عالم الأدب

رفعة الفن: لوحة مانية غداء على الحشائش

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لوحة مانية غداء على الحشائش

بلوحته الشهيرة غداء على الحشائش لـ"مانية" وُضعت نهاية "لاحتشام الفن" من وجهة نظر محافظة وكما كان يراها ويكرسها أساطين التقييم الرسمي وصانعو ذوق المجتمع الذين يجهدون أن يمنعوا أفراد "العامة" أن يكون لهم ذوقهم الخاص. حيث لا حق لهم، بدون الرجوع إلى "الأسياد" أن يكوّنوا رأيا خاصا عن الفن. و لوحة مانية هذه تمثل امرأة عارية تجلس مع رجلين في أحدى حدائق باريس يتهيئون لتناول طعامهم، وكلا الرجلين بكامل ملابسه وفي خلفية اللوحة ثمة امرأة أخرى بدأت توا بنضو ملابسها. لم تكن اللوحات في السنين السابقة لظهور مانية خالية من العري ومن النساء العاريات، بل إن العري كان في لوحات عديدة أشد صراحة من عارية مانية هذه، ولكن هذه كانت هي المرة الأولى التي يصور لنا الفن عريا لامرأة " أرضية " بدون تفسير ميثولوجي، فعاريات الفن التشكيلي كن، قبل مانية، آلهة قديمة أو شخصيات من تاريخ أوربا القديم يحملن رمزا ما، أما هذه العارية فهي امرأةٌ عادية مع رجال عاديين بملابس معاصرة لا تحمل أي تأويل ميثولوجي.

مثلت اللوحة حينذاك قطيعة مع طريقة التذوق السائدة و تجديدا دراماتيكيا، وأدهشت وألهمت ثوريي الفن، ولكنها كانت مع ذلك قطيعة على استحياء، بمعيار ما تحقق بعدها، قطيعة حذر، قطيعة برجوازية مساومة ومهادنة لطريقة التذوق الإقطاعي الذي غادر المسرح السياسي بثورة 1789. والرسام نفسه ـ أي مانية ـ لم يكن مقطوعا بالكامل عن جذور النبالة فهو من عائلة ثرية مع إنه حمل لواء التجديد كما فعل خلفه الأكثر سخطا تولوز دي لوتريك فيما بعد. اعتبرت اللوحة من قبل مؤرخي الفن والنقاد بداية تأسيس الانطباعية بالرغم من إنها، تكنيكيا، لا تحمل أي عنصر من عناصر الانطباعية، والسبب إن مانية تجرأ ورسم موضوعا يوميا، و رمت اللوحة عرض الحائط تعليمات الفن الرسمي بأهمية: "رفعة الموضوع ونبله".
تذكروا هذه الصياغة رجاء "نبل ورفعة الموضوع " لأننا سنعود إليها مرارا وستكون حجر الزاوية فيما سيلي من الكتابة.
و كان التجديد في الفن و الدعوة الى نبذ القديم مصحوبا في الغالب بالثورية السياسية، وكانت باريس هي المدينة الأكثر ثورية في العالم وقد أشار ماركس الذي طور نظريته في جوانب كثيرة على ضوء تجربة كومونة باريس الى أنه لا يوجد شعب يسارع الى إقامة المتاريس في الشوارع مثل الباريسيين، وكان العديد من الشعراء والفنانين في طليعة المتمترسين مثل رامبو، وأدت ثورية كوربية الأسلوبية في واقعيته الشهيرة الى مصادمات مع ممثلي الفن الرسمي الذين يشغلون مواقع القرار في المؤسسات التدريسية، أدت الى تكليفه من قبل ثوار الكومونة بوزارة الثقافة في حكومة الكومونة قصيرة العمر، لكي يسجن بعدها وبعد سقوط الكومونة، بتهمة ملفقة ويرسم من نافذة سجنه العديد من اللوحات. والكثيرون يعرفون صراع موتزارت ضد سالييري الذي كان الحارس الأمين للفن التقليدي ازاء ثورية موتزارت.

