ذهان سردي لمواجهة الشقاءالعادي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رواية "عرائس الصوف" للكويتية ميس خالد العثمان
أولاً: في البدء كان الشقاء!
مدخل عام:
"أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم، قلت لكِ: ليس عندي أفكار، ولكن عندي أحلام مستحيلة"، هذه العبارة ترد في قصّة كتبها الروائي "بهاء طاهر" وتحمل عنوان "بالأمس حلمت بك"، ففي أحد حوارات الراوي ولقاءاته مع "آن ماري" تقول له الفتاة: "قل لي أرجوك ماذا تريد؟". و"بهاء طاهر" هو كاتب رواية "خالتي صفيّة والدّير"، تلك الرواية التي تُرجمت لكثير من لغات العالم، وفازت بجائزة إيطالية. ولكن بعيدا عن هذه المنزلة الأدبية التي حققتها الرواية، لازلتُ أتذكّر الانطباع الذي غادرت به عالم صفية والدّير. ربما كان شعورا يشبه الأسف على إنسان شرقي لا يمتلك إلا أن يتجرّع شقاءه المؤلم جدّا والعادي جدّا من خلال آليات دفاع تدميرية رهيبة تفوق حدّ الاحتمال.
منذورون نحن للشقاء، ولمواجهة شقائنا نقترف المزيد من الممارسات المفضية إليه، وهكذا تتوارث الأجيال شقاءها العادي، فهو ليس عاديا لأننا نستطيع احتماله، ولكنه برغم قسوته الشديدة يتكرر حتى جعلنا نتلذذ بحدوثه، ونجلد أنفسنا ومن نحبّ حتى لا نعود نشعر بالألم، ونصير جزءا من منظومة تنتج الشقاء وتستهلكه كأمر مسلّم به، بل لا بد من حدوثه ليكتمل شعورنا بالانتماء لهذا الشرق التعس.
في رواية بهاء طاهر "خالتي صفيّة والدّير" يولد الحلم المستحيل على هيئة حبّ، ولأن الناس في شرقنا ليسوا أكثر من مجرد شرقيين لا يكونون أبدا "غير ما هم" فإن الحب يموت على سطح الحدث العام للرواية، بينما يزداد غليانا في قلب صفيّة الوادعة، ويتحوّل مع الزمن إلى رغبة جامحة في الانتقام ممن أحبّت ومن نفسها، ويرى جميع من يشارك "صفيّة" فضاءها المكاني رغبتها المشروعة في الانتقام لمقتل زوجها، لكنهم لا يدركون الدّافع الحقيقي الذي جعل انتقامها أكبر من أن يستوعبه الآخرون لأنه فاق أي انتقام
تذكرتُ كل هذا وأنا أغادر الصفحة الأخيرة من رواية: "عرائس الصوف" للكويتية ميس خالد العثمان، فهذه الرواية الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنّشر هي الرواية الثانية للمؤلّفة بعد روايتها الأولى "غرفة السماء"، وبعد رصيد لا بأس به من القصص القصيرة المنشورة على مجموعتين قصصيتين بعنوان "عبث" و"أشياؤها الصغيرة".
فالرواية سرد يبعث على الدّهشة، إذ لم تكن طويلة فتترهل، كما أنها خالية من أي سرود جانبية لا تدعم البنية الأساسية للحدث، وهي من خلال قرابة المائة صفحة ترسم عوالمها بدقة وبفضاء دلالي يعرف ماذا يريد، وعن أي إنسان يتحدّث،. فجاءت على شكل وثيقة أخرى تقصّ علينا جزءا من يوميات الشقاء والبؤس لفتاة أخلصتْ لبؤسها حدّ أن وضعت الآليات المناسبة لتجرّعه والاستمتاع به، والاكتمال -مع نهاية الرواية- من خلاله.
الحدث:
فتاتان إحداهما تسمّى "دليلة" والأخرى تُسمّى "مروانة". دليلة ابنة "عوجة" الصانعة التي تزوجها "حابس" والد مروانة بعد أن توفي زوجها وهي حامل بدليلة، فكانت بديلا مناسبا لتربية ابنته "مروانة" بعد أن فقدت أمّها أثناء الولادة. و"حابس" أخ لكبير وجهاء "النّزلة"، لكنه قصي بعيد، يسافر في رحلات غير مفهومة، وتبقى ابنته في مواجهة عجزها عن فهم معنى سفره أو حتى سبب القطيعة التي بين منزلهم وبين "البيت الكبير" المقابل لهم، وفي "البيت الكبير" تسكن الشيخة "غزوى" وابنها "نَذر" الذي رُزقت به بعد عدد من الفتيات كنّ سيجعلن من أمهن "غزوى" حاملة للقب مطلّقة الشيخ "مصيوب" لولا أن تمت ولادة نذر لتنقذها من غضب "مصيوب" شيخ العشيرة الذي يبحث عن ولد "ليكمل مشيخته فلا تعيبه الأعراب" (ص17).
هذه هي اللبنة الأساسية للحدث الرئيس في الرواية، ومن خلال تتابع السّرد ستتكشف لنا الكثير من الفخاخ التي تعيد ترتيب الأحداث وفهمها، ثم تستمر الرواية بعد العرض المُختزل في بدايتها في سرد الوقائع حتى تنتهي بحقيقة أن العمل يتلمّس كشف الثنائيات التي صبغت أبطال الرواية بصبغتها فأدت إلى ولادة هذا الذهان السردي الممتع.
الأبعاد الدّلالية:
تعتمد الرواية على لغة شعرية تساعد في خلق فضاء دلالي يغري بالنبش فيما وراء اللغة المكتوبة، فالعناوين -بدءا من العنوان الرئيس ومرورا بالعناوين الفرعية- إضافة إلى أسماء الشخصيات وكذلك أسلوب سرد الوقائع بطريقة مُختزلة، كل هذا يؤدي إلى حالة إرجاء لفقه الدلالة بمجرد قراءة مباشرة. فمن العسير أن يحيط ناقد بمضامين الرواية ودلالاتها في قراءة نقدية عابرة، ولكنني سأحاول فيما يلي رسم صورة عامّة عن الأفق الدلالي الذي يتوالد على طول النّص، دون أن يكون هذا الرسم "العام" هو الفضاء النهائي للقراءة ، فلا يزال هناك الكثير مما يمكن قوله عند القراءة وإعادة القراءة للرواية.
الوقائع/ توليد دوال الشقاء:
"دليلة" ابنة الصانعة تصغر "مروانة" بشهرين، لكنها مكتملة كما تروي لنا "مروانة" التي تتكفل برواية الأحداث منذ البدء وحتى الخاتمة، واكتمال "دليلة" يعود بالدرجة الأولى إلى شعور رفيقتها "الساردة للأحداث/ مروانة" بالنّقص. فهي -أي مروانة- يتيمة الأم، إضافة إلى وجود إعاقة خَلقية لديها كونها ولدت "عرجاء"، ويزيد من وطأة كل هذا البؤس غياب الأب لفترات طويلة ولأسباب لا تدركها، إضافة إلى ظهور دلائل الأنوثة المبكّرة على جسد "دليلة" قبل أن تلمح "مروانة" أي أثر لأنوثة تتفتّح على جسدها، رغم بحثها في المرايا عن أي علامة تشفع لها بمجاراة رفيقتها التي تصغرها بشهرين.
