شهيدنا القديس، بابيلاس، في البستان المنذور لنزهة الآلهة، والمسمى " حَرَم أبولو ".. الخ. ولكنّ الأمبراطور الغاضب، يُجبر أهالي المدينة على نقل رفات قديسهم بعيداً عن بستان آلهته الوثنيّة. ثمّ ما يلبث غضب الربّ، الحقيقي، أن يشتعل بدوره:
" لم يتأخر الجزاء..
فقد إندلعت نار كبرى، نار رهيبة
وإحترق الحرم بأجمعه، وأبولو أيضاً.
وكانت صورته رماداً، يكنس مع الأزبال.
كان جوليان مهيأ لأن ينفطر، وقد إنفطر _
أيستطيع أن يفعل أمراً آخر؟ _
نحن المسيحيين أطفأنا النار.
ليظل يتكلم. لم يثبت شيء. ليظل يتكلم.
الحق أنه كان مهيأ لأن ينفطر "
هذه القصيدة، كما علمنا، هي الأخيرة التي أنهى بها شاعرنا حياته الأدبية، الحافلة. ربما يتبادرُ للمرء، ظاهراً، أنّ كافافيس وقد أحسّ بدنو أجله، فقد فضل التصالح مع الكنيسة وربّها، المخلّص. حتى أنّ بعض النقاد أوجس من حقيقة أنّ الشاعر في قصيدته تلك، لا يتمتع بالتسامح المعهود في قصائده الاخرى، المتناولة شخصياتٍ ذات شأن أقلّ من الإمبراطور جوليان (11). وعلى بساطة رأينا، فمثل ذلك الحكم فيه بعض التسرّع، علاوة على أنه يُهمل السِمة الأبرز في فنّ كافافي؛ وهي سخريته العميقة: نحن هنا، في القصيدة، أمام مستوييْن من الكائنات؛ بشريّ ينقلُ رسالة الغيب إلى البشر فينكرونها ( الإمبراطور جوليان وأهالي أنطاكية )، وإلهيّ متمثل بمعبود وثنيّ يتحدّى ربّ النصارى ( أبولو والقديس بابيلاس كممثل للمسيح ). على المستوى الأول، نحن على بيّنة من خلال قصيدة سابقة لكافافيس _ وهي بعنوان " جوليان ومواطنو أنطاكية "، السالفة الذكر _ أنّ ريبة متبادلة تستحكم بعلاقة الإمبراطور بأهالي تلك المدينة السورية، العنيدين. إنهم لم يستحسنوا قبلاً دعوته للعودة إلى الدين القديم، القويم بنظره، وعلى هذا لم يُحسنوا إستقباله أيضاً. من جهتهم، فلم يخف اولئك المواطنون سخريتهم بالعاهل، واسمين إياه بالغرور والإدعاء والتزمت. يحبك إذاك جوليان تدبيراً " إلهياً "، يعلم حق العلم أنه لابد سيهزّ أهالي أنطاكية. إذ ينقل على لسان إلهه أبولو، غضبه منهم بسبب عدم إحترامهم لحرمة بستانه، الكائن في مدينتهم. لذعة السخرية، في القصيدة، لا تتجلى في طريقة الراوي الجمعي ( مواطنو أنطاكية ) في سرد الحكاية وحسب، بل وخاصّة في الإيحاء بلعبة الزمن، الهزلية، حينما تنكر آلهة وتتسيّد اخرى: فإذا كان بإستطاعة جوليان الزعم على لسان إلهه أبولو، الوثني، بأحقيته بذلك " الحرم " لوجود تمثاله فيه؛ فلم لا يستطيع مواطنو أنطاكية، إنتصاراً لرفات قديسهم المسجى هناك، إحراق المكان برمته بزعم أنّ ربهم من صبّ ناره على الأوثان جميعاً؟ أما لعبة المكان في القصيدة، فلا تقلّ هزلاً: فالبستان / الحرم، هو " في الواقع " ساحة حرب بين إلهيْن، أحدهما شرعيّ والآخر دعيّ ( المخلص و ابولو ). بيْدَ أنّ هذه الصفة مرهونة حسب، بوجهة نظر مواطني أنطاكية، بما انهم أصحاب الرواية والمنتصرون في نهاية ذلك الصراع. أما لو قلبنا الآية، فلا شكّ في ضرورة إبدال صفتيْ الإلهيْن، المذكوريْن. إن موهبة كافافيس، المتجلية خصوصاً في إنتقاء مواضيعها بعناية ودقة؛ موهبة فذة وأصيلة، كهذه، لابدّ أن تستوفي حظها من القراءات المتعددة، المتجددة، في أيّ مكان وزمان، ما ظلت تلك المواضيع معاصرة وراهنة. لقد نوّه رولان بارت، في تصنيفه للأعمال الأدبية، بين " أثر " كلاسيكيّ و " نصّ " طليعيّ، بتأكيده: " فقد يحدث أن يكون في الأثر القديم نصوصٌ، مثلما أن كثيراً من النتاجات الأدبية المعاصرة ليست بالنصوص ". (12)
هوامش ومصادر:
1 _ بيتر بيين، مدخل إلى كافافيس و كازانتزاكيس و ريتسوس _ الطبعة العربية في عمّان 1985، ص 9
2 _ لورنس داريل، رباعيّة الإسكندريّة ( الرواية الأولى: جوستين ) _ الطبعة العربية في القاهرة 1969، ص 34
3 _ كافافيس، وداعاً للإسكندريّة التي تفقدها / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979: جميع المقاطع الشعرية، الواردة في المقال، مستلة من هنا، فيما عدا قصيدة " أيام 1908 "
4 _ ديوان كافافيس: شاعر الإسكندرية / ترجمة عن اليونانية للدكتور نعيم عطية _ القاهرة 1995، ص 147
5 _ البروفيسور س. م. بورا، قسطنطين كافافيس والماضي الإغريقي: من كتاب " التجربة الخلاقة " _ الطبعة العربية في بغداد 1977، ص 49
6 _ ديوان كافافيس، مصدر مذكور، ص 141: هذه القصيدة، غير موجودة في ترجمة سعدي يوسف لأعمال كافافيس الشعرية
7 _ التجربة الخلاقة، مصدر مذكور، ص 50
8 _ رباعيّة الإسكندريّة، مصدر مذكور، ص 86
9 _ التجربة الخلاقة، مصدر مذكور، ص 36
10 _ رباعيّة الإسكندريّة، مصدر مذكور، ص 136
11 _ التجربة الخلاقة، مصدر مذكور، ص 58
12 _ رولان بارت، درس السيميولوجيا _ الطبعة العربية في الدار البيضاء 1986، ص 60