خاتمة الفن القديم: حذاء فان كوخ

على أن هذه القطيعة التي اعتبرناها قطيعة خجولة وعلى استحياء والتي بشرت بها لوحة مانية الخالدة سوف تعقبها القطيعة الحقيقية حين يرسم فان كوخ بعد ذلك بحوالي ربع القرن حذاءاً، ليس لمرة واحدة بل لعدة مرات. لقد وضع فان كوخ الخاتمة لحصافة الفن الإقطاعي المتزمت الذي لم يتخل عن مواقعه الفكرية بسقوطه السياسي بالثورة الفرنسية , لقد وضع فان كوخ حذاءه على كل الركام الإبداعي السابق قائلا: كفى! ولكن فان كوخ الريادي حد الموت، أعطانا الإشارة نحو المستقبل، دون أن يعرف بأن الحصافة والوصاية قادرتان على تجديد نفسيهما كما الفطر والانبعاث أبدا من جديد.
لقد عشقت فان كوخ و اعتبرته أخي الروحي وقرأت جميع رسائله إلى أخيه ثيو كما قرأت ما كتب عنه في " شهوة الحياة " التي كانت عن سيرة حياته، وشاهدت الغالب من لوحاته، أصلية أو صورا... الخ ليس بسبب ثوريته الفنية فحسب، بل لأنه كان مخلصا ومدافعا لا يكل عن الحقيقة، وقد قاده صدقه إلى أن يهتدي إلى الفن كخاتمة يستطيع فيها أن يضع على قماش اللوحة صدقه المتناهي، ثم قاده صدقه إلى الانتحار عندما أدرك أن ليس بوسعه أن يقدم جديدا، مطلقا النار على نفسه قائلا: "ليست هناك نهاية للآلام" وكان قد رسم قُبيل ذلك لوحته الخالدة " غربان فوق حقل قمح".
وفي التسعينات رفضت لجنة فحص النصوص في اتحاد أدباء ديالى والمكونة من أنصاف الموهوبين أو العاطلين عن الموهبة موضوعا كتبته بكل ما امتلك من حب لهذا الصادق المثابر عن الذكرى المئوية لوفاته والسبب إن الموضوع قديم!!! فان كوخ بحذائه الشهير لم يرق لفاحصي النصوص الحليقين النظيفين، ليس ذلك بجديد لا على فان كوخ ولا عليّ، ففي ذكرى وفاته هذه أقيم في العاصمة الهولندية حفل باذخ، كان سعر بطاقة الدخول اليه كذا من عشرات الدولارات، وقد علق أحد الحاضرين على ذلك : لو كان فان كوخ على قيد الحياة لما امتلك سعر بطاقة الدخول.

تشيخوف والبحر الكبير

في إحدى اللقاءات الجماعية إثناء حديثه مع مكسيم غوركي، وكلاهما مصاب بمرض السل،، يقول تشيخوف : " كان الآخرون يتبادلون الحديث و كنا، غوركي و أنا، نتبادل السعال ". وحسب هنري ترويا، كاتب سير الكثير من الكبار و منهم تشيخوف، فان هذا الأخير كان معجبا جدا بوصف أحد الأطفال للبحر: " كم كان البحر كبيرا! "، هذا الإعجاب هو الذي يسلط الضوء على عظمة تشيخوف و طريقته الخاصة في التعبير، فهو لم يستخدم أبدا غير المواضيع اليومية ولغة عادية تماما و بدون أي زخرف و لا لف ولا دوران مجرد: " كم كان البحر كبيرا "!

ي قصته "الحرباء" مثلا، ثمة شرطي يراقب و يقيّم فعلاً قام به كلبٌ صغير عض ساق أحد المارة، مرةً يُقال انه كلب العمدة أو مدير الشرطة فيلقي الشرطي اللوم على المواطن لا على الكلب مادحا الكلب و محتده العريق، ومرة أخرى يأتي من يقول إن هذا الكلب هو كلب عادي متشرد ليس له مالك، فيلقي الشرطي اللوم على الكلب الشرير، ويرى في المواطن مواطنا مسالما شريفا أعتدي عليه من قبل كلب مؤذٍ، ومن هنا جاء اسم القصة: " الحرباء ". وفي " وفاة موظف " و هي قصة قصيرة أخرى، نجد صورةً لموظفٍ يخاف رئيسه إلى الحد الذي يموت فيه خوفا في نفس الليلة التي يعطس فيها وهو جالس خلفه في إحدى العروض المسرحية مما يتسبب في أن رذاذ العطاس قد أصاب صلعة رئيسه، و يحاول الاعتذار منه قائلا: " لقد بللتكم يا صاحب السيادة " و بعد أن يرد عليه رئيسه بتهوين و عدم اكتراث على اعتبار أن العطسة أمر عادي و غالبا ما تحدث، تنتاب الموظفَ العاطسَ الهواجسُ ويتوهم أن الرئيس سوف ينتقم منه شر انتقام فيموت في تلك الليلة نفسها. أما في " ثلاث سنوات " وهي رواية قصيرة فنجد: امرأة تتزوج رجلا لا تحبه، وبمرور الوقت تبدأ بحبه، لا أكثر و لا أقل. لم يطرح تشيخوف أبدا سوى مواضيع يومية وطبيعية وبلغة يومية و طبيعية، و قد خلد أدبه رغم مرور ما يقارب أكثر من قرن لأنه في كل هذه النماذج قد كشف، بدون حذلقة أو لف ودوران، ديدن النفس البشرية التي تخاف و تنافق و تحب وتفزع، لقد عرض علينا كل شئ بدون رتوش، بدون لف أو دوران: " كم كان البحر كبيرا!"
كلا النموذجين فان كوخ و تشيخوف قدما مثالا لفن رفيع مواضيعه أشياء عادية بمعنى الكلمة وأبطاله أناس عاديون بمعنى الكلمة!
دجاجتي وسيرتها المضيئة