ولأن مروانة تشعر بوطأة هذا النّقص -دون أن تدرك أسبابه- فإنها تصوّر مدى حبها لأختها من الرضاع ورفيقتها، ومع مرور الأحداث ومع تقدّم السرد سنكتشف أنها بدأت تتلبس فكرة مناقضة للواقع تفيد أن دليلة أكبر منها سنّا.
وعلى الرغم من القطيعة الظاهرة والمجلّلة بالأسرار بين بيت "حابس" وبين "البيت الكبير" الذي يعود لأخيه "مصيوب" كبير وجهاء النّزلة إلا أن نذر يتزوج من ابنة "الصانعة عوجة"، بعد أن تسرد مروانة لنا كيف أن نذر كان يشاغبها ورفيقتها بإشارات لم تكن تدرك مغزاها، وترى أن هذا هو سبب اختياره لابنة الصانعة: "يومها، سحبتني "دليلة" من يدي، نزلنا من تعلقنا بالسياج، ومجتهدة شَرَحَتْ لي إشارات "نذر" تلك التي استقبلتها أنا بفتور وَجِلْ، بينما بدت لي "دليلة" أكبر مني سنّا وخبرة، وأكثر ذكاء لذا تقدّم "نذر" لخطبتها!" (ص13).
إذن، لم يكن عرجها ويتمها والغياب الطويل لأبيها في كل مرّة ولا علامات الأنوثة التي لا تجيء بذات السخاء الحادث مع رفيقتها، كل هذا لم يكن وحده ما ينسج شقاء "مروانة"، بل إن ابن عمها يتقدّم للزواج من ابنة الصانعة بمباركة من أمه الشيخة غزوى، وهذا سيؤدي إلى شقاء آخر يترتب على شقاء أن يهملها شاب "مكتمل" ألا وهو شقاء فقدها لرفيقتها بانتقالها إلى البيت الكبير، فتبقى مروانة وسطّ هذه الّلجة المتسلسلة الشقاء وحيدة أمام "عرائس الصوف"!.
التحولات:
سنعلم أننا أمام حالة إنسانية غاية في الشقاء حين نبلغ الصفحة الأخيرة من الرواية: "بعد غدٍ سيأتي أبي. بنصف رجلٍ وامرأةٍ كاملةٍ وطفل، سنقول له الكثير" (ص106). فمن هي هذه المرأة الكاملة؟. من قرأ الرواية يعلم أنها "مروانة" التي وقعت تحت وطأة الشعور بالنّقص إلى درجة أنها لم تكن شيئا موجودا أصلا: "كنت اعتدت فعل ما تسبقني إليه "دليلة"، رغم أني أكبرها بشهرين!" (ص23)، أما "نصف الرّجل" الذي يقف معها في نهاية الرواية فليس سوى "نذر" المكتمل في بداية السرد: "ذات صيف، ومن شباكهم الواسع الأبرز، طاردتنا نظراته، "نذر" ابن عمي "مصيوب"، شابٌ، غنيٌ، يكبرنا بعشرة أعوام. تشتهيه كلّ بنات "النزلة"، تجمدنا بعد أن غمز لنا نصف غمزة! واحترنا لحظتها: "لمن أرسلها؟" وبرغم تلك الحيرة وسذاجتنا سعدنا بها." (ص10).
إن ما يزيد يقيني أن هذا العمل كُتب بعناية هو كم المؤشرات التي تتوزع على طول النّص لتبين لنا أي سرّ يقود هذا التحول الكبير؟ وكيف جعلت الروائية من عملها حكاية لامرأة مصابة بالذهان تسرد علينا طريقتها في ابتداع عالمها الخاص؟، ومن هذه المؤشرات نجد مؤشرَين بارزين هما:
1)"مروانة" ليست سوى مجموعة من الآلام المتكرّرة، وهذه الآلام ليس لها يد في وجودها، كما أنها لا تدري ما سببها.
2)أنها كانت تعالج هذه الآلام بتشبثها برفيقتها دليلة، فهي "مكتملة" النمو منذ الولادة، إضافة إلى أنوثتها المبكرة التي أعطتها الحق في فقه ما يدور حولها، فأسلمت مروانة قيادها لها على المستويين المادي: "حتى عرائس "دليلة" كانت أجمل" (ص47)، والنفسي: "دغدغ النور أجفاننا "دليلة" وأنا" (ص12).
إنها تؤمن أن رفيقتها سبقتها في النمو بجسد مكتمل، وبأنوثة مكتملة، وبأم، وبإتقان في صناعة عرائس الصّوف، وبفهم لإشارة "نذر" المشتركة لها ولدليلة، وفهم هذه الإشارة أدى إلى أن يتزوجها "نذر" -كما تبرر هي- رغم أنها ابنة الصانعة، تاركا ابنة عمّه لشقاءاتها الكثيرة، لهذا كان كل ما تفعله دليلة يبدو أجمل، وكل شيء مشترك تبدأ بنسبته إلى "دليلة" ثم تردفه بضمير "أنا" الدال عليها.
إنها حكاية امرأة في الأخير من كل شيء، حتى في الحديث عن ترتيبها وسط آخرين:"دليلة وعوجة وأنا وحزنٌ شفيف" (ص27)، فالحظ والولادة المشوهة واليتم وسفر الأب وتأخر دلائل الأنوثة وزواج ابن عمها "نذر" ابن الشيخ "مصيوب" ممن هي أقل منها مكانة اجتماعية في سلّم القبيلة جعلها لا تدرك شيئا مما يدور حولها، وأدخلها من بوابة الذهان النفسي كي تبدأ في ترتيب هذا العالم القاسي جدّا دون مبررات واضحة تبرر هذه القسوة لفتاة تعتقد أن مجرد فهم رفيقتها لإشارة "نذر" جعله يتزوجها!: "اختار "دليلة" السمراء المتفتقة أنوثة، الأكثر إغراء وجرأة، ولازلت أتذكر كم تناثر من همس حول زواجهما، أشياء كثيرة تشبه: "اصطادته عوجة لابنتها السوداء"! "ظلت تحوم حوله حتى أوقعته، بتعاويذها وسحرها، وإلا لِمَ ترك ابنة عمه البيضاء بأصلها الطيب"؟!. متناسين أنني أحمل رجلاً ضامرةً ودون معنى." (ص13).
مزيدا من الشقاء:
ما سبق سرده ليس كل شيء في أحداث الرواية، فـ "مروانة" المصدومة: "بنفس صدمتي استقبلت "النزلة" في "جبل الكوم" خبر خطبتهما" (ص13)، و بعد ليلة زواج "نذر" من "دليلة، تستيقظ صباح اليوم التالي، وتطلّ من السياج الذي شهد ذات صيف "نصف" غمزة أوقعت بفتاتين: "عاودني شوق طازج لتسلق سياج السطح، وكان بيت "دليلة" يقف شامخاً قبالتي وصرت أتطلع لذلك الشباك الواسع بنصف ابتسامة، حتى ظهر لي فجأة!. لا أدري إن كانت ابتسامتي قد استطالت أم تلاشت إثر الصدمة، لكن لحظتها ظهر لي بإشارة من يده يلفت انتباهي. سخونة غريبة شحنتني وتساءلت: لِمَ ترك عروسَهُ وعاود وقوفه في الشباك الكبير!." (ص15).
ثم كان لها أن تتفوق على هذا الشقاء وأن تتجاوزه بأن تقرر أن تحب "نذر"، فتبادره بجملة أولى في لقاء يجمعها به خلسة: "جذبني بعيدا عن الأعين. كنا لصق بيتهم الكبير.. نطقت لمرة أولى: سأحبك بقوّة، وسيغدو حبنا مشكلة لا مثيل لها". (ص20).
فينتج عن هذا الحب طفل تسلمه "مروانة" لرفيقتها "دليلة" التي لا يقترب منها "نذر" ورغم هذا تطالبها الشيخة "غزوى" بإنجاب ولد، فقد تواطأ الجميع "نذر" و"دليلة" و"مروانة" على نسج هذه القصة باتفاق غير معلن، إذ تهرع "مروانة" لرفيقتها كي تساعدها في هذه المشكلة / الفضيحة، وتقص لها عن والد هذا الطفل اللقيط ما يطفئ لهفة "دليلة" لمعرفة حبيب "مروانة" ووالد طفلها القادم الذي تقنع "نذر" بضرورة تبنيه لإسكات أمه غزوى، ولنكتشف في النهاية أن "دليلة" كانت على علم بأن نذر هو والد الطفل، ولكنها نسجت ذهانها الخاص هي أيضا -أي دليلة- كي تتوافق مع مجتمعها الذي يطالبها بما لا قدره لها على تحقيقه، وحين تصاب بنزيف توصي "مروانة" بالزواج من "نذر" لرعاية طفلها / طفل مروانة.
إعادة قراءة في الدال العام:
إن الضغوط الكثيرة التي تجاوزت حدّ أن تستوعبها فتاة يتيمة معاقة ومنبوذة من بيت عمها "البيت الكبير" نتيجة هروب خالتها في ظل ما تردد عن هذا الهروب الفاضح، كما تجاوز حدّ أن تفهم مبررات هذه الضغوط كانت سببا في وقوعها داخل دائرة ذهانية، فخلقت عالمها الخاص بوعي كي تهرب إليه: "كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون." (ص18)، "سأحبّك بقوّة". (ص20).
فليس هذا حبّا كائنا، ولكنه سيكون بإرادة واعية، للحاق برفيقة هي كل ما تعنيه "مروانة"، فبذهاب "دليلة" إلى البيت الكبير لم تعد مروانة موجودة، تلاشت: "ربما كنت أطمح لأن أظلّ دوماً متعلقة بنسخة منّي لـ تشاركني الحياة". (ص102)، فـ "نذر" ليس أكثر من نصف رجل لا يستحق العناء: "أنصاف الرجال يكونون عادة أكثر طلاقة / تعبيرا عن رغباتهم تجاه الغير من الرجال الكاملين" (ص103)، "بنصف رجلٍ وامرأةٍ كاملة وطفل، سنقول له الكثير". (ص106).
ثانيا: شيزوفرينيا الساردة / مروانة
لمحة عامة عن الذهان:
الفِصَام أو الذهان أو الشيزوفرينيا هو " مرض مزمن يتميز باضطراب التفكير ( كأن يعتقد المريض أن الناس ضده ويتآمرون عليه) ونشوء الضلالات والهلاوس وينتج عن ذلك اضطرابات سلوكية وانفعالية ويبدو المريض وكأنه يعيش في عالم خاص به" (أبا حسين، د.إيمان: طبيبة نفسية، مستشفى الملك خالد الجامعي. نقلا عن موقع: "اضطرابات النوم" على الشبكة العنكبوتية، موضوع: "النوم والاضطرابات النفسية"). وتكمن أعراضه في مجموعة متآزرة من السلوكيات، مثل: "وجود تصرفات غير عادية أو خارجه عن المألوف البشري مثل الهلاوس السمعية ، البصرية أو الحسية والتي تجعل الشخص المصاب يستقبل أصواتا ، رؤى أو أحاسيس غير موجودة فعلياً. وكذلك اعتقاد الشخص المصاب اعتقادا جازماً بفكرة خاطئة ، غير مألوفة غالباً ، والتعامل معها على أساس إنها حقيقة واقعة ، وهي ما تسمى "بالضلالات"، وفقدان أو غياب التصرفات العادية المتوقعة لظروف معينة، مثل ضعف أو تبلد الإحساس ، الانعزال العاطفي والاجتماعي ، وفقدان الاهتمام بالأنشطة والهوايات المحُببة ، عدم القدرة على الفرح بالرغم من وجود عوامله." (دغش، د.هديل: صيدلانية، مشرفة الخدمات الصيدلية الاكلينكية، نقلا عن موقع: "مجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض " على الشبكة العنكبوتية، موضوع: " الفِصَامْ / الذُهان والعلاجات المتاحة له").
ويكون هذا المرض نتيجة لعدة أسباب من أهمها: "الضغوط المترسبة الأكثر حيوية في طبيعتها (مثال على ذلك: استعمال عقاقير تسبب الهلاوس) أو اجتماعية (مثل موت أحد الأقرباء). وتؤثر هذه العوامل مع عوامل وضغوط أخري علي مسار ومآل المرض. (موقع "شيزوفرينيا "على الشبكة العنكبوتية، موضوع: " أسباب الفصام") فهو نتاج لعدة عوامل أهمها الضغوط الاجتماعية.
الضغوط التي وقعت عليها:
هي من يقصّ لنا الأحداث من وجهة نظرها، وهي صاحبة النصيب الأكبر من الشقاء:
1)ولدتْ عرجاء: "أحمل رجلاً ضامرةً ودون معنى" (ص13).
2)محاصرة بنظرات الشفقة: "لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقة" (ص34).
3)يتيمة الأم: "ماتت أمي مع صرختي الأولى، ووِلدت دليلة يتيمة هي الأخرى بعدي بشهرين" (ص9).
4)تتأخر دلائل الأنوثة في الظهور على جسدها مقارنة برفيقتها التي تصغرها بشهرين: "أثمر جسدها سريعا، فصارت مفاتن الأنوثة تعلن عن نفسها بحيث جعلت الرجال يفوحون رغبة. حتى أن سمرتها باتت مثيرة أكثر من بياضي الكالح، ربما!" (ص9)، "اختار "دليلة" السمراء المتفتقة أنوثة، الأكثر إغراء وجرأة" (ص13).
5)منبوذة من قِبل ساكني البيت الكبير: "كانت عينا عوجة تبرقان رغم ظلمة السطح، يداها تعبثان بشعري بحنان بالغ، حينما أطلقت سؤالي: لمَ لا نزور بيت عمي" (ص11)، "كم من الشكوك حطّت على بيتنا لنكون ولسنوات بعيدين عن بيت عمي، كبير وجهاء النزلة، وكم من الحكايات لفّقت ضدنا لنعيش ملثمين خوف افتضاح ذلك السّر؟" (ص96).
6)لديها شعور كبير بالنّقص، فحين تقارن بينها وبين دليلة في أول صفحات الرواية تشرع في عدّ مظاهر تميز رفيقتها مقارنة بتأخرها هي: "سمرتها باتت مثيرة أكثر من بياضي الكالح" (ص9)، "فيما بقيتُ أنا أبحث عن أنوثتي المتأخرة في المرايا، فما عثرت إلا على ضمورٍ هادئ، وشباب خجلٍ طال انتظاره.. فقد سبقتني هي" (ص9)، وهي التالية في السرد بعد من يشاركها الحدث نفسه: "تصافحت أعيننا دليلة وأنا" (ص35)، "ذهبت للبئر/ بئرنا، دليلة وهو وأنا!" (ص28)، "دليلة وعوجة وأنا وحزن شفيف" (ص27)، "كل ذلك ما كان يعنينا، هو وأنا!" (ص31)، "فضيحتي التي لا يعلم بها سوانا دليلة وأنا ثم نذر!" (ص43)، "أغمضت عيني على خجلي منه/ مني!" (ص48)، "حاولت استعادة صورنا من هناك، دليلة وأنا" (ص60)، كما أن هذا الشعور يتفاقم إلى درجة أن تشعر أنها مجرّد ذبابة "تهشها" الشيخة غزوى: "أغلقت الباب بوجهي، بعد أن عضّت شفتها السفلى ردا على التصاقي بالباب، بنظرة آمرة هشّتني بعيدا عنها" (ص24).
7)الشعور بالاستلاب الذي كان يثقل على كاهلها بوطأته، فبعد زواج "دليلة" غير المفهوم من "نذر" تفقد أهم وسائل دعمها لمواجهة بؤسها: "كنت اعتدت فعل ما تسبقني إليه دليلة، رغم أني أكبرها بشهرين!" (ص23)، "بكل مرّة أشعر ضياعا بشكل ما، ما كان سواها لينتشلني منه" (ص48)، فهي منذ الطفولة تدفع عنها بنات النزلة الساخرات من إعاقتها: "لن نحتاج لهن كي نمرح، سنكون لبعضنا.." (ص47). ثم إنها تعبّر عن وطأة هذا الاستلاب بعبارة كانت ترددها رفيقتها أيام طفولتها وهي تشرب من كأسها: "لا تشربي من أثري، ولا تتبعيني" (ص104)، وهذه الرفيقة ما كانت سوى نافذة مروانة الوحيدة على العالم: "تعلقتُ بها كثيراً.. كانت نافذتي الوحيدة التي أطللت منها على الحياة، كانت أكثر جرأة مني ربما لأن أمها ربتنا سويا" (ص9).
8)رحيل أبيها الدائم وغير المفهوم: " رحلات أبي "حابس" حدث غير واضح المعالم، غير مسموح لأيا كان تجاوز الحدود والتلميح حتى لمعرفة أكثر مما كان يتاح!" (ص20)، "عبرت الليالي وحيدة، غريبة كنت حتى عن أبي" (ص31).
9)شعورها بأحقيتها "هي" في الزواج من ابن عمها نذر، ولكن ما حدث كان مجرد شقاء آخر يضاف لسلسلة الشقاء المتتابعة منذ ولادتها: "أنا اليتيمة، أفاجأ بأن هناك على الضفة الأخرى من الحي، إنسان يحمل دمي يعشقني حد التّهور، ومع ذلك تزوّج بأخرى!" (ص29).
وهناك الكثير من الضغوط التي تدفع "مروانة" لدخول "ذهان" يعيد ترتيب الحقيقة، وهو العبث الذي عناه "سهراب" حارس المزرعة بجملة دالّة وجهها لبطلة السرد: ""أحيانا، نحتاج لعبث يعيد ترتيب الحقيقة من حولنا" (ص52).
مظاهر الذهان:
"فات من عمرك أكثر من اثنتين وعشرين عاما، فعن أي سرّ تتحدثين" (ص90)، هذا ما يرد على لسان "دليلة" في حوار مع رفيقتها مروانة، لنتبين أنها في عمر مناسب للدخول في ذهانها الخاص: "عمر الإصابة يكون بين عمر 15 عاماً و 35 عاماً أي أن فترة العشرينيات هي فترة قمة الإصابة بالمرض". (العتيبي، د.نواف: طبيب العيادة النفسية الأولية بالدمام، نقلا عن موقع: "طبيبك " على الشبكة العنكبوتية، موضوع: "الفصام العقلي/ الشيزوفرينيا"). ومن أهم الدلالات على وجوده لدى بطلة الرواية ما يلي:
1)العزلة: "انسحبتُ من العرس بهدوء المغفلة" (ص14)، "صعدتُ إلى سطحنا.. أردتُ أن أكون معي" (ص36).
2)الهلاوس: ومن أهم مظاهرها سماع أصوات ليست موجودة إلا في تصوّر "مروانة": "مثل طفلةٍ تاهت في زحامٍ ما، كنت أنوح.. ووصلني هاتفٌ من بعيد: ليس عارَكِ وحدَك!" (ص57)، "غفوت على تخيلاتي" (ص39)، "كان الماء عنيفا، يضرب قاعدة هيكل السّد بيننا، وأصرخ بصوت مشروخ:
- لماذا!
ويأتيني الجواب من شيخ بلحية بيضاء ناصعة:
- لأنكِ معلقة بقطرة ماء بوسع هذا الكون" (ص103).
3) نشوء الضلالات: فـ "سهراب" حارس المزرعة ليس أكثر من حقل من الحكمة تراه يحضر ويغيب متى ما أرادت أن تضع المبررات لخطيئتها: "كلماته خرجت واثقة، واختفى خياله من الشباك المطلّ على ضيق غرفتي، انسلّ بهدوء يشبه حضوره" (ص49)، "بادرني دون أن أكون مستعدة:
-"ما الذي يؤلمك؟"
-"هذا العبث الذي صرت أعيشه رغما عنّي!"
-"أحيانا، نحتاج لعبث يعيد ترتيب الحقيقة من حولنا"
أغمضت عيني على وجع ضاعفه ردّه، وزفرت:
-"هذا التصور يملأ مخيلة المخبولين فقط"!
أضاف بثقة:
-"والأنبياء". (ص52).
وهناك من الضلالات ما يتعلق بتصور أن دليلة أكبر منها سنا: "شعرتها تجاوزتني عمرا" (ص14).
3)فقدان الاهتمام بالأنشطة والهوايات المحُببة: "صرت أرفض الإقدام على ممارسة ذاك العبث الطفولي وحيدة" (ص16).
4)الرؤى: وهي امتداد للهلاوس، حيث لا يرد التأكيد على بعضها بأنها قد حدثت أثناء النوم: "وددت لو أحكي له عن رؤياي، عن تلك المرأة السمينة السوداء العارية التي زارتنا لتطهو تلك الوليمة التي دعانا إليها الشيخ "مصيوب" دون سبب!" (ص80)، "كم كانت تزورني في أحلامي/ كوابيسي حينما تحاصرني الحمى، أرى "غزوى" تنتفخ أكثر، تظل تكبر وتكبر حتى تطير مثل بالون معلّق بخيط مشدود بإصبعي الصغير، أرتعبُ صائحةً: لا! غزوى ستنفجر!" (ص98).
5)صناعة عالم خاص: فقد قرّرت "مروانة" ما ستقوم بفعله "كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون." (ص18)، "سأحبّك بقوّة". (ص20). وهذا ما تبرره بضرورة أن تمارس حقها ولو كان ما ستقوم به اختراقا سلوكيا لأعراف القبيلة، أو حتى مؤذيا لأختها: "لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقة" (ص34)، إنها تريد أن تحيا حلمها الخاص كي لا يهلكها الصحو: "وكنت كلما غادرني/غادرتُ الحلم، أهلكني الصحو." (ص58).
6)سطحية الشعور، وأعني به ضعف أو تبلد الإحساس: ومن شواهده الكثيرة: "لاشيء يبشر بفرح ولا ينذر بسوء.. كما لا شيء يتغير بوجه الشيخة غزوى" (ص24)، "ذاك المساء حزين.. البرودة والخيبة تلتصقان بي وذاك الشرود الأبله!" (ص51)، "كان حبي له خيانة لأختي. ولم يكن طعم الخيانة مرّاً كما يُشاع، بل كان لها طعم الإثارة والغموض. وكنت كلّما تضاعفت خيانتي لها يزداد إصراري عليه" (ص74)، "نذر فتح لي بوابة إلى عالم ملونٍ وعبر معي إلى هناك وما خسرت سوى شقيقتي لقاء ما كنت أفعل!" (ص37)، "أطراف الشجيرات لوّحت لي بوهن، وكنت بلا شعور محدد يسكنني" (ص42)، "ما كان يسكنني سوى شعور يتيم في تلك اللحظة الإثم، رغبة مجنونة لأن أحلّق معه.. وهكذا كان" (ص38)، كما أنها لا تشعر بالندم على خطيئتها: "لست نادمة، لكنني ضائعة" (ص48)، مع شعور بسعادتها بـ "الخطيئة" تتخلل لحظات شعورها بالحزن: "ليلتها، نمتُ على فراش خطيئتنا، وتذكرت جنوننا الذي اقترفناه كثيرا، تبسّمت بلذة مسروقة من بين لحظات حزني" (ص49)ويرافق كل هذا شعور بمجانية الحية: "انتابني شعور مؤلم، وفجأة أحسست بأن كل شيء صار تافها" (ص36).
وهناك الكثير مما يدل على هذا الذهان الذي جاء لتبرير سلوكيات بطلة السرد هذه السلوكيات التي كانت تعمل ضد قناعاتها "أتراني بحثت بين ركام كلماته، التي يجهدني فهمها في أحيان كثيرة، لأجد تبريرا لحماقات صرنا نمارسها؟ أم إنني أردت أن أكون متصالحة مع ذاتي وقناعاتي؟" (ص38).
تقنية السرد وتأكيد ذهانية البطلة:
تضع الروائية في عملها، ومن خلال تقنية تتكرر باستمرار، الكثير من الثنائيات الدّالة على وجود عالمين: عالم خاص لا يوجد إلا في داخل "مروانة"، وعالم عام تحاول توظيفه في صناعة عالمها الخاص. وتورد الروائية هذه الثنائيات بصفة متكررة من خلال خط مائل (/) يفصل بين مفردتين أو أكثر كي يدل على أن كل مفردة تلي هذا الخط تصلح بديلا لسابقتها، أو هي مرادف له، ومن ذلك: "شيء من حزن/ صدمة زوجها الذي تركنا" (ص44)، "نفس المكان الذي هيأ لخطايانا/ أفراحنا" (ص43)، "كانت دليلة ترجوه ليؤويني/ يسترني" (ص43)، "ها أنا رغم إعاقتي/ رجلي الناقصة" (ص31)، "راحلة للمدينة أبحث عن علاج لعَرَجي/ لفضيحتي" (ص43)، "غابت حدقتاها في العمق/ الموت" (ص79)، "باحثة عن خلاص من إثمي/ شناعتي/ فرحي!" (ص63). كما تورد هذه الثنائية من خلال إيراد صفة وموصوف يعملان ضد بعضهما على مستوى الدلالة ليوحي ذلك بأن لدى بطلة السرد ارتباك ذهني في تحديد أي المفردتين أكثر دقّة لوصف ما هي فيه: "مثل قطّة جريحة أربض بسجني، ونذر سجّاني الأعذب" (ص49)، "فيما تلوح على شفتيه ابتسامته التي أعرفها، يؤكد بها على الرجولة والقسوة النبيلة" (ص66)، فسجانها هو الأعذب، والقسوة تتصف بالنبل!. كما أن أحد أهم دوال هذا الذهان ما يرد في العبارة التالية: "كنت أراني مثل طفلة صغيرة غادرتها البشاشة صدفة، بريئة حدّ إغواء الجريمة ذاتها!" (ص44)، فهي ليست سوى طفلة بريئة رغم كل ما حدث، ليس لأن ما حدث يحمل صفة البراءة، ولكن لأنه دفاعها الوحيد ضد شقاء يجلبه العالم إليها على كافة الصُعد والمستويات.
هذه التقنية السردية كانت موفّقة جدا، لاسيما أن بطلة السرد كانت هي الراوي، فجاءت العبارات على لسانها ذات حدّين، كما أن جلّ عباراتها كانت تحمل معنى الشك المعرفي: (ربما، بدت لي، قد)، لتدلل على عجزها عن فقه ما يحيط بها من عسف، وهذا ما يبرر لها على المستوى النفسي ما كانت تقترفه من خطايا. كذلك نجد أنّ الكثير من الجمل تنتهي بعلامة تعجب (!)، حيث تصبح الظواهر المحيطة أكبر من أن تفهمها طفلة يتيمة ولدت عرجاء.
إن التقنية الروائية الدقيقة التي جاءت لتصوّر كل هذه الثنائيات استطاعت أن تكرس الشخصيات الذهانية حتى من خلال الجو العام للنّص، فالأختان متحابتان على ما يقابل ذلك من خطايا تقترفها "مروانة" ضد أختها دون أي شعور بالذنب، أو بالألم.
يقظة وذهان آخر:
من أجمل مشاهد الرواية هذا المشهد: "أطلقتُ صيحة تعبٍ زلزلت روحي. نُحتُ كما لم أفعل من قبل، شعرتُ جسدي كقطعة قماش بالية تعبثُ بها الريح، لطمتُ وجهي حتى أدميته، دليلة بضعفها تلملمني حتى تكوّرت بحضنها كطفلة شارفت على الإغماء بعد كابوس أفجعها!" (ص93)، فقد جاء في نهاية الجزء الذي يسبق آخر أجزاء الرواية، ملقيا الستار على "بلادة وسطحية شعور مروانة" تجاه أختها حيث رأيناها تشعر بطعم غير طعم المرارة عند خيانتها لدليلة مع زوجها نذر، لكن المشهد السابق يتلو كشف دليلة، وهي على فراش المرض، عن معرفتها بأمر تلك الخيانة. وفي هذا المشهد تسجيل لأول ردة فعل "طبيعية" تقوم بها "مروانة" تجاه قبحها: "لطمتُ وجهي حتى أدميته"، ليتلو ذلك مشهد آخر في الجزء الأخير من الرواية: ""كنت أمارس طفولتي مع ابني في الخفاء، أضحك متخففة من وطأة الحياة والخطيئة" (ص101)، تجمع فيه "مروانة" بين ثنائيتيّ "الحياة/الخطايا" كمتلازمتين لا تنفصلان عن بعضهما البعض لمن أراد أن يحلم بالاكتمال وسط هذا المجتمع العبثي.
لكن عبارة: "دليلة بضعفها تلملمني حتى تكوّرت بحضنها كطفلة شارفت على الإغماء بعد كابوس أفجعها!" ألا تدلنا على ردة فعل "غير طبيعية" تأتينا هذه المرّة من "دليلة" تجاه أخت دأبت على خيانتها مع زوجها؟. سنعلم -فيما يلي- أننا أمام شخصية ذهانية أخرى، هي في حقيقتها ليست إلا نتاجا طبيعيا لشرق نَكِد.
ثالثا: شيزوفرينيا "الشرق"
من يصنع الشرق؟:
الأسرار، تلك التي تتعلق بمصائر الأفراد ولكنهم لا يدركونها. فكل ما سبق يدل على أن غياب "الوضوح" يستدعي حضور الشقاء، حيث لم يكن زواج "دليلة" غير المفهوم من "نذر" نتاج فهمها لإشاراته كما تتوهم بطلة السرد، ولم يكن غياب الأب المتكرر اختياريا، كما لم تكن القطيعة بين منزل "حابس" وبين "البيت الكبير" نتيجة خلاف عادي يمحوه الزمن، ولكن كل ما تقدّم نسجته أيدٍ خفيّة على هيئة "فضائح" ثم "نميمة" ليتعالى بعد ذلك "صمت" مهيب لا يكفل إبعاد الشقاء عمن أصابه، ولكنه يجعله مُبهما حدّ ألا يستوعبه أحد: "كان الصمتُ يغلّف الأشياء بهيبة، بيوت خفيضة وأخرى مرتفعة بجدران لا تعرف الاستقامة تعبق بالرصانة العتيقة" (ص21).
مملكة السمّ!:
مع المزيد من الكشف، ولأن بطلة الرواية كانت "تنبش" عن الأسرار: "ربما كنت ندبة في حياة والديّ، لكن من يفسر لي تلك الأسرار التي تسكن عينا أبي" (ص82)، ومع هذا النبش نكتشف (مملكة السمّ)، المحرك الحقيقي لكل هذا البؤس: "ودليلة تلف الصبي، الذي صار لها، بعيون مغرورقة بالبهجة، بحب تلاعبه لتأخذه لمملكة تضج بالسم" (ص57)، فأي مملكة هذه؟. إنها "البيت الكبير"، حيث تظهر "غزوى" واحدة من أهم صانعي الأسرار/السموم التي تولّد عنها هذا البؤس: "وحدها الشيخة "غزوى" تحيا بعالمها الممتد، التَّرف المُريح" (ص75)، كما أنها تنثر السمّ في أي مكان تحل فيه: "لا تزال غزوى تتصنع فجيعتها ودهشتها" (ص99)، "نظراتنا المشتركة تجاه نذر الذي تقلّص ضيقا إثر الزيارة المسمومة لأمه غزوى" (ص99).
فهذه الأم كانت قد صنعت "مملكتها المسمومة" على خلفية دفعها لبؤس كاد أن يطالها: "غزوى كادت تُطَلّق لأكثر من ست مرات، كنت صغيرة لتعرفي، مصيوب أراد ولداً، في حين كانت الفتيات تملأن داره، وعندما وُلدَ نذر حياً، صارت غزوى الشيخة فعلا!" (ص27)، وقد خرجت من مأزقها هذا بصفقة سريّة كانت قد عقدتها مع "عوجة": "يوم ولادته، أرسلت الشيخة غزوى بطلب أمنا عوجة، عرفنا دليلة وأنا فيما بعد أنها كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحا، ولطين الأولياء الذي عجنته لها وقرأت عليه، فواظبت على إشعال بخورها السحري في الليلة الأخيرة من كل شهر" (ص34).
التحوّل الأهم:
تحوّل "البيت الكبير" إلى "مملكة مسمومة"، وذلك لأن "مروانة" أصرّت على أن تنبش الماضي: ""لا تحاولي النبش في الماضي، فكثير من الأمور إن أصررنا على الخوض فيها، تسوؤنا بشكل كبير، بل قد تقلب حياتنا لجحيم" (ص86). وهذا التحول الجحيمي ينشأ حين تعرف بحقيقة زواج ابن عمها من "دليلة"، فلم يكن هذا الزواج أكثر من "دين" على عاتق "الشيخة" المهددة في الماضي بفقدان مكانتها، والتي لم تصر شيخة فعلية إلا بولادة نذر: "عندما وُلدَ نذر حياً، صارت غزوى الشيخة فعلا!" (ص27)، وهي ترده لـ "عوجة" لأنها: "كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحا" (ص34)، فقد تم هذا الزواج المستغرب بمباركة "غزوى": ""أخرست الشيخة غزوى كل الألسن في مدينة الفضائح والوشايات بمباركتها العلنية لارتباطهما، رغم أنها ما كانت تطمح بتزويجه من ابنة "العوجة" كما تسميها نساء النزلة!" (ص16).
كما أن ماضي "شاهة" خالة "مروانة" ظلّ حاضرا على الدوام: "بقيت تلوكها أفواه أهل النزلة كلّما مرّ ذكر "شاهة" أو والدتك، أو حتى أبوكِ حابس" (ص95)، مما يجعلها تبدأ في إدراكِ سرّ غياب أبيها وأسباب أن تكون منبوذة، مع ما يحوم حول هذا الفضاء العابق بالأسرار والدسائس من حقيقة أن أمها التي ماتت وهي تلدها لم يكن لها قبر معلوم: "أطلقت سؤالي نحو أبي: لماذا لا تعرف أين دُفِنَتْ أمي؟!" (ص81). لنصل لحقيقة وجودها المرتبط بماضٍ لا يد لها فيه: "كم من الشكوك حطّت على بيتنا لنكون ولسنوات بعيدين عن بيت عمي، كبير وجهاء النزلة، وكم من الحكايات لفّقت ضدنا لنعيش ملثمين خوف افتضاح ذلك السّر؟. وضعت عيني بسواد عينه:
-وأمي؟
-رحلت بعد ولادتك، وبعد هرب (شاهة) بأيام" (ص96).
وفي ظلّ هاتين الحقيقتين اللتين تكشفتا لفتاة تريد أن تفهم فقدت بوصلة معرفة الدوافع: "في لحظة تساءلت:
-لِمَ كل هذا الجنون!
تذكرت جوابه على سؤالي هذا يوما:
-للجميع أسبابهم، لذا ينبغي أن نفهم الأسباب أولا" (ص38).
ذهان "دليلة":
وسط هذا الركام الذي لم يفهم فيه أحد أسباب ما يحدث سوى "غزوى" الصانعة للماضي، يتضح أن "نذر" على ما في اسمه من دلالة: "لا أدري إن كان اسم نذر قد ألصق النذور به رغما عن كل شيء، شفيت رجله لذا على أبي أن يوفي بنذره مع الله" (ص67)، لم يكن سوى نذر/ أداة مُثلى لردّ دين "عوجة" القديم، فتزوج من "دليلة" على غير ما أراد، وبدون أن يفهم سرّ هذا الزواج، وهو ما يفسرّ ألا يشعر تجاهها بشيء: "لا يلمسني! يتعطّف عليّ بقبلة على جبيني كل صباح، أدخل بعدها لأستحم وأترك شعري مبلولا، لا أدري إن كنت أخدع نفسي أم أوهِمُ غزوى!" (ص37). وهذا الاعتراف الذي تدلي به دليلة يأتي بعد أن صنعت وهمها الخاص كي تكون لائقة بدخول البيت الكبير: "ففي ليلتنا الأولى ما ارتوى من تقبيل شفتي" (ص23)، "لأكمل لك.. في ليلتنا الأولى مزّق ثوبي الأبيض، ربما ما استطاع الانتظار حتى أخلعه..!" (ص24). ومع استمرار إعراض نذر عنها تدخل دائرة الذهان الجمعي، وتعقد -هي الأخرى- صفقتها السريّة: "كانت شفتاها تصنعان ذاكرة ابتسامة بعيدة، ومُطرقة سألتني: أتعطينني هذا القادم؟!" (ص42). ومع توالي السّرد نكتشف أنها تعلم الكثير عن أمر هذا القادم: "رأيت بوضوحٍ كيف أطلق وجهها سراح نقمته" (ص56)، "وحينما نصمت، تظل أعيننا بلقاء حذر، كنت أشعر بأن دليلة تحوم حول الحقائق بشكل ما" (ص77). حتى نصل إلى سرّ هذه الصفقة: "يتعبك أن يخفى عليك سرٌّ لأمك، لكن يحرقني أن أعرف وأمثّل بلاهتي، كم يخنقني هذا الشعور!" (ص91)، "لم يكن صعباً عليّ أن أعرف بعلاقتكما، كما لم يكن سهلا عليّ الاحتفاظ بسرها وممارسة حياتي كأن شيئا لم يكن!" (92)، "كنت عاجزة عن الإنجاب، عن الاحتفاظ بالمشْيَخة والصيت، لهذا كنت أتوق لطفلٍ حتى ولو كذباً!" (ص92)، فهذا هو السّر، من أراد أن يحافظ على البقاء في مملكة السمّ فلا بدّ أن يساهم في نسج بعض خيوطها وصناعة أوهامها الشقيّة: "أشد ما كنت أخشاه أن تعرف أمي بأمركما، أشفق على فرحها بي، لذا حينما رَحَلَتْ، هدأ جزءٌ من قلقي تجاهها!" (ص93).
لقد كان ذهانا مقصودا، أن تصنع -هي الأخرى- عالمها بطريقة مريبة، وحين فاق كل هذا البؤس احتمالها دخلت ذهانها الخاصّ والموجع: "لأيام طويلة ظلّت دليلة تصنع عرائس الصوف، تفرز ألوان الخيوط والعصي الخشبية والقطن الأبيض، تتشاغل بها طوال ساعات الليل والنهار" (ص101)، "خلال عشرة أيام، كانت العشرات من بنات الصوف تتناثر في غرفتها" (ص101)، وليبلغ بها الأمر أن تستغرق في عالم الدّمى: "كانت تصنع المزيد من عرائس الصوف بانهماك صار يخيفني! كان وجهها ينطق بأسئلة كثيرة رغم صمتها القاسي وتركيزها الجاد بخيوط الصوف" (ص104)!!.
رابعاً: عرائس الصّوف
السياج/البئر:
تقرر مروانة في نهاية الرواية حقيقة مجتمعها الذي يحاصر أبناءه بالمحظورات: ""سأترك المهمة لنذر، لأنني كنت ولا أزال تلك البنت التي خرجت من محيط لا يبيح لها القفز بحريّة، خصوصا ناحية القلب!" (ص106)، ويأتي هذا التقرير بعد أن صارت "امرأة كاملة" (ص106)، ليلخّص لنا أي تجربة مرّت بها. ففي الصفحة الثالثة من الرواية ترد مفردة: "السياج": "دأبنا على تسلّق سياج السطح في الصباح الباكر وبعد كل ظهيرة" (ص11)، ليتوالى سرد ما سترتب على جهل فتاتين معنى ووظيفة هذا السياج، فيقعن في شقائهن الخاص!.
كما تتكرر مفردة "البئر" كثيرا في الرواية: "قبيل غروب الشمس قررتُ معاودة جنوني، قضيت فسحة من الزمن على حافة البئر/بئرنا، باشرت رمي الأحجار، مرهفة السمع لهمهمات الأرواح الهائمة ومناجاتها.. رأيته." (ص17). لنعلم حقيقة ما ترمز إليه من غموض وأسرار هي الصانع الفعلي لهذا الشقاء.
وفي ضوء هذه العوالم التي لا تعطي للأسباب أية أهميّة، بل إنها تجعل الأسباب/الأسرار شيئا يستعصي على السؤال، ويأخذ درجة القداسة: "كنت بعد كل استغراق متعب بالتفكير، أشعر أنني أتوه، وأن النفق الكان مظلما صار بلون العتمة التي نشأت بها مدينتنا الجنوبية المحكومة بالأعراف المفصّلة بشكل أضيق من قياساتنا بحيث لا يمكننا الخوض بتفاصيل كلنا يود السؤال عن جدوى ممارستها بكل تلك القدسية، وكأن الله شرّعها!" (ص29)، في ضوء كلّ هذا يتواطأ أبطال السّرد على صناعة أسرارهم الخاصة، وعلى خلق عوالمهم، وعلى المشاركة في تشريع الشقاء واستهلاكه ورمي الآخرين به: "حشرنا أنفسنا بمصير تجاوز كل اللامعقول" (ص72)، وذلك ضمن اتفاق غير معلن: "ورغم تكرار الزيارات إلا أنها ظلّت محتفظة بنوع خاص من الغموض ترك منطقة ما دون مجال الرؤية باتت مُتجاهلة منّا نحن الثلاثة وكأنها اتفاق ضمني للحفاظ على سرٍ ما!" (ص61).
لعبة "الدّمى":
في خضمّ هذه العوالم البائسة تقرر "دليلة" حقيقة عرائس الصّوف: ""كان طبيعيا أن نتعلّق بتلك (الدمية) التي تهدينا الفرح اللذيذ" (ص93)، فنذر لم يكن أكثر من دمية حركتها أمه "غزوى" تجاه "دليلة" كي تفي بدين قديم يرى في "عوجة" سببا رئيسا في احتفاظها بمملكتها، و"دليلة" لم تكن سوى دمية حركتها أمها عوجة نحو مملكة السمّ كي تكون ملكة وليس مجرد ابنة صانعة، كما أن مروانة دخلت هذه الدائرة المترابطة من عرائس الصوف كي تصنع من "ورد" الابن مبررا لدخول "البيت الكبير".
والأهم من ذلك ما يتخلل الرواية من عبارات دالّة على أنها كانت ترى في "نذر" مجرد دمية تسد بها جوانب نقصها بعد أن قررت ألا تبقى على الهامش بشكل دائم:: "لكن كان لا بد من أن أمارس حقي كامرأة كاملة رغم النقص والنظرات المشفقة" (ص34)، فتأتي ممارستها لهذا الحق من خلال "دمية" تقرر أن تحبها/تصنع وهمها الخاص من خلالها، وهذه الدمية هي "نذر":"كنت ألوح بداخلي هامسة باسمِهِ، قلقة على لاشيء ربما على حبنا الذي سيكون." (ص18)، "سأحبّك بقوّة". (ص20)، وتبرر لذلك بالحاجة لهذه الدمية التي رأينا أنها في نهاية الرواية عبّرت عنها بأنها مجرد نصف رجل، حيث صنعت منها متكأ: "ها أنا رغم إعاقتي/ رجلي الناقصة، أجد نفسي قريبة من رجل يجعلني أهذي حبا بعد أن عبرت الليالي وحيدة" (ص31)، "رمى بعقب لفافته، ونزل برشاقة من حافة البئر، تركني للسواد الهادئ.. ربما نسي بأني أحتاج لمساعدته لتطأ قدمي الأرض!" (ص73)، فبهذه الدمية ستطأ قدمها الأرض، وهو عندما يتركها للسواد الهادئ تعقّب بقولها: "اتكأت على ساقي الثانية، ووحدتي ومضيت" (ص73).
دائرة صناعة البؤس:
ولأن أحداث الشرق تتم صناعتها على حافّة بئر/سر، ولأنه شرق لا يعترف بالوضوح مع أبنائه فإنهم بحاجة لأفواه قادرة على "تزييف" واقعهم ليستطيعوا التعايش مع هذه المجتمعات النّكِدَه: "ستكونين قريبة منه، لكنك منذ اليوم ستحتاجين لفمٍ مطاطي يتسع لعويل الانطفاءات القادمة" (ص59)، وبهذه الأفواه المطاطية/الزائفة تتم صناعة البؤس!. كما أن هذا البؤس الشرقي مبرّر باسم القَدر: "لقد اختاركما القدر لتكونا معا، فلا تندمي على شيء، أبدا!" (ص48)، "لا ملجأ، يا فراشتي، لمن أصابهم القدر غير فكرة القدر!" (ص74)، فالقدر هو صانع كلّ هذا!، وعليه فهو المخرج والمبرّر لخطايا الشرق التي تلد الشقاء والبؤس نتيجة السرّية والغموض.
لقد اكتملت "مروانة" مع نهاية الرواية لأنها أدركت معنى الشرق، بينما تراجع "نذر" عن اكتماله إلى درجة أن يكون مجرد "نصف رجل"، فقد تجاوزته مروانة، صنعت سرّها / خطيئتها التي صنعت من عالمها ما يجعلها جديرة بالحياة في هذا الشرق. فبالخطيئة والسريّة وتبرير الشقاء والتلذذ به اكتملت "مروانة"، ليس لأنها شرّ محض ولكن لأنها أرادت أن تمارس حقها كاملا، وقد رأينا كيف ذهب هذا الحق بمجانية نتيجة صفقة نُسجت في الخفاء قبل ولادتها. لقد اكتملت إلى درجة أنها صنعت لابنها "ورد" شقاء قادما لا يد له فيه، تماما كوالدته ووالده، فحين يكبر سيجد نفسه محاطا بأسئلة محرّمة وآبار تختزن الحقيقة المؤلمة داخلها فلا تفصح عن شيء وسط عالم يلوك الأسرار ويعيد إنتاجها: "في مدينتنا حيث لا سر يستطيع حجب نفسه، حتى أسرار الفراش كانت متاحة، أسرار العشق والأحلام المعلّقة والوله كلها تلوكها الألسن.. تظل تكبر حتى تذوي وتتلاشى مع انحسار الضوء.. في مدينتنا الضيقة حدّ الاختناق، يثرثر أهل "النزلة" ولا يتعبهم تناقل الحكايات الجديدة كلّ يوم، محاولين إيقاعنا بفخاخ النميمة المعتادة!" (ص17)، وفي مجتمع يعتاد النميمة ستتوالد الأسئلة، في مجتمع كان قد قرّر مع زواج دليلة ونذر -سلفا- ما سيطبع السنوات المقبلة بشقاء جديد عادي: "غدا ستملأ له البيت فروخاً سود، وستُكوى الشيخة "غزوى" حرقة بهذا النسل الفاسد!" (ص14)، فأي أسئلة سيبحث عن إجابتها هذا الطفل؟، وكيف سيجد الإجابات؟ وهل سيبادر لتذوّق هذا الشقاء بتلذذ حتى يدخل في دائرة التوارث المجاني له كمسلّمة شرقيّة؟ خصوصا حين يكتشف أن "مروانة" لم تكن إلا وجها آخر لـلشيخة "غزوى"، فكلتاهما دخلت المملكة المسمومة بصفقات سريّة وبائسة؟!!.
خامسا: ملاحظات حول السرد وتقنياته
حول الوقائع:
تكاد الرواية أن تكتمل، بل إن ما سأشير إليه فيما يلي -ويتلخص في واقعتين- لا يعدو كونه إحدى مسلّمات وقوع أي رواية في "أخطاء"، ولكن هذه الأخطاء ليست باعثا للانتقاص من العمل الفني، إذ يمكن توظيف بعض الأخطاء السردية في دعم الجانب الجمالي لأي عمل ولاسيما عندما لا نجد هذه الأخطاء قد تكررت بشكل فادح، أو أنها لم تكن أحد العوامل العاملة ضد اكتمال الوقائع أو مؤدّية إلى تفككها.
وفي رواية "عرائس الصّوف" أشير للواقعتين التاليتين:
أولا: يمكن ملاحظة الفارق الزمني بين "عوجة" وبين ابنتها "دليلة"، والذي يصل إلى ثمانية وأربعين عاما: "من السطح نازلة متكئة على سنواتها السبعين" (ص67)، وبعد موتها ترد هذه العبارة: "فات من عمرك أكثر من اثنتين وعشرين عاما، فعن أي سرّ تتحدثين" (ص90).
وإن كانت هذه المفارقة ليست مما يستحيل وقوعه عادة، إلا أنها تبدو مفارقة كبيرة نوعا ما، ويمكن تبريرها من جهة كون "عوجة" ذات عمر يتيح لها معرفة الكثير من الأسرار التي أثرت في سير الأحداث بشكل كبير.
ثانيا: ترد حقيقة أن نذر يكبر "مروانة" بعشرة أعوام: "يكبرنا بعشرة أعوام" (ص10)، لتورد الروائية مجموعة حقائق دالة على ولادته في طفولتهن: "شدني كلامها وتعلقتُ بدفء ثوبها. بصوتها الخفيض، تمتمت: مسكينة غزوى، قد يكون وجعها الجديد دون فائدة!" (ص33)، وأيضا: "يوم ولادته، أرسلت الشيخة غزوى بطلب أمنا عوجة، عرفنا دليلة وأنا فيما بعد أنها كانت مدينة لها بولادة نذر صحيحا" (ص34)، وَ"غزوى كادت تُطَلّق لأكثر من ست مرات، كنت صغيرة لتعرفي، مصيوب أراد ولداً" (ص27).
ويمكن تبرير ذلك فنّيا بكون الساردة/مروانة تسرد الأحداث بطريقة "ذهانية" يتخللها نشوء كثير من "الضلالات" والهلاوس، ومنها هذه الواقعة التي تعيد سردها كما لو حدثت أمامها فعلا، وقد أشرت فيما سبق لنماذج