عالم الأدب

جماليات التزييف في الثقافة الكولونيالية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

... والمرويات الكبرى

إن مفهوم المرويات الكبرى (grand narratives)، أو السرديات الكبرى، يشير الى طبيعة العلاقة الجدلية بين العقل من جهة والواقع الموضوعي من جهة اخرى. وهو مفهوم ذو طبيعة أيديولوجية تاريخية تشير دلالاته الى محصلة التصورات و المفاهيم والانماط المعرفية التي تتشكل داخل الوعي الثقافي لمجتمع ما أو امة من الامم و التي تعكس تصور ذلك المجتمع أو الامة لواقع معين بمظهريه المادي و التاريخي، أي على مستوى المكان أو الزمان أو كليهما معا. وتتسلل المرويات الكبرى الى الوعي الثقافي الجمعي لتصبح عبر سلسلة من التراكمات أشبه بالمعرفة القبلية التي توجه وتقود الوعي الثقافي و الحضاري لامة ما. ويستند مفهوم المرويات الكبرى الى فرضية تقوم على "انتفاء امكانية تحديد الواقع خارج اطار التخييل، و التأريخ خارج اطار السرد"(1).
ولضبط تداول المصطلح وتجنب الخلط والضبابية، يبدو مصطلح المرويات الكبرى أفضل من السرديات الكبرى او الشمولية، لأرتباط مصطلح السرديات بالممارسات النقدية البنيوية في حقل دراسة النصوص السردية، ولأرتباط مصطلح السردية في ذهن القارىء العربي بالنصوص السردية الروائية والقصصية المتخيلة.
ولقد أسس كتاب الناقد الفلسطيني ادوارد سعيد الأستشراق (1978) بدايات الموقف النقدي المتشكك من المرويات الكبرى التي شاعت في ظل الثقافة الكولونيالية في الغرب. وفي مقدمته المتميزة للطبعة العربية من كتاب ادوارد سعيد الموسوم الثقافة والامبريالية (1993) أورد الناقد كمال أبو ديب، مترجم الكتاب الى العربية، تعريفا مفصلا لمفهوم المرويات الكبرى كما أستخدمها سعيد في منظومته النقدية و المفاهيمية:
" السرد، في السياق الجديد، هو تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، و تندغم فيه أهواء، وتحيزات، وأفتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات، وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه. كما يصوغها بقوة وفاعلية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وأنهاج تأويله له. ومن هذا الخليط العجيب، تنسج حكاية هي تأريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقي التأريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لانفسهم وللأخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تأريخيا. و تدخل في هذه الحكاية، أو السردية، مكونات الدين، واللغة، والعرق، والاساطير، والخبرة الشعبية، وكل ما تهتز له جوانب النفس المتخيلة."(2)

وحسب توصيف أبو ديب للمرويات الكبرى، نجد أنها قد تتسع لتشمل تأريخ امة بأكمله وقد تصبح تلك المرويات هي االبعد المعنوي لوجود الامة المادي و التاريخي. وبالتالي فأن المرويات الكبرى تكتسب أهمية كبيرة في الصراع السياسي و العسكري و الثقافي بين الامم التي تسعى لفرض هيمنتها على أمم أخرى، أو تلك التي تناضل من أجل التحرر من هيمنة القوى المستعمرة(بكسر الميم).
وترجع الجذور الفلسفية لمفهوم المرويات الكبرى الى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، أي الى حقبة التحولات الفلسفية الكبرى و التي أبتدات مع ظهور كتابات الفيلسوف الألماني عمانوئيل كنت(1724-1804). حيث شكلت اعمال هذا الفيلسوف بدايات ظهور الموقف النقدي في الفلسفة الحديثة والذي زعزع اركان الفلسفة الوثوقية التقليدية و القائلة بالانسجام بين العقل و العالم الخارجي. ويشير الباحث هنري ايكن في كتابه عصر الأيديولوجيا الى مدى الانقلاب الذي حققته أعمال(كنت) في تأرخ الفلسفة الحديثة:
" منذ(كنت) أعتبر وثوقيا غير نقدي، الافتراض القائل بالانسجام المسبق بين العقل و موضوعه. فاذا كانت العلة في الاشياء هي نفسها العلة التي نقرها كمقياس للتفكير الصحيح في أي موضوع، فما ذلك الا لاننا نحن أنفسنا قد عينا مسبقا الشروط التي يجب أن تتوفر في أي موضوع اذا كان له أن نعتبره (واقعا). وبأختصار، فالذات المفكرة نفسها هي التي تعين مقاييس الموضوعية. وكما وضع شوبنهور المسألة بشكل مضلل: اذا لم يكن العالم (فكرتي)، فهو على كل حال ليس حقيقيا بالنسبة الينا الا الى المدى الذي يتطابق به مع مفهومنا الخاص عما يجب أن يكون عليه أي شيء واقعي."(3)