و حين كتبت قصتي "صفحات مضيئة من سيرة دجاجة" عبرت فيها قبل كل شئ عن كامل امتعاضي للغطرسة اللغوية ولي عنق الكلمات، والتي حُوّلت بموجبه لغتنا الجميلة إلى مجموعة من الطلاسم. في القصة استعملت، لغة عادية لمواطن عادي، هكذا ببساطة: قصة عن دجاجة دخلت حياتي و حياة أسرتي، لا وجود لموضوع متسامٍ، لا وجود لـ " رفعة الموضوع و نبله "، حياة يومية لدجاجة عادية و لمواطن عادي وكفى.
سألني صديق حين عرف بعنوان القصة: "هل أنت جاد؟!" ـ علامات التعجب والاستفهام منه ـ.
و نشر الموضوع لدى البعض على حذر واستحياء و من ثم أثار إستفهامات و تأويلات و تفسيرات رمزية، رغم إنني أغلظت الأيمان: أن الدجاجة في القصة هي دجاجة لا غير.
و قام أحد المواقع بإجراء "تصليحات" على النص حين "صحح" لي العبارة التالية الواردة في القصة : "إن في شارعنا مشبوها "، جاعلا إياها: " إن في شارعنا مشبوه "!. و هكذا فإن اسم "إن" المؤخر قد أصبح مرفوعا!.... وماذا في ذلك؟ لقد تغير كل شئ و تم رفع الكثير من المناصيب فلماذا لا يكون اسم "إن" مرفوعا؟!.... قبل سنين قليلة التقى مدرسان للغة العربية كانا قد أحيلا على التقاعد ولم يريا بعضهما من زمن طويل و بعد أن تبادلا التحية سأل أحدهما الآخر: قل لي بربك هل ما زال الفاعل مرفوعا كما كان على زمننا؟
وموقع آخر لا تستطيع أن تجد فيه القصة إلا بعد أن تبحث و حسب الحروف الأبجدية عن اسم المؤلف الذي ينبغي أن يكون معروفا لديك سلفا، بحيث ذكرني بالمادة الشهيرة قاتلة الذباب و الوصفة المرفقة لطريقة الاستعمال: تمسك بالذبابة وتفتح فمها وتضع قليلا من المادة القاتلة فيه وما هي الا دقائق وتكون الحشرة قد ماتت!
و موقع رابع امتنع عن نشر القصة في الوقت الذي نشر فيه بفخر لا يلام عليه و بموقع رئيسي قصيدة "رائعة" للشاعرة الأنيقة "................." ليس بمستطاع دجاجتي أن تنافس صورتها الأنيقة والمجواهرات التي تحيط بعنقها، فانا أكتب عن دجاجة وهي تكتب:

يا ويح قلبي كم تحرقه
بأحزانٍ
ظنوني

أتوسده الآه الحزينة
في دياجير
صبابات
شجوني

وهكذا وجدت دجاجتي نفسها في مأزق وفي منافسة غير متكافئة، فنص شعري كهذا لن يترك لدجاجتي، بصفحاتها المضيئة والمعتمة على حد سواء و بسوادها الذي أتغزل به، أية فرصة.
Munir_alubaidi@web.de


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف