أحمد بهاء الدين آثر الغياب عن الزمن العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سلوى اللوباني من القاهرة: لا تحتاج الكتابة عن المفكر الراحل "أحمد بهاء الدين" الى مناسبة، ومع ذلك تجدر الاشارة الى إعادة طرح كتاب "أحمد بهاء الدين.. سيرة قومية" بالأسواق، صادر عن دار هلا للتوزيع والنشر ومن تأليف د. مصطفى عبد الغني، ويأتي ظهور الكتاب مرة أخرى بعد سنوات عديدة من نشره لاول مرة، ليثبت بأن ما نحتاج اليه في أيامنا هذه هو فكر بهاء الدين المستنير وكتاباته عن الحرية والعلم، تناول المؤلف فكر بهاء الدين من خلال الواقع العربي الذي عاصره مستخدماً كتاباته المتنوعة، والكتاب سيرة ذاتية بقدر ما هو سيرة قومية بالرغم من إن هذه الدراسة لم تهتم بحياة الكاتب وإن كانت لم تبتعد عنها، فهي تدرس كتاباته وتتفهم رؤيته وتحدد مواقفه، واضطر المؤلف الى مزج الخاص بالعام انطلاقاً من التزام بهاء الدين كمثقف بهمومه ومن ثم انصهاره بها، انصهاراً جعله يرفض الصمت فعاش صراعاً بين ذاته ومأساة الواقع، ليذهب في غيبوبة طويلة وكأنه فضل الغياب عن الزمن العربي، واستمرت غيبوبته من شتاء 1990 الى صيف 1996 لينتقل الى رحمة الله تعالى بعدها، ونذكر هنا إنه من مواليد محافظة أسيوط 11 فبراير 1927.
من الصعب أن تٌختصر سيرة أحمد بهاء الدين سواء الذاتية أو الفكرية في سطور، لذلك فضلت أن ألقي ضوءاً بسيطاً "مما ورد في الكتاب" على بعض من أفكاره ومواقفه الأدبية التي تناولها المؤلف من خلال النشأة والمميزات لدى بهاء، ومشروعه التنويري، بالاضافة الى موقف المثقف العربي من السلطة والقضايا التي تمثل جوهر التجربة القومية، أحمد بهاء الدين هو المثقف الواعي الملتزم بقضايا وطنه، كان يغضب ويستاء ممن ليس له مبدأ في الحياة، ويرتاح لمن يعمل لوطنه إنطلاقاً من ظروف الحياة حوله، تخرج من كلية الحقوق وعمل كموظف في وزارة التربية والتعليم والنيابة الادارية ومجلس الدولة، فلامس عن قرب الاوضاع المتناقضة لتعامل العالم العربي مع النظام الرأسمالي العالمي في تلك الفترة، نما إحساسه بالقضايا العامة وفضل الاتجاه الى الصحافة، وانشغل بتعرفه على الكٌتاب والقضايا المصرية والعربية من خلال مجلة "الفصول"، وتميز في هذه الفترة باطلاعه الكبير "فقد كان يٌشاهد منكباً طيلة ساعات النهار في دار الكتب المصرية، ليعيد قراءة كل الصحف التي صدرت منذ زهاء نصف قرن"، انشغل بالكتابة في القضايا الكثيرة التي تعاني منها المنطقة العربية، حياته كانت حرباً مباشرة ضد الجهل والفقر والمرض، فاقترب من محرمات كثيرة وأثارها في كتاباته، مثل الاشتراكية، الوحدة العربية، وقضايا الاصلاح الزراعي والدعوة الى سياسية الاستقلال الوطني، فهو من أوائل من دعوا الى سياسية بناء القطاع العام، وأول مقالة له بعد تخرجه من الجامعة دعى فيها الى تأميم محصول القطن وتأميم البنك المركزي، تأثر بالتاريخ فقرأ عنه الكثير، فالتاريخ عنده "هو الفرق بين الانسان الواعي وغير الواعي"، كتابات بهاء الدين بشكل عام كانت تشي بقدر كبير من الغضب الا أنها كانت تنزع الى الاعتدال، فكان أقرب الى الاصلاحي الهادئ أكثر منه الى الثوري العنيف، كان يحب التغيير الهادئ الرزين، والجدير بالذكر أن بهاء الدين كان مستقلاً لم ينضم الى أحزاب أو تنظيمات فحظي باحترام وثقة الجميع كصحفي وكاتب ومفكر.