ومع توالي أعمال فلاسفة القرن التاسع عشر أمثال فيخته وهيجل وشوبنهور وماركس ونيتشه وكيركغارد وماخ، تحول مفهوم الواقع من وجود خارجي مستقل يحاول العقل ومن خلال الحواس و التأمل الاحاطه به و فهمه الى كيان متخيل ينشئه الوعي وفق تصوراته الخاصة. أي أن الموضوعية صارت " تفهم على انها الأتفاق بين الذوات (inter-subjectivity) ومعايير هذه المحصلة لايقبلها أعضاء مجتمع ما لأنها موضوعية. بل ان هذه المعايير تغدو، أخيرا موضوعية، بعد أن يجمعوا على قبولها"(4). وبذلك ظهر مفهوم الأيديولوجيا ليحل محل الفلسفة التقليدية في القرن التاسع عشر، وليتحول الجهد الفلسفي من محاولة فهم و وصف الواقع الموضوعي الخارجي الى دراسة الكيفيات التي ينتج من خلالها الوعي صوره عن الواقع. و مع هذا التحول نزلت الفلسفة من مداراتها الميتافيزيقية المتعالية الى الحقيقة ذات البعد الثقافي و الاجتماعي. حيث أن مفهوم الايديولوجيا هو ليس مفهوما مثاليا ولا متعاليا بل هو ذو جذور اجتماعية وتأريخية ترتبط بالنمط الثقافي أرتباطا وثيقا. ويؤكد العالم اللغوي البارز فان دايك على البعد الثقافي للايديولوجيا في كتابه الايديولوجيا، حيث يرى بأن ذلك الاجماع بين الذوات على ما يتعارف عليه على أنه حقيقة موضوعية يشكل، ما يدعوه، " بالثقافة السوسيولوجية" (socio-cultural). وتتكون هذه الثقافة السوسيولوجية من مايعرف ب" الذاكرة الدلالية" للمجتمع أو الامة. وهي دلالية لأنها تربط الأشياء في الواقع بدلالات معينة ومحددة بدون شرط تحقق الانسجام بين تلك الدلالات وبين الأشياء في الواقع كما هي عليه في ذاتها(5). وتصبح تلك الدلالات الأساس المعرفي لجميع نتاجات الوعي الجمعي فيما بعد وتهيمن على المنظومة المعرفية للأمة. وياتي وصف ماكس فيبر لتحول الفلسفة من بحث في اشكالية المعرفة الى صراع الدلالات على قدر كبير من الدقة:
" ان قدر حقبة اكلت من شجرة المعرفة هو الاعتراف بأن مواقفنا من الحياة و الكون ليست أبدا نتاج تعاظم معرفتنا التجريبية، وان أرفع المثل العليا الأشد تحريكا لنا انما تتشكل فقط في الصراع مع مثل أخرى مختلفة، هي مقدسة عنمد الاخرين، تماما كما هي مثلنا بالنسبة لنا"(6)

ورغم أن القرن التاسع عشر شهد ظهور الفلسفات النقدية و التشكيكية، الا أن المرويات الكبرى أستمرت في هيمنتها على الثقافة الغربية وامتدت في تأثيراتها الى ثقافات انسانية اخرى. فما الفلسفات الليبرالية و الاشتراكية والشيوعية والقومية الا أنماط حديثة من مرويات ذات طبيعة شمولية تحاول من اجل اثبات ذاتها ان تنفي صحة المرويات الاخرى و تبطل فاعليتها داخل الثقافة السوسيولوجية. ان القرن العشرين كان، وبحق، قرن التنازع و التناحر الدموي بين ثقافات تبنت مروياتها الكبرى على أساس فهمها لما يجب ان يكون عليه الواقع السياسي و الاجتماعي و الثقافي لمجتمعاتها. ولم تكتفي بعض المجتمعات بتبني مرويات شمولية معينة، بل وحاولت تصديرها وفرضها بالاقناع وبالقوة على مجتمعات اخرى مغايرة و متباينة في الثقافة و البعد التأريخي والسوسيولوجي. كما أن نقل تلك المرويات الى المجتمعات الاخرى غالبا مااتخذ كغطاء ثقافي وأنساني لفرض الهيمنة العسكريةوالاقتصادية والسياسية على البلدان الاضعف من الناحية العسكرية و السياسية والاغنى من حيث الثروات الطبيعية. ولعل تزايد النشاطات الاستعمارية وتفجر الحربين العالميتين وسباق التسلح النووي خير دليل على ذلك. ومن هنا يتضح لنا ما للمرويات الكبرى من أهمية في المجتمعات الأنسانية، حيث أنها تصبح مركزا لصراع القوى و الهيمنة، كما أنها ثؤثر في جميع أوجه الفاعليات الثقافية من أدب و فن وموسيقى وأعلام و ثقافة شعبية. وبأختصار، فأن المرويات الكبرى لها القدرة على اعادة صياغة نمط الحياة و بشكل شمولي في أي مجتمع انساني، سواء أكان قديم ام حديث.
ولم يتعرض مفهوم المرويات الكبرى لمحاولات التفكيك الا مع ظهور حركة مابعد الحداثة في نهاية الستينيات من القرن العشرين. حيث أصبح " التشظي، وغياب التحديد، والشك العميق في كل الخطابات الشمولية و(الكلية)(كما باتت تستعمل) هي العلامة الفارقة للتفكير مابعد الحداثي"(7). وهكذا فأن فاعلية تفكيك المرويات الكبرى ذات الطبيعة الشمولية باتت تحتل موقع الصدارة في نشاط الحركة مابعد الحداثية. لقد رفضت تلك الحركة هيمنة أي من المرويات الكبرى بأعتبارها تمتلك فاعلية في قراءة التأريخ وتفسيرة وقادرة علىأن تقدم حلا لجميع مشاكل المجتمع الحديث و أن ترسم طريق امن نحو مستقبل يتسم بالعدالة و الحرية. أن التجارب السياسية و العسكرية الدموية و المؤلمة التي مرت بها الانسانية في القرنين التاسع عشر و العشرين، و كل جرائم الابادة الجماعية و التهجير و الاضطهاد الجسدي و الفكري، انما تمت باسم أحدى المرويات الكبرى الثقافية. أن حركة مابعد الحداثة تطرح نفسها كرد فعل على المستوى الفكري والادبي والفني والشعبي ضد الاضطهاد والقتل و العنف الذي تم تحت شعارات و مسميات كبرى أدعت لنفسها أمكانية احتكار الحقيقة وسلطة تهميش الاخر. ولعلنا نستطيع أن نجد ارهاصات للحركة المابعد حداثية في الحركات الفنية و الادبية التي ظهرت في الثلث الاول من القرن الماضي، مثل السريالية و الدادائية وأدب العبث و مسرح الامعقول.
غير أن حركة مابعد الحداثة كانت قد أكتسبت طابعا ثقافيا متماسكا افتقرت اليه تلك الحركات الفنية و الادبية، وذلك لظهور فلاسفة و مفكرين ونقاد وعلماء نفس ولغويين أمثال جاك دريدا وميشيل فوكو وتزفتان تودوروف وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وغيرهم. فقد أغنت اعمال هؤلاء الباحثين الحركة بدراسات طالت جميع نواحي الحياة الثقافية، وأستطاعت ان تؤثر تأثيرا كبيرا على نمط الثقافة السائدة. فقد وسعت من مفهوم الأدب كما يدرس في أقسام الادب في الجامعات الغربية الكبرى ليشمل الادب الشعبي والقصص المصورة و الاغاني و حتى النكات العامية(8). كما انها ادت الى ظهور حركات اجتماعية وثقافية معارضة مثل الحركة النسوية و حركة الزنوج. وأعادت النظر في مفاهيم كانت تبدو قارة في الثقافة الغربية، مثل الهوية والاخر والاقليات والجنس والعرق والثقافة المحلية والثقافة العالمية.
أن تفكيك المرويات ذات الطابع الشمولي يعتبر خطوة حتمية في سعى حركة مابعد الحداثة الى رفض الثقافة الغربية الليبرالية وفضح ماتدعيه تلك الثقافة من عقلانية زائفة و محاربة نزعة الهيمنة و الشمولية الانسانية التي تحاول تلك الثقافة ان تدعيها. فهي حركة تنفتح على الاخر و تؤمن بالتعدد والتنوع وتتسع لتستوعب جميع الثقافات الانسانية كما هي عليه،لا كما تحاول ان تعيد هي بناءه.
ويشير ديفيد هارفي في كتابه حالة ما بعد الحداثة: بحث في اصول التغيير الثقافي الى جملة من التطورات الفكرية التي قادت حركة مابعد الحداثة الى السير بهذا الاتجاه: "ان اعادة اكتشاف البراغماتية في الفلسفة، والنقلة في افكار فلسفة العلوم التي جلبها كوهن وفايرباند، وتاكيد فوكو على الانقطاعات والاختلافات التي تحكم التاريخ، وتفضيله العلاقات المتبادلة متعددة الاشكال (polymorphous) بديلا لمبدا العلية البسيط او المعقد، والتطورات الجديدة في الرياضيات التي تشدد على اللا تحديد (نظرية الكارثة والخواء، وهندسة التشظي (fractal)، وبعث الاهتمام من جديد في الاخلاق والسياسة والانثربولوجيا بمشروعية الاخر وكرامته، انما تشير كلها الى نقلة كبيرة وحاسمة في بنية المشاعر. ما يجمع هذه التحولات جميعها هو رفض (ماوراء الرواية) (meta-narratives) (اي التفسيرات النظرية ذات الحجم الكبير والتي تنطوي على تطبيقات شاملة) "(9)

ان نزعة تفكيك المرويات الكبرى ذات الطبيعة الشمولية المطلقة ومحاولة أختراق تنميطات السلطة ذات الطبيعة المتعالية سياسيا وأقتصاديا وأنسانيا وتاريخيا، أثار اهتمام نقاد مابعد الحداثة بالدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية. كان الاهتمام منصبا على استخدام تلك الدراسات و الكتابات كأستشهادات وأمثلة لدعم الاسس النظرية التي يطرحها نقاد تلك الحركة. غير أن هذه الدراسات سرعان ما تراكمت كما ونوعا لتشكل حقلا معرفيا و دراسيا مستقلا وقائما بذاته، وأن كان، من الناحية التاريخية على الاقل، مازال يعتبر منضويا تحت خيمة ما بعد الحداثة الواسعة. ولقد أتسع حقل الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية ليشمل بتأثيراته النظرية و التطبيقية التأريخ الحديث و الدراسات الثقافية والنقد الادبي والنظرية النقدية و حتى نظريات الاقتصاد السياسي.وقد قام نقاد الكولونيالية ومابعد الكولونيالية بجهود بحثية كبيرة و جادة لاعادة قراءة النصوص الادبية و الثقافية في ضوء علاقات القوة و الهيمنة التي شهدتها الحقبة الاستعمارية والتي امتدت من القرن الخامس عشر الى النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا. وأستمرت الدراسات لتشمل فترة مابعد الكولونيالية، وهي فترة نجاح حركات التحرر الوطني وقيام الدولة الوطنية المستقلة في البلدان التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية. ومن ذلك التوصيف العام تتضح المساحات الواسعة التي تتعامل معها هذه الدراسات، فهي تأخذ بعين الاعتبار جميع الكتابات و الانماط الثقافية و الاجتماعية التي ظهرت بتأثير من النشاط الاستعماري للدول الغربية، سواء تلك المؤيدة أم المعارضة. وتنطلق هذه الدراسات من نفي الفرضية المثالية القائلة بأستقلالية الاعمال الادبية و الفنية و الجمالية عن المؤثرات الاجتماعية والسياسية والتاريخية بشكل عام. حيث تذهب الى أن جميع أشكال ومظاهر الوعي البشري مرتبطة وبشكل جوهري بالظروف التاريخية و الاجتماعية المحيطة و المنتجة لذلك الوعي. ويظهر واضحا تأثير الماركسية على هذه النظرية من زاوية الايمان بأسبقية الوجود على الوعي، وخضوع ذلك الوعي في تشكله و ممارساته الى أشتراطات الحتمية التأريخية. الا ان الدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية تنقل مفهوم الصراع من وسطه الاجتماعي الطبقي، كما هو في الفكر الماركسي، الى نطاق أممي أوسع وأكبر. حيث يصبح الصراع بين الدول المستعمرة (بكسر الميم) والدول المستعمرة (بفتح الميم). غير أن جوهر الصراع يبقى واحدا، وهو فرض الهيمنة والاستغلال والاستعباد وتثبيت علاقات التبعية الاقتصادية و السياسية والاجتماعية والثقافية. أن واقع الصراع في بعديه المكاني والزماني يطبع النشاطات الثقافية بطابعه المهيمن. ويؤكد أدوارد سعيد على اننا:
" ينبغي أن نأخذ بالاعتبار التفاوت اللجوج المستمر في القوة بين الغرب وغير الغرب اذا اردنا أن نفهم فهما دقيقا أشكالا ثقافية كالرواية، والانشاء العرقغرافي والتاريخي، وبعض انماط الشعر والمغناة، حيث تكثر الالماعات الى هذا التفاوت وتكثر البنى القائمة عليه. ولقد مضيت لاحتج بأنه حين تتلاقى دوائر ثقافية مثل الادب والنظرية النقدية، يفترض انها حيادية. متكأكئة فوق ثقافة اضعف أو منضوية وتؤولها بأستخدام افكار عن جواهر غير اوروبية وأوروبية لا متغيرة، وعن سرديات حول التملك الجغرافي، وصور الشرعية والخلاص، فأن العواقب الصادمة كانت وماتزال هي تقنيع موقف القوة وأخفاء مدى تقاطع تجربة الطرف الاقوى مع الاضعف واعتمادها عليه، بكل ما في ذلك من غرابة"(10)

إن سعيد يضع يده هنا، وأن بصورة عرضية، على الغاية النهائية للدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية، ألا وهي رفع الاقنعة المزيفة من على وجه الثقافة الامبريالية وكشف مدى الزيف والمراوغة اللتان تنطوي عليهما الافكار العقلانية والتنويرية والنزعة الانسانية المخادعة والتي تحاول الثقافة الامبريالية تقديمها بوصفها الواجهة البراقة للوعي الجمعي الغربي. وبشكل أكثر تحديدا، فأن غاية تلك الدراسات هي تفكيك المرويات الشمولية الكبرى التي انتجتها الثقافة الامبريالية و فضح جماليات تزييف الواقع وتنميطه.
وتشير الادلة التاريخية الى أن تلك المرويات الكبرى كانت قد انطلقت مع بدء الحملات الاستكشافية والاستعمارية الاوروبية، والتي تجسدت بشكل أكثر وضوحا من خلال اكتشاف كولومبوس لقارة أمريكا عن طريق المصادفة أثناء محاولته أكتشاف طريق بحري يوصل الى الهند بدون الاتجاه شرقا عام (1492). لم تكن تلك الاراضي المكتشفة حديثا خالية من السكان، بل كانت ماهولة من قبل السكان المحليين. أن هذه الحقيقة شكلت عقبة ذات طبيعة مادية ومعنوية في الوقت ذاته أمام البعثات الاستكشافية الاستعمارية، واثارت أشكاليات تتعلق بدلالات مصطلح الاستكشاف الجغرافي للارض المسكونة من قبل أناس محليين وملكية الارض و الهوية وحق التصرف في الموجودات من طبيعة وممتلكات وبشر. ومن هنا انبثقت بدايات الازمة الاخلاقية و الثقافية والتي واجهتها الثقافة الغربية عن محاولتهم اقامة حضارة جديدة على أرض مستوطنة من قبل سكان محليين.(11).
وفي كتابه الموسوم المواجهات الاستعمارية: أوروبا والسكان الكاريبين المحليين 1492-1797، يشير الباحث بيتر هولم الى أن المرويات الكبرى الني تشكلت مبكرا في القرنين الخامس عشر و السادس عشر كانت تعكس محاولة الاوروبيين المستعمرين لتكوين صورة نمطية عن السكان المحليين أعتمادا على القصص و الاساطير والمبالغات والخرافات التي تناقلها البحارة وعادوا بها الى اوطانهم. وقد بقيت تلك المرويات فاعلة في الوعي الغربي ةبعيدة عن المسألة والتحقق الموضوعي حتى يومنا هذا. ولم يخلو هذا التنميط من قصدية ذات دوافع كولونيالية عدائية. فقد نجحت المرويات الكبرى في تقديم السكان المحليين أو الاصلانيين بصورة تجمعات بشرية وقبائل همجية وبدائية، معظمهم من اكلي لحوم البشر ولا يكادوا يمتوا بصلة للروح الانسانية المتحضرة ولا للاخلاق المسيحية(12).
أن هذا التنميط لطبيعة حياة السكان المحليين الاصلانيين و محاولات تزييف الواقع التي تمت من خلال الاصرار على نفي وجود أي نوع من أنواع الحضارة الانسانية عنهم لم يكن بريئا و لا محايدا. فقد كانت أشاعة مثل تلك الصور ونشر مجموعة من المرويات التي يختلط فيها الواقع بالخيال في البلد الاوروبي الام وبين أفراد المجتمع الاوروبي المسيحي على قدر كبير من الاهمية. أن عمليات التزييف الثقافية التي قام بها المستعمرون كانت تهدف في الاساس الى تجاوز الازمة الاخلاقية والثقافية التي قد تنجم عن عمليات الابادة الجماعية و القتل المنظم والتشريد والتهجير التي مارسها هؤلاء المستعمرون ضد السكان المحليين. فقد وضعت المرويات المبكرة عن همجية وبربرية الاقوام المستوطنة في الاراضي المكتشفة حديثا تلك الاقوام خارج دائرة الانسانية المتحضرة وبعيدا عن رحمة الرب المسيحي، كون تلك الاقوام هم من عبدة الاوثان و الارواح الشريرة و الشيطان. وبالتالي فأن عمليات القتل والابادة الجماعية لم يكن ينظر لها على انها جريمة بشعة ولم تثر اي تحفظات اخلاقية أو اي نوع من الشعور بالذنب داخل المجتمع الاوروبي المتحضر أو في ثقافته الانسانية وأخلاقه المسيحية الصادقة. لقد قامت جميع المرويات الكولونيالية الكبرى التي ظهرت منذ القرن السادس عشر على اساس خطاب فكري وحضاري واحد. وفي هذا الصدد يؤكد سعيد: "واللافت في هذه الانشاءات هو الصور المجازية التي يواجهها المرء باستمرار في أوصافها ل(الشرق السري) اضافة الى التنميطات التي تخلقها ل(العقل) الافريقي (أو الهندي أو الايرلندي أو الجمايكي أو الصيني)، والمفاهيم التي تدور حول ايصال الحضارة الى شعوب بدائية أو بربرية، والافكار المألوفة االى درجة الازعاج حول أقتضاء الجلد بالسياط أو الموت أو العقوبة المسرفة حين يسيئون (هم) السلوك أو يتمردون، لأن(هم) في الاغلب، يفهمون أفضل فهم لغة القوة والعنف، ف(هم) ليسوا مثل(نا) وهم لهذا السبب يستحقون أن يحكموا."(13).

إن مهمة المستعمرين الاوروبيين صار ينظر اليها على أنها عمل أخلاقي وديني تبشيري و بطولي. وفي نوع من أنواع التزييف الثقافي، قدم المستعمرون أنفسهم على انهم يسعون لنقل الحضارة والتمدن و الانسانية الى هؤلاء السكان المحلييون. ووضع الاوروبيون انفسهم في موقع اعلى انسانيا وصاروا ينظرون الىتلك الاقوام نظرة دونية اعطتهم الحق في فرض أنفسهم أوصياء على أصحاب الارض الاصليين. وصار العنف الذي يمارسوه عليهم مبررا من النواحي الاخلاقية و الدينية و الانسانية.
كان البحارة الاوائل الاسبان والبرتغاليون والانجليز والفرنسيون ينظر اليهم على انهم مغامرون شجعان وفاتحون يحملون معهم ارثهم الحضاري والثقافي الى اراضي مازالت خارج مملكة الله، وبناة لعالم جديد تتحقق فيه كل قيم العدالة الالهية والتحضر والمدنية. لقد انطلق هؤلاء المستكشفون المستعمرون بحثا عن حلم ولم يكونوا ليدعوا مجموعات من القبائل المحلية تفسد عليهم حلمهم الذي تحقق فجاءة. وجاءت تلك المرويات الكبرى التي انتشرت في الوطن الام لتجعل من كل عمليات القتل والابادة والتدمير افعالا بطولية ذات دوافع اخلاقية وحضارية عالية.

لقد شهد القرن التاسع عشر أوج النشاط الاستعماري الكولونيالي، وفيما كانت بريطانيا العظمى تخسر مستعماراتها في امريكا، كان التوسع البريطاني في شبه القارة الهندية وقارة افريقيا يشهد اعلى معدلاته(14). وكان التوغل الاوروبي في القارة الافريقية يسعى الى الاستفادة من الثروات الطبيعية الهائلة التي تنعم بها هذه القارة السوداء وتوفير الايدي العاملة الازمة لبناء العالم الجديد في أمريكا عبر تجارة الرقيق. ومن المفارقة أن هذا القرن بالذات شهد أزدهار الحركات الفكرية و الاجتماعية والسياسية التي تقوم على أساس الافكار الليبرالية والعقلانية والتنويرية. فقد انتشرت تعاليم الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو(1712- 1778) وجاءت الثورة الفرنسية في اواخر القرن الثامن عشر بشعار (الحرية، المساواة، الاخوة)، وأنتشرت في بريطانيا العظمى كتابات فلاسفة مابعد التنوير أمثال جون لوك(1632-1704) و ديفيد هيوم (1711-1776) و وليم غدوين(1756- 1838) الداعية الى اقامة مجتمع جديد ينبذ التمايز الطبقي ويحترم الحرية الفردية ويقوم على أساس عقد أجتماعي ذو نزعة عقلية وأنسانية شمولية. غير ان هذا العقل الاوروبي الجديد وقع في تناقضات حادة وهو يواجه اشكاليات تتعلق بالممارسات الاستعمارية لحكوماته الجديدة والموقف من تجارة الرقيق. وهكذا فقد أصبحت للحرية والليبرالية حدود جغرافية لا يجب أن تتجاوزها، وكانت تلك هي حدود القارة الاوروبية التي يسكنها الانسان الابيض المتحضر والمتمدن. أما خارج هذه القارة البيضاء فأن الخطاب الذي يجب ان يسود هو خطاب العبودية والتمييز العنصري والاستعلاء الثقافي والحضاري والعنف. لم تكن النخب المثقفة الاوروبية في تلك الفترة التاريخية لتستطيع مواجهة التحديات التي تفرضها شروط تطبيق افكارها الانسانية خارج حدود قارتها. فقد كان ذلك يعني التخلي عن الثروات الطبيعية و الموارد البشرية الازمة لبقاء وأزدهار النمط الاقتصادي الرأسمالي، والذي كان قد وصل الى اعلى مستوياته في ظل السياسات الامبريالية، وكان ذلك ليعني أنهيار دولة الرفاهية والمجتمع البرجوازي. لم يكن الخيار أخلاقيا او فلسفيا بل كان في حقيقته اقتصاديا وسياسيا مجردا. يشير الناقد مابعد الكولونيالي البارز هومي بابا الى أن الفكر الاوروبي الانساني التنويري لم يكن الاليكشف عن مفارقة ساخرة اذا ما وضع في السياق الكلونيالي لتلك الحقبة(15).
