مناجاة هاملت الثالثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ما أنْ قابل هاملت، شبح أبيه حتى أضحتْ لغته أوفرَ تعقيداً، وذاتَ دكنة.دكنتها كخضرة الأوراق حين تبلغ كمال نضجها. لها ما لأشجار الغابة من تشابكٍ وغموضٍ ومفاجآت. يقول W.H. Clemens في كتابه: The Development Of Shakespeare's images: "إنّ الإمكانات الجديدةَ المذهلةَ للغة التي تجعل هذه المسرحيّة تبدو نقطة تحوّل في تطوّر أسلوب شيكسبير، إنّما تعود بجذورها إلى شخصيّة هاملت. نشأتْ اللغةُ الجديدة منه، ووصلتْ درجةَ الكمال فيهhellip; لا يمكن لشحصيّة هاملت أنْ تعبّر عن نفسها إلاّ بلغةٍ جديدة كليّة. وهذا يصحّ أيضاً في حالة الصور في المسرحيّة. (ص 106)
التطوّر الآخر الذي طرأ على شخصيّة هاملت منذ أن قابل الشبح هو أنّه شرع في التقاتل لا مع العالم الخارجي الزائف، بلْ مع نفسه لدرجة التمزّق. يفهم نوازعه ولا يفهمها. يهمّ ولا يهمّ. متردد. بلا مبادرة. يذكر A. C. Bradley في كتابه: Shakespearean Tragedy في تعليل تردّد هاملت: " لأنّه لا يسعه عمل أيّ شئ. عليه أنْ يقفل قلبه على سرّه. وإذا ما زلنا مستغربين ونسأل لماذا كان تأثير الصدمة عليه هائلاً جدّاً، فدعونا نلاحظ أنّ الظروف كانت قد تهيّأت لتصبح مواهب هاملت ووعيه الأخلاقي وعبقريته عدوّة له، (ص 95).
بات هاملت حلبةً يتصارع فيها مع دواخله. دواخله مستغلقة. عصيّة حتّى على فهمه هو. وصفه أحد النقّاد بأنه أصبح رمزاً لإنسان عصر النهضة. فهو من ناحية "طافح يالإمكانات والجمال والسحر، ومن ناحية أخرى يرزح تحت طائلة الخوف واليأس". صحيح حقّ الصحّة، أن المأساة التي مرّت بهاملت لا تُحتمل. إلاّ أنها لم تزددْ تشعباً ولم تتخذْ أبعاداً مدوّخة إلاّ لأنّ هاملت كان مفرط الحساسية ومثقفاً ثقافة شاملة كما سنرى في هذه المناجاة. على أيّة حال، قبل النظر في هذه المناجاة، قد يكون من المفيد الرجوع قليلاً إلى مَشاهدَ سابقة، عندما يستقبل هاملت فرقةً تمثيليةً جوّالة تضم "أفضل الممثلين في العالم".
يبدو أنّ هاملت كان يعرفهم معرفةً حميمة. إلاّ أنّه لم يلتقِ بهم منذ سنين. فالصبي الذي كان يمثل دوراً نسائياً (كان التمثيل محظوراً على الإناث)، قد التحى الآن، وأصبح "أطول مما كان عليه بالكعب العالي" ممّا يميّز صوت الصبيان الصغار أنّه أشبه بصوت النساء. الخوف إذا خشن أو غلظ، ساعة المراهقة. لذا خاطب هاملت صديقه القديم:" راجياً ألاّ ينثلم صوتك مثل قطعةِ نقودٍ ذهبية لا قيمة لها، إذا وصل تثلّمها إلى حلقة رأس الملك". ثمّ يلتفت إلى الممثلين ويخاطبهم:"أيّها المهرة، مرحباً بكم جميعاً. "ومثل صقّارين فرنسيين سنطير رأساً إلى أوّلِ مقطعٍ تؤدّونه".
قبل كلّ شئ لم يأتِ التشبيهان عفوَ الخاطر. فانثلام الصوت وتشبيهه "بانثلام حلقة رأس الملك" يومئ إلى فأل سيئ، لا سيّما وأنّ الحلقة المحيطة برأس الملك قد تُفَسّر على أنها التاج. وفي الحلقة تورية أخرى، وهي أنّ حلقة الفتاة إنّما هي بكارتها، فإذا ثلمت كفّت أن تكون عذراء. أمّا التشبيه الثاني:"ومثل صقّارين فرنسيين سنطير رأساّ" فيوحي بانقضاض وفريسة. كان الفرنسيّون في زمن شيكسبير صقّارين خبراء، إلاّ أنّ الإنكليز اعتقدوا أنّهم لا يختارون صيدهم بعناية كافية. بهذه المثابة يريد هاملت أنْ يستمع إلى الممثلين في بعض الأدوار، دون الاهتمام بما هي عليه تلك الأدوار.
لا ننسَ فقد ذُكِرَ الصقر من قبل، وذلك بعد أنْ قابل هاملت شيح والده ( الفصل الأوّل - المشهد الخامس) لا بدّ أنّ هاملت كان مشحوناً بشتّى الانفعالات حينما عاد من والده الشبح. يبدو أنه لم يجدْ مرسيليوس كلمات مناسبة للترحيب بصديقه هاملت، فأطلق أصواتأً لا تخلو من دلالة. دار بينهما الحوار، على ما صورته:
مرسيليوس: هلْلّو، هُوْ، هُو، يا سيّدي اللورد.
هاملت: هِلْلّو، هُوْ، هُوْ، يا ولد تعالَ، ياطير تعال.
في هذا الحوار تقلّد الشخصيّتان صوت نداء الصقّار لصقره، لكي يعود إلى يده. هكذا كان شيكسبير يمهّد بهذه الأجواء إلى زرع الهاجس تلو الهاجس. على أيّة حال، ذكّر هاملت، الممثّلَ الأوّلَ بمقطع كان ألقاه مرّة ولم يُمثلْه "لأنّ المسرحيّةلم ترضِ العامّة.كانت أعلى من مستواهم. بمثابة كافيار لم يتعوّدوا على تذوّقه.
لكن ما الحيلة الفنّية التي وظّفها شيكسبير لإدخال الملكة في الحوار حتّى تكتمل الصورة؟ قال هاملت:"من المقاطع التي أحبّها على وجه الخصوص، هو حكاية "أيْنياس"إلى "ديدو"، أو ما يقرب من ذلك الحدّ، ولا سيّما حينما يروي مقتل "فريام". المعروف أنّ أينياس أمير طروادة، في ملحمة الإنيادة لفرجيل، كان في رحلة بحرية طويلة. وبعد سبع سنوات ينْزل مع رجاله في قرطاجنّة، وهناك يلتقي بالملكة ويروي لها مغامراته ولا سيّما الصراع بين الملك فريام الشيخ، وخصمه بيروس. هنا يقرأ هاملت مقطعاً طويلاً عن ظهر قلب، منه:
" hellip; ومضى بيروس الجهنمي وهو مسفوع بالغضب والنار
ولذا بدا أكبر من حجمه بالدم المتخثّر عليه، وبعيْنيْن
كالعقيق الأحمر hellip; "
يتوقف هاملت ويطلب من الممثّل الأوّل إكمال المقطع:
" يهجم بيروس على فريام الأعزل العجوز
ومن غضبه، ضَرَبه فأخطأه، ولكنّ الأبَ الواهن
يسقط من عصفة السيف وريحه (3)
وبارتطامٍ مهول، اُسِرَ بيروس في وسط الضوضاء
ويا للعجب بدا سيفه الذي كان ينْزل على رأس فريام الأشيب (5) ، وقف بيروس ولم يفعلْ شيئاًمثل إنسان وجد نفسه على الحياد بين نيّته وتنفيذها
رأى بولونيوس أنّ المقطع أعلاه طويل جدّاً. سخر منه هاملت ، وطلب من الممثل أن يكمل المقطع من "هيكوبه". (هيكوبه هي زوجة فريام. هاملت مهتمّ هنا بتأثير مقتل زوجها عليها. وفي الإنيادة تصوير مؤثّر لهيكوبه وهي تسحب زوجها الشيخ، حيثُ هي وبناتها ذاهبات إلى المذبح):
الممثل الأوّل:لكنْ مَنْ - عجباً، الويل! - مَن رأى الملكة المعصوبة العينيْن -
hellip; تركض عارية ذات اليمين وذات الشمال، ودموعها
تهدد نور عينيها، وعلى رأسها قطعة قماش حيثُ
كان ينتصب عليه التاج إلى عهد قريب، ومن شدّة
ذعرها شدّت على خصرها النحيل الذي أنهكته الولادات
بطانية بدلاً من الثوب. - ومَنْ يرها كائن مَنْ كان،
لصاح ورأسه مغموس بالمرارة، بوجه سلطة ربّة الحظّ ودَمَغَها
بالخيانة والغدر
لكنْ لو رأتها الآلهة أنفسها آنذاك،
عندما كان بيروس وهو يلهو بحقد، ويمزّق أوصال زوجها
بسيفه، ولو سمعت تفجّرات عياطها، لَتحلّبتْ بالدموع نجوم
السماء المشتعلة، ولَرقّت لها الآلهة، إذا كانت الآلهة
ترقّ أبداً للأشياء الفانية hellip; "
بعد ذلك يقترح هاملت على الممثل الأوّل أن يدسّ في المسرحية ما سيؤلفه له، حوالي اثني عشر أو ستة عشر بيتاً. يوافق الممثل الأوّل. ينفضّ الجميع إلاّ هاملت. عند ذاك يلقي مناجاته.
من تقنيات المناجاة الثالثة:
تبدأ المناجاة باحتقار هاملت لنفسه. بالحطّ من شأنه. هذا هو ديدن المحبطين الذين يرون أنفسهم عاجزين. يقول هاملت: " يا لي من مشرّدٍ عاطل، ومن فلاّح قنّ لا أملك حرّيتي". هذه توطئة نفسية معتادة، طالما لجأ إليها الأدباء حتّى يمهّدوا، حتّى يخففوا على أنفسهم من أحكام الآخرين عليهم.
يقارن هاملت بعد ذلك نفسه بالممثل الذي كان يؤدي دوراً خياليّاً، وكيف كان صادقاً، بحيثُ "يصفرّ وجهه كلّه hellip; والدموع في عينيه، والانشداه في نظرته، وصوته واهن ممرود،، وكلّ قواه تستجيب بتعابير جسدية تتلاءم مع تلك التصوّرات الوهميّة. يستغرب هاملت من بكاء الممثّل على هيكوبه. ماذا تعني له، وماذا يعني لها حتّى يبكي من أجلها. إذن ما الذي كان سيفعله لو كانت مأساته حقيقية كمأساة هاملت؟ ومأساة هاملت واقعية وما تزال تنْزف، كما كانت، وأكثر. يقول هاملت:
"سيُغرق خشبة المسرح بالدموع، ويمزّق سمع الجمهور
بكلام مرعب، ويجعل المذنب مجنوناً، ووجوه الأبرياء صفراً hellip; "
ينُحي هاملت باللائمة على نفسه. كسولاً لا تحرّكه قضيّته العادلة. راح يُفتّش عمّنْ يعاقبه. عمّنْ يقول له أنتَ نذْل. عمّن يشجّ رأسه، وينتف لحيته، وحتّى أنْ ينفخها في وجهه، ويجرّه من أنفه جرَّ الدواب، أو أنّه قارن نفسه بها، أو أنّه انحطّ إلى مرتبتها. لا يخفى، إنّ النذالة وشجّ الرأس والجرّ من الأنف إنما هي ثلاث مراحل كبيره يمرّ بها هاملت بلمح البصر.
النذالة إيذاء معنوي. شجّ الرأس إيذاء جسدي. وجر الأنف عملية مسخ الإنسان إلى حيوان. حين يصل هاملت إلى هذه المرتبة من الحيوانية يفقد اللغة المهذبة. راح يكيل إلى عمّه أقذع الشتائم:"يا للنذل السفّاح الفاسق! يلا ضمير شهواني غدّار غير طبيعي"
هذه الصفات المندلقة متوالية كصراخ متحيّف، كنباح. توالي الصفات يوحي وكأن الشاتم يستحضر المشتوم فيراه قريباً منه. إنّها بلا شكّ شواطُ يأسٍ ناشب. كذا يواصل هاملت كتابة الأبيات التي سيدسّها في المسرحية عندما تمثّل أمام الملك.
"سأجعل هؤلاء الممثلين يؤدّون شيئاً شبيهاً بمقتل أبي
أمام عمّي. سأراقب ملامحه. سأسبره حتّى الصميم. فإذا
جفل بتألّم، عرفتُ كيف أسلك معه."
لكنْ ما أنْ يصل هاملت إلى هذه القناعة، حتى يفاجئنا بشكّ طارئ جديد لا علمَ لنا به من قبل. كيف دخل الوسواس في عقل هاملت، فراح يتشكّك الآن بهوية الشبح. مَنْ يلومه؟ ربما كان شيطاناً، اتخذ شكلاً مُرْضياً حتى يخدعه لقتل إنسان برئ. بهذه الوسيلة جعلنا المؤلف أكثر تحفزاً وأكثر تحرقاً لما سوف يقوم به هاملت. إلاّ أنّ هاملت لا يزيدنا إلاّ فضولاً على فضول، وتحرّقاً على تحرّق، حينما يقول:
" لا بدّ لي من أسباب أكثر إقناعاً من قصّة الشبح"
جعلنا المؤلّف هنا مشدودين لمعرفة تلك الأسباب. جعلنا جزءاً أكيداً من حبكة المسرحيّة. لا يكتفي المؤلف بذلك. ها هو هاملت يدير رؤوسنا، من جديد ولو مؤقّتاً إلى شئ آخر، فيقول وهي الجملة الأخيرة في المناجاة: "في المسرحية سأكتشف ضمير الملك". هذه حيلة فنيّة أخرى لشدّ النظّارة إلى المسرحيّة وجعلهم يلهثون وراء الوقائع، لا سيّما وأنّ المسرحية انتقلت الآن بهذه الوسيلة، من تمثيل ترفيهي على خشبة المسرح، إلى قاعة أشبه ما تكون بمحاكمة يعاد فيها تمثيل خيوط الجريمة. خيطاً خيطاً. لحظة لحظة. أغرب محاكمة. النظّارة شهودها. النظّارة قضاتها.
المناجاة الثالثة
هاملت: نعمْ إذن. مع السلامة. والآن أنا وحدي.
يا لي من مشرّد عاطل. ومن فلاحٍ قنّ لا أملك حرّيتي
ألمْ يكنْ تصرّفي غير طبيعيّ ، وأنّ هذا الممثّل هنا
في الخيال فقط، في الحزن الناجم من حادثة متصوّرة،
يجبر روحه لتكون طوع خياله، فيصفرّ
وجهه كلّه من عمل تلك الروح، والدموع في عينيه
والانشداه في نظرته، وصوته ممرود، وكلّ قواه
الجسديّة تستجيب بتعابير جسديّة تتلاءم مع تلك
التصوّرات الموهومة. وكلّ ذلك للا شئ!
من أجل هيكوبه
ماذا تعني هيكوبه له، أو هو لها حتّى يبكي من أجلها
ما الذي سيفعله لو كان لديه
الباعث والحافز على الألم كما هما لديّ؟
قد يُغرِقُ خشبة المسرح بالدموع، ويمزّق سمع الجمهور
بكلام مرعب، ويجعل المذنبَ مجنوناً، ووجوه
الأبرياء صفراً، ويشده الجهلة، وبالتأكيد يربك
وظائف العيون والآذان بالذات
مع ذلك فأنا الوغد البليد الروح، أحلم بكسل،
لا تحرّكني للعمل قضيّتي العادلة، ولا يمكنني
انْ اقول شيئاً. - لا، لا من أجل مُلك،
قاموا بإزهاق أعزّ ما يملِك: حياته. أجبان أنا؟
مَنْ هذا الذي سيدعوني نذلاً، ويشجّ رأسي، وينتف
لحيتي وينفخها في وجهي، ويجرّني من انفي، ويدعوني
كاذباً إلى الحنجرة، وأبلع الإهانة حتّى الرئة. مَنْ يقوم
بذلك لي؟
عجباً!
بربّي سأقبل بتلك الإهانات، لأني وديع كحمامة بلا مِرّة (9)
يا لَلْثأر
يا لي من أبله. هذا عرض مسرحيّ رائع!
إذْ أنا ابن الأب العزيز الذي قُتِل، محثوثاً على
الثأر من قبل الجنّة والجحيم ثُمّ أٌفرِغ ما بقلبي
_ كالمومس - بكلمات واُنْزل اللعنات كالمومس بالذات
خادم وضيع! تبّاً! تُفْ
واصل يافكري كتابة الأبيات للمسرحيّة
تعساً لقد سمعتُ أن المخلوقات المجرمة الحاضرة في المسرح
تُصاب بذعر إلى أعماق الروح، بفعل براعة التمثيل،
لدرجة أنّهم على الفور يفشون أعمالهم الشرّيرة
فالجريمة وإنْ لم يكنْ لها لسان
ستتكلّم بصوت هو من أكثر الأصوات إعجازاً.
سأجعل هؤلاء الممثلين يؤدّون شيئاً شبيهاً بمقتل أبي
أمام عمّي. سأراقب ملامحه، سأسبره حتّى الصميم. فإذا
جفل بتألّم، عرفت كيف أسلك معه. قد يكون الشبح
الذي رأيته شيطاناً، وللشيطان قدرة على أن يتخذ
شكلاً مرضياً، بلى، وربّما بسبب ضعفي وكآبتي