حلل المؤلف الكثير من الخصائص الفكرية لدى بهاء الدين من خلال أعماله ومقالاته المتوالية، وحواراته وخواطره، بالاضافة الى ملاحظات خاصة من المقربين منه ومقابلات مع زوجته وزملائه، فتميز بأنه مفكر مغامر لم يتردد في طرح قضية غير مألوفة، وكان على قدر كبير من الجرأة على الاخرين، سواء في مواجهة علماء الدين التقليديين أو الجمهور الواسع، كان من أول من اشار الى أن الصراع بين العرب واسرائيل هو صراع حضاري وليس عسكرياً كما كان شائعاً، وجاء ذلك في كتابه الصادر في منتصف الستينات، فاعتبر البعض أن كلامه ينطوي على مهادنة، والبعض واجه كلامه بالرفض والاستغراب، كما كان يمتلك شجاعة التعبير فأشار الكاتب الى السنوات الاولى من ثورة يوليو 52 كيف اتخذ بهاء موقفاً شجاعاً غير متفق مع توجهات الدولة في فترتها الاولى، وتجلت شجاعته أكثر بعد هزيمة 67 فاصدر بياناً على مسئوليته الخاصة وكان وقتذاك نقيباً للصحفيين المصريين، تحدث فيه عن مبادرات عديدة، مثل الاسراع في الحساب من كل المسؤوليات الكبرى، واعادة التنظيم السياسي واستكماله، وتوسيع قاعدة الديمقراطية ورفع الرقابة عن الصحف، وكان لهذا البيان أثر سئ لدى جمال عبد الناصر، وظهرت شجاعته أيضاً أثناء توليه صحيفة الاهرام وبعد صدور قانون الانفتاح عام 74 فكتب في الصحفة الاولى بالاهرام مهاجماً القانون وسوء تطبيقه والاثار التي سوف يلحق بها البلاد، وهي مقالة شهيرة بعنوان "الانفتاح ليس سداح مداح"، كما تناول المؤلف خصائص بهاء الفكرية من خلال اختلافه مع بعض علماء الدين، فأشار الى معارضته للشيخ الشعراوي لاستنكاره ادخال الكهرباء في الريف المصري لانه يسئ الى الفلاح ويقلل من انتاجيته، بالاضافة الى مهاجمة طريقة الشعراوي بالسيطرة على البسطاء من خلال تفاسيره، وأشار مؤلف الكتاب الى ان شجاعة احمد بهاء الدين كانت تصل الى حد التهور أحياناً فهو لا يحسب حساب نتائج معارضته لبعض المشايخ، فهاجم الشيخ محمد أبو زهرة بسبب آرائه في المرأة في مقال بعنوان "لا يا شيخ"، كان من المدافعين عن حقوق المرأة وحريتها واستقلاليتها، وبعض مما جاء في المقال "الا تلاحظون معي أن هؤلاء المشايخ لا يكاد يعنيهم شئ في الوجود الا المرأة، الا تلاحظون أنهم اكثر الناس تفكيراً في المرأة اليس هذا غريباً؟ الا يحتاج هذا الى محلل نفسي أكثر ما يحتاج الى جدل عقلي؟.
فكره التنويري:
يٌعد أحمد بهاء الدين أحد أهم رموز الجيل الرابع التنويري بعد أجيال ثلاثة سابقة بدأها رفاعة الطهطاوي، وأهم ما تميز به بهاء الدين أنه اتخذ موقفاً واعياً من خلال تعرفه واقترابه من الفكر الغربي ومن القيم الايجابية في التراث
الحوار واستعارة الافكار العصرية:
وعن الاجتهاد أشار الى أهمية القضية أكثر من مرة في كتاباته "انه ليس من حق أحد أن يفرض تفسيره هو بالقوة، ويزعم أن هذا هو الاسلام مستدركاً كذلك، أنه ليس من حق جماعة سرية لا نعرف فكرها أو ترجمتها للقرآن الكريم، أن تتآمر بليل لتفرض تفسير محدد"، لذلك كان الحوار أكثر ما يحرص عليه في أي قضية فناقش قضايا اسلامية شديدة الحساسية، وتعرض للذين يتركون القضايا الكبرى التي تواجه المسلم اليوم الى قضايا فرعية، خصوصاً في العبادات، فيغوصون في تفاصيلها وجعلوا منها مذاهب كالذي يصلي "أيضع يديه مبسوطتين أم يضعهما مضمومتين على قلبه؟ أم على صدره؟ وكله حلال ولا يفسد صلاة ولا يحتاج الى معارك فقهية"، أما المحور الثاني في فكره التنويري هو استعارة العديد من الافكار العصرية "فقد كان مدركاً أن القرن الثامن عشر في اوروبا أكثر القرون تنويراً، فنهل الكثير من أفكار المتنورين الغربيين الذين كانوا ثائرين على كل التقاليد والجمود، وانعكس ذلك على اسلوبه التعبيري في الكتابة وفي الكتب التي لخصها وقدمها للقارئ بكثير من التمرد وبعرضه للعديد من المسرحيات
الدولة العصرية:
ومن محاور فكره التنويري أيضاً الدولة العصرية التي كان يعتبرها البديل للعيش بسلام في عالم اليوم، وركائز هذه الدولة عنده هي العلم، فتحقيق دولة الوحدة العربية لن يتم الا باستخدام أدوات العلم وتطبيقه، فالعلم عند بهاء شرط واجب للتنمية التي تؤدي الى تهيئة الظروف لاقامة وحدة سياسية أو اقتصادية، كان واعياً لاثر الاعلام والتحديث فاشار أكثر من مرة أن الصحافة والاعلام يمكن أن يلعبا دوراً كبيراً في تأكيد تحقيق الهدف القومي، "الاعلام يلعب دوراً ايجابياً في السعي لدخولنا كأمة واحدة في عالم اليوم"، دعا الى مشروع حضاري وهو التطبيق العلمي للمعرفة، فكلن يرى منذ وقت طويل أننا أصبحنا في مجتمع معرفي، فلم يتوقف منذ الثمانينات عن رفع شعار كمبيوتر لكل مدرسة ثانوية، كما كان يرى أن ثورة العقل الالكتروني هي محور الصراع الدولي، فاليابان برعت بدون قوة عسكرية وتسعى للسيطرة على العالم من خلال أحدث أنواع المعرفة.
آثر الغياب عن الزمن العربي:
آثر أحمد بهاء الدين الغياب عن الزمن العربي بعد أن عالج العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية، من خلال كتاباته الاسبوعية بالاضافة الى براعته في تحليلاته السياسية، آثر الغياب بعد أن اكتسب مصداقية القراء والمثقفين من خلال اتزانه وحياديته في طرح آرائه وتحليلاته، آثر الغياب بعد أن تصدى للعديد من الافكار السلبية والسلفية السائدة...بغيابه ترك لنا كتابه الأول الذي أصدره وهو في العشرين من عمره "الاستعمار الامريكي الجديد"، وكتابه الثاني "فاروق ملكاً" وكان عمره لا يتجاوز 26 عاماً، واصداراته التي بلغت أكثر من 30 كتاباً، آثر الغياب عن الزمن العربي بعد أن كان أصغر رئيس تحرير عندما تولى مسؤولية تحرير مجلة صباح الخير وهو دون الثلاثين، وتوليه رئاسة مجلس ادارة دار الهلال ومجلة المصور بالاضافة الى توليه رئاسة صحيفة الاهرام في السبعينات، ورئاسة تحرير مجلة العربي الكويتية من عامي 76 الى 82، بغيابه ترك لنا الآف من الصحفات التي تحتوي مقالاته الاسبوعية في صحيفة أخبار اليوم تحت عنوان "هذه الدنيا"، وفي صحيفة الاخبار تحت عنوان "معنى الأخبار"، ومن أشهر مقالاته لماذا التركيز على عبد الناصر، مرحبا بفتح ملف عبد الناصر بشرط فتح كل الملفات، الانفتاح سداح مداح، موتوا بغيظكم، وجريمة العصر، وهو من اطلق مصطلح جريمة العصر على هجرة اليهود السوفييت الى أرض فلسطين في نهاية الثمانينات، وهذه الجريمة كانت آخر معاركه ليسقط بعدها صريعاً للمرض بعد اصابته بنزيف في المخ انتهى الى حالة من شلل في الحركة وخاصة في جانبه الايسر، فلم يستطع أن يصدق ما يحدث حوله من تبدل في التحالفات الدولية والمواقف العالمية، فكان يعتقد بأن الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن يضحي بصداقة الفلسطينين، كانت القضية الفلسطينية عنده قضية عمره، فاختار عدم الوعي لمدة 6 سنوات خيراً من العيش في هذا الحاضر العربي الردئ، بعد أن أرهق نفسه عصبياً ونفسياً ليوقع على البيان الذي يدين الموقف السوفيتي والامريكي والاسرائيلي أكبر عدد من المثقفين والمسئولين المصريين، ويصطدم في كثير من أصدقائه وزملائه بمواقفهم الغريبة من التوقيع على البيان.
آثر الغياب عن الزمن العربي بعد أن عاش أسوأ فترات الواقع العربي...
تٌرى هل كان بمقدوره أن يحتمل مشاهد التنكيل الحالية بالفلسطينين وبالعراقيين لو أمده الله بالعمر؟ أعتقد أنه سيفضل الغياب مرة أخرى عن الزمن العربي.... وسيفعل كما فعل سعد زغلول (يدخل القبر ويقول شدي اللحاف مافيش فايدة)......