ولم يكن الامر يقتصر على التجاهل واللامبالاة في مواقف الطبقة المثقفة الاوروبية من قضايا التوسع الاستعماري و النشاط الكولونيالي وما رافقه من افعال لا أنسانية، بل أن البعض ساهم في انتشار انماط من المرويات الكبرى التي تزييف الواقع المحلي للبلدان المستعمرة. فمن مظاهر الخلط الثقافي ماشاع بين اكبر روائيي فرنسا أمثال فلوبير ونيرفال وريتشاردبورتن في ا عتمادهم لكتاب ادوارد وليم لين العادات والازياء في مصر الحديثة مصدرا اساسيا في انشاء تصوراتهم عن المنطقة العربية بصورة عامة. فقد اقتبس نيرفال عدة صفحات من هذا الكتاب في وصفه لمشاهد روائية لقرية سورية(16). وقد ظهر هذا الخلط الثقافي الذي يفتقر الى التحقق العلمي والموضوعي في أعمال فلاسفة ومفكرين وأدباء أوروبيون كبار مثل رينان وساسي ولامارتين وشليغل. وهكذا فقد ساهمت كتابات هؤلاء الادباء والمفكرين الكبار في نسج سرديات كبرى وتنميطات تسربت الى الوعي الثقافي للحضارة الغربية واستقرت بأعتبارها صور تعكس واقع الحضارة الشرقية، وتراكمت عبر فترات زمنية طويلة حتى شكلت منظومة معرفية متكاملة ذات مرجعية معتمدة ومتعالية على النقد، يتم فهم ودراسة كل القضايا المتعلقة بالشرق من خلالها. ولا تجدي نفعا كل الادلة التاريخية والواقعية والعلمية التي تثبت وبشكل قاطع خطأ تصورات ومفاهيم تلك المنظومة المعرفية. كما اصبح من الصعب جدا تقويض تلك المرويات الكبرى والتي تراكمت ونمت منذ نهاية القرن الثامن عشر والى هذه اللحظة. ولعل خير دليل على ذلك صورة الشرق والشرقيين في السينما الامريكية المعاصرة. ورغم تطور وسائل الاتصال العالمية واتساع عالم الصورة المرئية، مازال المواطن الاوروبي والامريكي خاضعا لهيمنة التصورات النمطية المشوهة عن تلك الثقافات المغايرة والواقعة على الجانب الاخر من العالم. أن القصدية في الابقاء على فاعلية تلك المفاهيم والتصورات النمطية وتاثير القوى السياسية والاقتصادية في توجيهها وأستثمارها ايديولوجيا اصبح اوضح من ان يحتاج الى شرح أو تعليق.
ومن الامثلة الحية على تلك التنميطات التي تنتجها المرويات الكبرى صورة قارة أفريقيا في المخيلة الثقافية الاوروبية. حيث تظهر أفريقيا بصورة القارة السوداء المخيفة بغاباتها الكثيفة المظلمة وبشرة سكانها السوداء، والممارسات والطقوس السحرية المخيفة وعبادة الارواح واكلة لحوم البشر. وقد قام الروائي جوزيف كونراد في روايته الشهيرة قلب الظلام برصد المرويات الكبرى والاساطير التي تراكمت داخل الثقافة الاوروبية لتخلق اسطورة أفريقيا السوداء والتي ماتزال تمارس حضورها المؤثر الى الان. ولم تتخلى الثقافة الاوروبية عن نظرتها الدونية لكل مايمت لتلك القارة من ثقافة وحضارة وتأريخ. حيث أشارت الباحثة سوزان باسنيت الى تجربة البروفيسور الافريقي وول شونيكا في جامعة كامبرج البريطانية المرموقة في السبعينيات من القرن الماضي، والتي أوردها في كتابه الأسطورة والأدب والعالم الافريقي. فقد رفضت تلك الجامعة الشهيرة السماح للبروفيسور سونيكا بالقاء محاضرات عن الأدب الأفريقي في قسم الأدب الانكليزي، وقد احيل بدلا من ذلك القسم الى قسم الانثروبولوجيا. كان السبب في ذلك هو عدم قناعة تلك المؤسسة العلمية البريطانية في ان السكان الافارقة قادرون على أنتاج أدب رفيع يمكن أن يدرس جنبا الى جنب مع الاداب الاوروبية. ويشير سونيكا الى أن هذه الاشكالية امتدت الى داخل الجامعات الفريقية نفسها، حيث أحتار القائمون على تأسيس تلك الجامعات في كيفية تصنيف الاداب الافريقية المحلية. وكان سبب تلك الاشكالية يكمن في حقيقة ان الجامعات الافريقية كانت قد انشأت على غرار النموذج الاكاديمي الاوروبي، ومعظم الاساتذة فيها قد درسوا أو تدربوا في الجامعات الاوروبية(17). وفيما يخص النشاط الكولونيالي البريطاني في الهند فان: "المحافل التي اقيمت لنائب الملكة فكتوريا الهندي عام 1876 تتظاهر بأن الحكم البريطاني للهند كان ذا أمتداد اسطوري تقريبا، وقد ادرجت تقاليد الخدمة، والاجلال، والخضوع الهندية في هذه الاحتفالات من اجل خلق صورة لهوية عبرتأريخية لقارة بأكملها مضغوطة في قالب من الانصياع امام صورة لبريطانيا تمثل هويتها- وهي بدورها هوية مشكلة مبتناة- في أنها حكمت ويجب أن تظل أبدا تحكم الامواج والهند معا."(18).

أعتمدت الدول الاستعمارية أستراتيجيات ثقافية لمصادرة تأريخ وثقافة وحضارة الدول المستعمرة(بفتح الميم)، ولا تقل تلك الاستراتيجيات اهمية عن الاستراتيجيات العسكرية والسياسية الكولونيالية التي تبنتها الدول الاستعمارية لفرض همينتها وأحكام سيطرتها على الدول المستعمرة(بفتح الميم). فقد كان الهدف من المرويات الكبرى التي أطلقتها الثقافة الكولونيالية ليس فقط تبرير عمليات القتل و الابادة والتهجير والتشريد التي تقوم بها قواتها العسكرية والسياسية ضد السكان المحليين، فبالاضافة الى ذلك، كانت هناك محاولة مصادرة التاريخ المحلي وتزييفه وربطه، وبشكل قسري، بتأريخ الدولةالمستعمرة(بكسر الميم). كانت مركزية الثقافة الكولونيالية تتمحور حول فكرة تفوق الجنس الابيض البيولوجي والتأريخي وتفوق البناء المؤسساتي والسياسي الاوروبي. لقد رصد المفكر الماركسي هربرت ماركوز ماأطلق عليه(سياسة الافقار الثقافي) التي تتبعها المؤسسات المحافظة في الدول الرأسمالية ضد طبقات الشعب العاملة والفقيرة لضمان أستمرار هيمنتها و تجنب أمكانية قيام ثورة شعبية تحررية يسارية: "كان الافقار في نظرية ماركس يعني قبل كل شيء الحرمان، وعدم تلبية الحاجات الحيوية، وقبل كل شيء الحاجات المادية. وحين لم يعد هذا التصور يمثل شرط الطبقات العاملة في البلدان الصناعية المتقدمة، اعيد تاويله بحيث يغدو حرمانا نسبيا، افقارا ثقافيا بالنسبة الى الثروة الاجتماعيةالمتاحة."(19).

ان مصطلح (الافقار الثقافي) يمكن أن يرحل من دائرة الصراع الطبقي الذي يشير اليه ماركوز، الى مستوى الصراع الكولونيالي بين الامم. لقد كان الافقار الثقافي، ومازال، من اهم استراتيجيات الصراع الثقافي الذي مارسته الدول الامبريالية ضدالثقافات الاخرى الواقعة تحت نطاق هيمنتها. ومع الافقار الثقافي للثقافة المحلية كانت المفاهيم الغربية حول الديمقراطية والعقلانية والتنوير تطرح كافكار من موقع متعالي ثقافيا وماديا وتاريخيا وبطرق واليات تقزم من مفاهيم ومكونات الثقافة المحلية وتنسب اليها كل ماهو على الضد من تلك الافكار الافكار مثل اللاعقلانية واللاتنوير واللاديمقراطية، وبالتالي اللاحضارة. ومن خلال عمليات الافقار الثقافي التي تمارسها الدول الامبريالية، يتم ربط مفهوم الحضارة الانسانية الواعية والمتطورة بالنموذج الديمقراطي الليبرالي الاوروبي وبنمط الانتاج الرأسمالي فقط. وعلى هذا الاساس الايديولوجي يتم رفض وتهميش الثقافة المحلية ووسمها بالدونية والوحشية والبربرية.
وبسبب سياسات تزييف الواقع ومصادرة التاريخ والافقار الثقافي التي اتبعتها الدول الامبريالية خلال الحقبة الكولونيالية، وسعت الى ترسيخها في الوعي الثقافي للفرد الاوروبي، والمواطن الاصلاني كذلك، من خلال المرويات الكبرى الشمولية المتحيزة، قامت ادبيات الحركات التحررية في البلدان التي كانت خاضعة للسيطرة الامبريالية، أكثر من اي شيء اخر، على محاولة استعادة التاريخ المحلي(20). وسعت تلك الادبيات، وبجهد وجدية كبيرة، الى رفض وتفكيك والغاء فاعلية المرويات الكبرى التي روجت لها الثقافة الكولونيالية فيما يخص التاريخ والطبيعة البشرية للبلد المستعمر. أن الحراك السياسي والاقتصادي التحرري الوطني في البلدان المستعمرة (بفتح الميم) كان ليبدو ناقصا بدون حراك ثقافي يعيد انتاج تاريخه الخاص وتشكيل مروياته التي تتناسب مع تاريخه وثقافته وطبيعة الوعي الجمعي الوطني. وهكذا احتلت قضايا مثل الهوية القومية و حق تقرير المصير والاسقلال السياسي والاقتصادي والثقافي وخصوصية التراث الشعبي، مكانا بارزا في جميع ثقافات البلدان المتحررة في الفترة مابعد الكولونيالية. لم يكن كافيا ضمان الاستقلال الوطني السياسي والاقتصادي والعسكري، فقد كان من الضروري ان تتم فكفكة الاستعمار من خلال تفكيك المنظومة الثقافية التي عمل على نسجها عبر سنوات طويلة، وهدم البنية الفكرية لمروياته الكولونيالية. وضمن هذا التصور المابعد كولونيالي ظهرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين كتابات وأعمال ادبية وفنية وفكرية في البلدان المتحررة حديثا تسعى لاستعادة تاريخها الوطني أو لفكفكة البنية الاجتماعية والفكرية والاخلاقية للدول الامبريالية. ولعل أبرز من يمكن ان يرد ذكرهم في هذا السياق الجواهري والسياب والبياتي وأحمد عبد المعطي حجازي وخليل حاوي ومحمود درويش وسهيل ادريس والطيب صالح و وول شوينكا ودريك والكوت وراجا راو ونغوغي وا ثيونغو. والقائمة يمكن ان تطول لتشمل جميع الشعراء والروائيين الذين ظهروا في البلدان التي كانت واقعة تحت الاحتلال الاستعماري أو تلك التي مازالت تعاني الى حد الان من هيمنة الاستعمار الامبريالي.
أن عدم وقوع الثقافات المحلية اسيرة لهيمنة المرويات الكبرى الشمولية للدول الامبريالية ومحاولتها تزييف الواقع لهو أمر على قدر كبير من الاهمية، سواء من الناحية الثقافية او التاريخية. أن البريق الخاطف للعقول الذي يشع من الافكار والفلسفات الغربية الحديثة، مثل التنويرية والعقلانية والليبرالية الديموقراطية، يخفي وراءه الوجه البشع لسياسات تلك الدول. ولقد قامت الحركات اليسارية من داخل المجتمعات الرأسمالية، و حركات ثقافية معارضة اخرى مثل الحركة النسوية والاقليات والزنوج وغيرها، بتعرية وكشف ذلك الوجه البشع للثقافة الراسمالية، هذا بالاضافة الى جهود الثقافات الوطنية في المرحلة المابعد كولونيالية. وما عمليات الابادة و التهجير التي اقترفتها الدول الامبريالية، في القرن العشرين على وجه التحديد، ضد سكان البلدان المستعمرة(بفتح الميم) الا شاهدا تاريخيا وحضاريا على ذلك. فمن مجازر الجزائر وليبا ونيجيريا والكونغو الى عمليات القتل الجماعي في دول المشرق العربي و شبه القارة الهندية والهند الصينية وفيتنام وأندونيسا وحتى دول جنوب امريكا، تسابقت الدول الراسمالية الكبرى لفرض هيمنتها ولحماية مصالحها الكولونيلية بكل الوسائل العسكرية الممكنة، وبغض النظر عن أي اعتبارات دينية أو أخلاقية أو أنسانية أو فلسفية. وكل هذا يكشف بوضوح ان المرويات الكبرى الشمولية للثقافة الكولونيلية ما هي الى محاولات لتزييف الواقع و تحريف التاريخ.

المراجع والمصادر:
1- ادوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ترجمة كمال ابو ديب، دار الاداب، بيروت، ط 2 (1998)، ص 16.
2- المصدر نفسه، ص 16-17
3- هنري ايكن: عصر الايديولوجيا، ترجمة محي الدين صبحي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق (1971)، ص 11.
4- المصدر نفسه، ص 21.
5- Teun A. Van Dijk، Ideology: A Multidisciplinary approach (London: SAGE Publications Ltd.، 1998)، P. 29.
6- مقتبس عن: ديفيد هارفي: حالة ما بعد الحداثة: بحث في اصول التغيير الثقافي، ترجمة د. محمد شيا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1 (2005)، ص 17.
7- المصدر نفسه، ص 24
8- Diane Macdonell، The Theories of Discourse: An Introduction (New York: Basil Blackwell Inc، 1989)، P. 6.
9- ديفيد هارفي: حالة ما بعد الحداثة، ص 24-26
10- ادوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ص 251
11- Susan Bassnett، Comparative Literature: A Critical Introduction (Oxford: Blackwell Publishers، 1993)، P. 70.
12- Peter Hulme، Colonial Encounters: Europe and the Native Caribbean 1492-1797 (London: Routledge، 1986)، PP. 49-50.
13- ادوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ص 57.
14- E. L. Woodward، A History of England (London: Methuen and Co Ltd.، 1971) P. 138.
15- Homi Bha Bha، " Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse" in: Modern Literary Theory، edited by Philip Race and Patricia Waugh (London: Routledge، 1989)، P. 234.
16- Edward W. Said، Orientalism (New York: Vintage Books، 1979)، P. 23.
17- Susan Bassnett، Comparative Literature، P. 73.
18- ادوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ص 17
19- هربرت ماركوز: الثورة والثورة المضادة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الاداب، بيروت، ط 1 (1973)، ص 23.
20- Elleke Boeham: Colonial and Postcolonial Literature (Oxford، New York: Oxford university Press، 1995)، P.224.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف