هواء شعري في رئة القمر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قراءة شعرية في سردية "من يسكب الهواء في رئة القمر" للشاعر بشار عبد الله
ثمة صوت خفي ينبؤنا من أول سطر في الرواية بأننا سنقرأ عملاً لا يشبه الرواية مصطلحا ومفهوما تعودناهما وان كان النص يحمل مصطلح (رواية شعرية). استرسال القراءة يوقف التلقي أمام نفس شعري أثيري المفعول. يرسم لخطى القراءة انقيادا نحو وجه آخر لا يشبه المألوف الكتابي ويمارس بذكاء وهدوء عملية تنويم مغناطيسي لمفاهيم ألفتها الذاكرة، وهو يتخطى حدود السرد، حدود الشعر، حدود الألم، حدود طبيعة الإنسان وجودا وأسبابا، ويتخطى محدوديته وانفراد آدم بمحبة الرب hellip; وامتداد مسيرة الخلف بوراثة جنة موعودة، وما يترتب عليها من تقبل مقتنيات الحياة الفانية والتعامل مع مفرداتها كما لو أنها عبئ واجب على العبد، ويرفض في كثير من الأحيان تعيين صفة لازمة لحقيقة متوارثة، متعارف عليها:
(ملانا جيب حزيرانها بالموتى.. ووشمناها بلحظة مرارة ظلت تهرول خارج السياق)، أهو سياق حزيران؟ ربما إذ نعي أن حزيران يمثل للفلاحين والمستثمرين شهر خير ورزق متواصل، لكننا نكتشفه في القراءة لحظة مرارة فالشاعر مغيب عن أجندتها، لا يندرج تحت قائمة منتشين لعرس حزيران.. وسيتماثل الشاعر بكتابته الى أضواء منتفعات الحاضر، كرم ثابت قابل للتعويض ببدائل، إنها حسرة التجربة، تجربة الرغبة (الفاحشة) في ضمير اليقين، ليبدأ بخلق أمزجة تتلاطم، أمزجة من معلمين وشخصيات فذة استرطبت التسطير على حساب انهدارها في قالب ألوهية؛ يحاول استعارة منتجات كانت شبه محرمة لكائنات تبحث عن جنة في غسق المجون، ومرة أخرى سيحاول مخاطبة الطوارئ مفردة مفردة وهي تظهر على منصة تجريبه وتغريبه:
-وصمون الجيش المقفى بالاجبان كلها سوى الـ(كيري) الذي كان يخدش حياء الآريات والفرسان في الربايا
-وغنجهن المسكوب داخل عبوات الرطانات من شربت فرات و مينو والقائمة تنفتح لتشمل...
ويزدنه بما يمكن الجوع من خلق بدائل ظاهرة للحظة النشوة:
-.... لتشمل نقيع التمر ونقيع النسيان والتناسي..
وتباعا يحاول الشعر شد التلقي الى تيهه المترابط العصي على الانفصال عن جسد الروي، يباغت كل توقع يفترض ان يقام على حدية قراءة وتنبؤ بإحداثيات عرضه لأسطرات علمانية وكهنوتية، يجمع تناقضات خلف وراءها مسهدا، يضيق بالحكمة رأس مرابي الزمان، كأنه إعلان عن حد لا يعرفه مراوغون ومنفى آخر لم يلجا إليه لاجئ من قبل ولا من بعد تتابع آسر لفكر يتحرك في اللغة، وتماحك يساوي افتعال أزمة عرقية متناهية في هوية الرواية، وانتساب الشعر يجعل من الحدث مشهدا مليئا بمكابدات غريزية متواصلة تبلغ ذروتها في حمى فوهة الانفلاق، انفلاق صادم لواقع فارس دائم البحث عن قطبي عالمه؛ الرغبة والحقيقة
" وعلى بطونهن من الزنبق وعلى أفخاذهن من اللوتس وبين أوراكهن من النعناع والزعتر وعلى عصافيرهن من التو سيرام والليزر "
يعمد الشعر ويعمّد نبوءته التي انتشلته من سؤال الأبدية عن وجود الثمرة وأوراق التوت المنقشعة عن آنية لواقع مجتمعي حكمته المادة المنسلة من سلة حزيران، حكمته و بقيت مثل عقدة للشعر ولازمة تحثه على ترويض مخيلة المثقف عموما والمثقف العراقي على وجه الخصوص، يزجه في مكابدة دائمة وحوار دام مع آخر مقفل ومعمم بموانع تفكير وتحضر جراء حصار وكبت فكري وتمكين سلوك القسر على تهجير مفكرين وأدباء وعلماء إما الى خارج البلد أو الى كوامن النفس
لم يبق في الحضرة من أحد كلهم سافروا السعد والصلاح ومحمد الفاتح وأديبهم الوحيد....
ما يذهب إليه الشعر أيضا صب أسماء واقعية في قالب أسطوري، وربما تدويني لتاريخ يلجا بالمقابل الى ترميز شخصيات وأسماء لا يظهرها، ربما بسبب غيابها المجحف أو لاجتناب تساؤلات تشكيكية سيذكيها هذا الآخر.. بين بيت وبيت ترادف واقعة تاريخية من حياة الفرس تقوده الى أزمة النبوغ الأول وفضل شخصيات (حمارية) بحتة في نحت ذاته ورسم الخطة المحكمة لإيصاله الى عرش ما يقصده:-
- وظلت المشكلة الأكبر تضرب بأقدام ثقيلة وصارمة على ارض هواجسهم لتطلع ماء على نية العريف محمد جفال..
ان حضور المعلم الدائم، الملازم لرحلة الفارس الى كوامن الروح توازي ظهور منظومة الرؤى المستوية التي تتنبأ بالتحاقه إلى طبقات المستحيل، السماوات السبع، واللجوء الى رحم الأرض لاستبطان مفهومي الفضيلة والرذيلة.. هو نفسه، هو يرشده ويلقنه تعاليم نواميس وقواميس، بيد واحدة يعقب وبالأخرى يمسح دم الندم والخضوع، كما لو انه يوزع نفسه على خشبة مسرح ليكون الفارس والمعلم والناطق باسم إلهه الآري ووجد الحبيبة المغيبة بوحها عن الظهور دفعة واحدة ليختمها في نهاية المطاف بالشاعر الذي رأى كل شئ:
- وصاح المعلم: فتحت كل شئ ورحلت أبقيتني معها..
- وأنت لماذا لم تخبريه كما أخبروك بان المبالغة بشحذ السكين تثلم حدها القاطع
- وأنتما معا..لماذا لم تنتظرا حتى أقول لكما.. كما قال لي المعلمون الأربعة
- أنا العالم الذي تحسبين نفسك قادرة على تحسينه ولا تعرفين انك إذا حاولت فستحلينني إلى خراب..
وللعقل تناقضات كبرى أيضا وتفاوتات في مستويات الإدراك الآني، وهذا يوحي بحلول ذاتي في ضمير ارتحالات مهادنة لشخصية فصلية، شخصية تديم البحث عن بدائل مقنعة لفهم شقه الآخر، القاصي، فهو به حاجة الى آدم وحواء والى معلم لا يشبه شيطانا مقتدرا، والى شاعر يمجد لحظة الوقوع في فخ البشرية، وفي امتهان العقل القادم من رحم الخطيئة، كل ما يتعلق بولادة وموت وبلوغ وضمور وجوع وتخمة، وكل ما قد تنتجه الاحتمالات من نقائض ومترادفات لأسماء تعلمها كلها في لحظة تلقين، بعيدا عن مسمع الملائكة وحضور الفضوليين؛ هو ينشئ بوصفه شاعرا، مسلته ثم يحفر عليها قوانينه الشعرية ويذيلها بملحق صغير، هذا الملحق هو إرادة السرد بشكل أو آخر، إرادة بديهية لا تقبل الانقسام الى عضتين.. عضة تمنح الشعر مجدا معلقا موبوء الخصائص، مفردات ومشاهد وصور لا أثيرية وانفعالات بربرية يحاول من ركامها اقتناص لحظة ولوج محرم في لذة السبعين عاما:-
- هل كتب علي ان أتجسد خطاء في كل مرة؟ هل كتب علي في كل تجسد أن ادفع حواء الى حلق طيطفون
-... بينما أجرجرها أنا الى مسالك لم تطأها أقدام حدسها....
وعضة أخرى هي غفلة القراءة عن ارتقاء مهاجر لسردية الشعر في حوصلة متخمة بذهول..
- عبر ممر الضوء يمر أنبياء.. هل أمر على الضوء وأقرا تحت هدير التاروت هذه النبوة؟.
بحث متواصل يغب فكرة ضائعة، والتي يعتقد الشاعر ان لا بأس ان تضيع الفكرة في عالم يضيع فيه كل شئ وعلى حد مستوى البحث فهو غير مقتنع بفكرة (ضياع الفكرة) أو تقبل ضياعها..الأسئلة كثيرة تغص بسجالات وأجوبتها تصل مبتورة بسبب نفاد بطارية المريدين أو انشغال شبكة المحلقين في طابور التجسس العمودي نحو غياهب السماء.. هو بسماء.. هو ينتظرغيث الأجوبة في اشهر لا تكاد الغيوم تعرف طريقا لها الى سماء، هذا الرأس المحلى بأراجيز واحجيات، هو صنعها وهو قدمها مادة متعقلة الى فم قارئ.. هو مثل أي شاعر، وبتجسداته المتمثلة بفارس ومعلم وجوع وحصار يعلف ألم الخطيئة.. به حاجة الى تجسدات تجاري امتثاله لصور التكوين، الفارس به حاجة الى أميرة ضائعة في قصر ملوك قساة، ليطفأ رغبة سيفه الملتهب، المتلمظ إلى نحر وحدة تتأله على المعقول، والمعلم به حاجة الى حكمة تمتص غياب زيفه وإلى حلول ارثه في عبرة يقين، والجوع به حاجة الى (نبيلة عبيد) لتفند له استهلالات الحضارة والقذارة كلها، ولترسم أمامه منتجعا من ألقاب وجماجم، وهو كحمار عاقل يقرأ الأسفار ويفهمها به حاجة الى حمارة تقرأ أسفاره وتفهمها، وبين هذه التجسدات يحل الشعر/ الشاعر نفسه ليحل عقدة الآدمي الموازي لحكمة الله، ومن ثم ليختار خوض مقامرة دخوله الشرعي من بابه الأربعين ويسحب الشمس والقمر وينزلق الى معدة الغروب "
المرأة ملازمة شخصية، حيناً يراها جوزاء أو سيدة جداً وهي ببساطة حواء بلحمها وشحمها يريدها حواء دون مهادنات، دون سجال معتق بألم السؤال عن الرغبة الملحة في تكوير هذه العلاقة الى مصادفة عاطفية تصل حد الاشتعال ولو لم تمسسه نار، ويظل يردد أن الخلق بدأ بلعبة.. مسرح وشخوص قامت بالدور، وكاتب تهجأ الحروف الأولى لمشاهد ناجزة، وشاهد عيان توسد فرط الفجيعة بكل تناقضاته يدعوها للعب وبكل حضاراته، معولا على مستوى لغوي بسيط يتمظهر من خلاله صدقه على أفضلية اللعب، وشتان ما بين حزيران والصفر، هكذا يفكر وهو مدرك تماما خسارة الجولة للمرة الألف:-
- وسمرني صمتها على جسر يربط بين احتمالين
لكنني أغمضت عيني ونسفت الجسر ولعبت دودي وعلفت تنوراً جداً جداً جداً، دون ان اعرف ماذا كانت هي تلعب بالضبط..
إنها موقتات أحداث متلاحقة، من مطاردات ذهنية وائتلافات روحية تعبر عن نية الحدوث في أي وقت. من السهل احتلال أمكنة في أزمنة غابرة، ومن السهل العبث بمقدرات مجموعة انتشت بهول وقائع، يوقتها ويقلب الحقيقة الى قلبها بمراجعة تاريخية جديدة تحاول تصدير رسم لخريطة مباحة تستمرؤها العصور، و الشعر/الشاعر يرسم برصده وقائع مائلة للخلق مجدا كونيا جديدا بارتداء مغامرات جينية واستحضار ما هو محضر لتكملة مشهد في زمن ما، ربما قد مضى وربما هو أزف:-
- الضروري في حياتنا إبليس.
- ما زلت أتدلى من كتف أيسر تسميه مدينة أو سديما أو امرأة
وحين افتح مظروف وهمي لا أجد ضلعا اعوج
ومرة أخرى هي محاولة لإنكار بديهيات، لو كان سلم بها لمات التجسد المسؤول عن فهم النسخة الثانية لهذه الحياة، ولكان تلكأ في تدوينها على صفحات رواية شعرية وربما اجلها لإنشائها لاحقا تقريرا سنويا..
إنه حضور الغيب والتغيب بتجانس رهيب يعطي للنص قدرة إشعاعية لتأمل حكاية ومتابعتها بدون حكاية نكاية بسردية العمل.. عبورا بالأنبياء وأسرار السماوات وطبيعة الفلك والقمصان المقتدية وبحار ناضرة وصيادين مصابين بخشوع الفشل، مرورا بالفصول الدائخة والقبور الناطقة بحقيقة منقذ العالم وهذا الكم الرهيب من ارتجاليات لصفقات بين الأرض والسماء والحلول والأفول والمراباة والمجازاة والكر و الفر كل هذا يستوقفنا عند عمل نراه قريبا الى فكرة تفويت الفرصة على السرد الرتيب لصالح تسيد شعرية النهج، إذ ما معنى ان نقرأ كل هذا الوجل و هذه المهاترات الأليفة:
- كنت تقول لي اسرجي نبض الجواد الجريء
- يا نظرتي العابرة حين تشطفين العواصف عن الأفق
إنها دعوة مفهوم الشعر إلى مسخ الملموس واستبداله بتجسدات يختارها بعناية، وصار عليه فيما بعد أن يمسخ الروح الرغبات التي تحرك من حوله المفاهيم، وإذا كان ادونيس قد اسرج دمه فهنا يسرج الشعر/الشاعر نبض الجواد وليس الجواد؛ صورة تفوق في تجريديتها فعل أدونيس لدم مادي ملموس بلون وطعم ورائحة، ترى أي مقدرة كونية محكومة بقوانين يمكن أن توكل إليها مهمة سرج النبض!
تتعدى الجناسات حدود المجاز والرمز المألوفة إلى قصد فعل مجاز يمسخ أفعال الواقع ويحتال على الطبيعة باستعارة أدواتها وتكليفها (هو) بما يرتضيه له نَفَسَه الشعري ليختم حواراته المتلاطمة في ضوئها بغيبيات الصوت والصورة وباختزال لحظة في قرن تدفقhellip;
- كل نسيان أنا.
- هذا هو الطريق، عمري المنضد على سطر غفلة
يا مجد هذا الوهم هل أنا أنا، هل أنا هو، هل أنا أنت،هل أنا هم، أم أنا هل؟
محو لتمظهرات الخوف والفزع والألم وتحويل الى مفاخرات رتيبة تعود ان يتناولها بعد كل وجبة غفلة، حيث امتهانه الحياة يأخذ شكل دمعة.. دمعة يرثيها لكثرة تجسداتها في الخلفيات والانيات وواجهات القهر والصبر؛ مرة أجهض حلما فسقطت بلورة من السماء وصار عليه أن يعوضها بدموع، يستنفرها من تحليق أفكاره حول فكرة دمل.. ومثل أي عاشق مطعم بنقر السكون في الوجدان يعين الحبيبة بألف عين، يستعيرها من غبرة لحظة عاشها أو وهج جنبه امتلاك حقيقة لها أوجه عدة، بعدد احتلاماته بإنجاب ولادة لا تشبه الولادات ووريث يعمم عليه كل الانفصاليات، فلمن يترك هذا الإرث ومن سيصون أرضه المنهارة بشيم عابرين على أشلائه.. هو صانع الحريات والحوريات ومبتكر الشهقة والدفقة، فلا يحتمل ان يجد قبالته نصفاً أراد يوماً صرفه في وجه القطب، يدعوه/ يدعوها إلى ان تكون مجنونة في زمن بات عبئاً على حامله العقل.. هي المجنونة بكل ما أوتيت من حكمة.. العازمة على استغوار سياق الأكذوبة المنفلتة من ضمير اليقين.. يهادن على احتمال نضوجها، كمشروع طاولة لسفح ارتباكاته المؤجلة السارية مفعولاتها مع غير الموعودة بوشمه المختال، ولكنه لا يدرك انه يسفح الخيبة التي وقتها في عمق ربيعه، حتى لا تنفتح الأسرار ويبقى الحلم مفتوحا ويعيد رتابة الخيبة على طريقة صوفية، يحقن المشهد بمسايرات المدافع والأذان وارتجاج المنارات لديك العرش وتطويع النفس دائماً لإيقاع التزهد، مع رشفة من نقيع التمر.. كما الزهاد.. له بدائل عن كل شئ الا عن الله..
- بك أسألك أن تنزل معي الى القبر
كي اعبر واغرق في أمرك الخفي
********
بريد بين قبرين:
ثمة فرق بين خطاب يتجاذبه طرفان متواجدان عند خط شرعي كوني مرسوم للقائهما وبين خطاب يتجاذبه تجسدان حال دون حلولهما في المادة محكمة الصنع فجابا في ثنايا اللماذات والسنوات واستلم كل نصيبه من المعرفة بمصير الآخر وصار الواحد يخاطب الأوحد والأوحد يتجزأ الى أمة في خلد مراسل ينقل التقارير والتصوير عبر استمكانات حلمية وتوقعية في آن واحد. في الأول نلمس تواتراً وبراهين لفرضيات وتوصلا لنتائج غائرة في آنية اللحظة....أما الثاني فهو نافذة واحدة، وهي هنا مطلة على قبريهما، حيث لا ساعات ناقلة لبرهنة الزمن ولا حجرات مهيأة لتلمس كعب الإفاقة ويبقى الشاعر مع أسئلته وأجوبته تائها في موج نشيد ألفه هو هو من قرارةِ وِرد معتزل للتكهن:
(الى حيث الأفواه مزمومة
بانتظار أن تحط النقاط إلى القبل)
وعلى شطر المواجهة المرتجلة بين الذات والأنات يتقمص تجسده الخامس باختراق محراب حواء والنبش في مستويات رقيها وإيصالها الى حد يحيلها قطرة قدره المزدانة بعبثيات خطأ وصواب، فيما تغفل هي (فيه هو) عن المتلصصين الغرباء الذين سلخوها من جلد ضميره، لتصير محض فكرة مستعرة فوق الضمائر الأخيرة كلها. يرتقي بالحوار ليصل حد همس ملائكة، وأحيانا حد نجوى شياطين. كم كبير من عتاب وعقاب وموت قاس ورغبة فائرة في فم إحداهن دون المختارة، ودائماً ثمة لحظة لم تأت رغم المكابدات واسالات حقائق وردية وبيضاء على معتركات اليأس.. رفقاؤه كثر يستمد منهم هذه الاستهلالات الانشطارية والمنفلقة في غيب الشعر، وهمه يصير موشورا يبصر عالما بألوان لم ترد على ذاكرة الطبيعة بعد، حارقة لأبديته ويفترضها ان تكون معهودة.. القبور أنواع وأحجام وربما اختار هو قبرا لم تحفره حضارة ولم يبنه فرعونيون.. قبر صنعته له آلهته المتوسدة حتمية وجود ارتضائها لنفسه منفى مليئا برغبات وآلام وجوار حسان مسلمات لجنونه الغيبي، وكان مهما لديه ان يكون هذا الخطاب وهذا الحوار (فلاشيا) يضاهي النفخ في حوصلة العمر، ويخترق من جديد هذا الكائن القابع المسمى بـ(دودي) فهو كأي مجنون يحب امتهان الموت مع امرأة وعلى كتف امرأة وفي رحم امرأة حيث الحسرة لخبرة متاهاتها المعلقة من جسر في اللازمكان، ويخترق أيضا هذه الاستعارات الخلابة الباحثة مع القراءة عن مجون كلمات وهرطقة مفردات وانفلات فكرة مسوغة لاحتكامه على مفاتيح أسرارها وخلاصها من حزيرانات ومقابر جاهزة، وجاهزة للتحليق بالحبيبة الى تضوع منتهى وخلاص تراءى لها /له خلاصا.. وينتهي كما بدأ وحيدا أمام حيرة الرؤيا واختطاف غفلته المترفة آلاما وأوهاما تجناها في غفلة من حواء..
********
القسم الثاني أو القَسَم الثاني
عبد آبق وقسيسة وسيدة
حضور وجودي إزاء مفهوم التدين لا يقبل التجزئة، مهما اختلفت مفاهيم تقبل فكرة غياب الرب وحضوره، واحتمال سردية حكايات أنبياء وملائكة وأبالسة وما تندى من ختم آدم وإقلاع حواء عن برهنة ثورتها المنقادة الى خندق تدجين، واستثمارها في نسخ متوازنة، متوازية، غضة ومزيفة أحيانا وكلها لها الهدف الأوحد (رفض الجنة في تقويم المصائر)، هذه المرة اختارها قسيسة، فهو به حاجة الى رونق يخمد له نارا تؤججها على الدوام من يسميها السيدة جدا جدا، وهذا يدلنا الى ان به حاجة كما سلف الى حواءات بعدد يفوق ربما أصابع اليد يستلهم وقائع فجيعة حصارات ووهج صحافات منطفئ تحت أقدام سحرة ومالكين ومحتكرين لأعناق مسومين في مزولة الكتابة والرتابة أدب يعلّم كل واقعة بحقيقة مرثيته المنتقاة من جمهرة ملاحم والياذات
بشار عبد الله رص مكعبات حِرائه واعتكف داخل فجوة تغريب ليخرج إلى جاهلية الكتابة بشعرية متعشقة ببحث كلكامشي عن حقيقة الوجود وعن حزنه على انكيدو وعن غارقة بالمجون والحروب والغدر والوفاء لأبطال طروادة الذين ختموا كف الآلهة بخيار رحيل
هو لم يرحل، أراده صرحا قائما على أحجار زاوية ثلاثة (السؤال واللغز والاحتمال) وخارج كل هذا وذاك وجد مدخراته الحسية تنقاد دون شك نحو أيائل قسيسة قبلت ان تكون اليد المصفقة لرقصة مذبوح في محراب سيدة، كانت رفضت ان تكون نصف اليد الأخرى هو نفسه هو يظهر بتجسداته من جديد عبدا آبقا وقسيسة وسيدة لكل شكل رأس حكمة ولهذا هو على رأس القائمة ولكل شكل استناد أول ولهذا القسيسة في المرتبة الثانية وتأتي السيدة في المرتبة الثالثة لأن لكل شكل انفلات ضلع اعوج، وربما أصبحت مرثيتها أقوى بكثير برحيلها وقبول أن يعزف غرباء على أوتار دمها، دمها المغترب، فيما ينبع تهجد تبعية القسيسة له من فرط إيمانها بعبودية الشاعر.. وهذا ما لم تعه السيدة في دروسه الرغبوية لانبلاج عصر جديد، أراد بناءه من هرم مغاربي ومشارقي دون الجنوب ويظل العراف والعرافة والكاهن والزاهد والملائكة وإبليس واليوم والغد والليل والليل وكل ما يتخللها من طفح قسري كل ذلك يظل ثابتا على ألم العزوف عن مقتنيات مستبيحة لعلمي اللاهوت والتاروت، إنه مراسل حربي عتيد بين الوهم والحقيقة، بين الموت والحياة، بين سَجل الملائكة وغياب نطق البئر.. هو يسأل وهو يجيب، ولكن عن ماذا ؟
- من شرق السؤال إلى حدود الأجوبة
- ومر السؤال عبر نفق الظهيرة فأيقظ الأسئلة المتهالكة على النبع المطمور
- وعندما التفت ليطرح عليها السؤال الخالد, لم يجد غير صرة معقودة في مكانها
- توالت عليه قوافل الأسئلة الغفيرة من كل صوب، كان السؤال بوزن الأرض ملحا لا جواب.