المربد بين حبس الإبل واعتقال الإبداع!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كنّا سابقا نحن العراقيين المرغمين على البقاء خارج الوطن، أي في عهد "القائد الضرورة" نتابع أخبار الوطن العراقي بشوق مشوب بمرارة المنفى، وحرارة حب العراق وأهله، وكُرْبة مَنْ ينظر إلى جسد طفله الوحيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا طاقة له على درء ما يحدث.
كان العراق يلاحقنا في كل خطوة نخطوها، مدافعين عنه، مُعَرّينَ همجية نظامه ومحذرين مما قد تؤول إليه الأحداث من خراب للبلاد. جراء ذلك تحملنا ظلم ذوي القربى وظلم إخوتنا العرب وسواهم ممن وقعوا تحت تأثير النظام وماكنته الإعلامية الجهنمية أو ممن أغرتهم الشعارات القومية الطنانة الفارغة. كان حرصي (أنا وحرص نظرائي من الشعراء والكتاب والفنانين والصحافيين والأكاديميين والمثقفين الشرفاء الآخرين، كل حسب موقعه وإمكانياته)، يتمثل في تحقيق حلم يراودنا، كان فعلا، مثاليا، يمكن اختصاره في جملة: عراق حر متحضر متسامح يكون فيه القانون هو الحكم الفصل. كان حلمنا على الصعيد الثقافي يتمثل في التخلص من ثقافة الاستبداد والعنف، ثقافة الانحطاط والانغلاق والمديح والتزلف، ومن ثم الوصول إلى حالة تسود فيها ثقافة ديناميكية تعتمد على التنوع والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، ثقافة تستند على الإبداع والتنوع. كنا نحلم ونحلم. حتى أنني كنت من أولئك الزاهدين الذين توقفوا عن النشر داخل الوطن احتجاجا، اعتبارا من 1979. كان عدم النشر ومقاطعة الفعاليات الثقافية للنظام، يعني فقدان الصلة والتواصل مع القاريء العراقي حتى إشعار آخر. ويعني ذلك الحكم على النفس بالنسيان داخليا، إلى أن تُفرج. حتى ولد جيل من العراقيين أو أكثر وشب وبلغ ولم يعرف أسماء معظمنا. كنت أنا من الذين حاذروا من الاتصال حتى بأهله الذين تظاهروا بموتنا أو بخروجنا عنهم، حتى أن أبي وأخي قد اعتقلا في التسعينات تحت حجج وذرائع واهية، لأن الأسباب الحقيقية معروفة، ناهيك عن افتعال سبب بائس لقتل أخي في وضح النهار على يد مخبر أجير. في تلك الفترة بالذات حيث أخذت المهرجانات والفعاليات الثقافية الرسمية تحتشد بضيوفها من المأجورين والمغرر بهم عراقيا وعربيا وحتى عالميا، كنت أنا ونظرائي نعاني من حالة من التضييق والحرمان والتغييب داخل الوطن، ولم نكن نادمين على ذلك، بل كنا نشعر بأوسمة الشرف تنهال علينا معنويا، كانت حسرتنا ومعاناتنا لامحدودتين. كنتُ قد دُعيت ثلاثَ مرات(في أوقات متفاوتة، إحداها أواخر1979 ولا أدري هل كنت ماأزال أتمتع بعضوية إتحاد الأدباء العراقيين آنذاك أم لا؟ ) عبر وسطاء سفارة النظام المقبورلحضور مهرجان المربد ورفضت. لايوجد بلد متحضر بدون مهرجانات ومؤتمرات وفعاليات ثقافية وعلمية، ولا يمكن للثقافة أن تنمو وتتطور بمعزل عن الانفتاح والتسامح والابداع. كما ولا أظن أن مهرجانات العالم الشعرية والعلمية تدعو دائما وأبدا المبدعين فقط، فثمة هناك الغث والسمين. على أن المهرجان أو المؤتمر الذي يحترم نفسه هو ذلك الذي ينأى بنفسه عن غلبة المتطفلين والسطحيين والمطبلين وعن المعايير الحزبية والطائفية والإخوانية.
كانت الثقافة العراقية قبل سقوط النظام الصدامي، باعتراف الغالبية، أحادية الجانب، وتسود فيها أجواء التطبيل والتمجيد والتزلف ودس الرؤوس في الرمل، كانت ثقافة ارتزاق لا علاقة لها بالابداع مطلقا. كانت غريبة عني وعن نظرائي. كنتُ ألعنها في داخلي أنا الذي لا أحب الأضواء كثيرا، وأحتقر خلق وتلفيق الأخبار والأساطير والخرافات البائسة كيما يتصدر اسمي هنا وهناك في قوائم الولائم. كنت أعيش على الكفاف وحتى بدون أوراق ثبوتية وموارد كافية للعيش الكريم، لفترة ليست قصيرة.
في خضم هذا الوعي، كنتُ، أسوة بالآخرين في منفاهم الإجباري أو الاختياري، أنتظر الخلاص، وفي ذهني بيت المعري العظيم:
أما اليقينُ فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدِسا
ما الذي حصل بعد مجيء الخلاص؟ كانت "وزارة الإعلام" وفيما بعد" وزارة الثقافة والإعلام"، و"اتحاد الأدباء العراقيين" وجهاز الأمن والمخابرات هي الأطراف المشرفة على تنظيم "مهرجان المربد" وغيره، على سبيل المثال. بعد سقوط بغداد المريع رسميا في 9 نيسان 2003، حاول عطارو "العراق الجديد" إصلاح ما أفسده الدهر. فما الذي جرى إصلاحه؟
كمثقفين، تطلعنا إلى إصلاح الثقافة ومكوناتها. ومن جديد تم تشكيل لجنة من وزارة الثقافة العراقية"ببرقعها الجديد المهلهل" واتحاد الأدباء العراقيين بتشكيلته الجديدة القلقة، ولجنة تنظيم مهرجان المربد المتكونة في معظمها من "أهالي الحي ذاته والعشيرة المربدية ذاتها"!
من يحق له يا ترى(أخلاقيا ونقديا) في بلد محطم يعج بالفوضى وانعدام الأمن وأبسط شروط الحياة الإنسانية وعشرات السنين من الحجر والقطيعة مع نفسه والعالم، أقول من يحق له أن يُزكي هذا الشاعر والأديب أو ذاك وأن يُعفي أو يُلغي أو يُغيّب دور هذا وذاك؟ كيف استطاع الكثير من مطبلي الأمس أن يتغلغلوا من جديد في عصب الوسط الثقافي ويتحكموا به ويحكموا بالنسيان والتجاهل من جديد على جمع كبير من مثقفي العراق في المنفى وحتى في الداخل؟! لماذا هدرت أموال شعبنا الجريح في تنظيم مهرجان شعري، في جله، يكرس التقليد والمدائح واللطم، مهلهل يفتقر إلى أية مصداقية فنية(ربما باستثناء نزر يسير من الأسماء التي تجشمت عناء السفر ومغامرة الإقامة في ظل سيادة منطق القنابل والتخلف والتكفير) أو خطة جديدة ومشروع مغاير لما كان متبعا زمن النظام المقبور. فالآليات التي تتحكم بالمهرجان وتنظيمه تكاد تكون ذاتها التي كانت سائدة قبل سقوط بغداد.
هل خرج المربد في دورته الثالثة عن الشعارات الفضفاضة؟. كان المربد في بصرة العلماء والمبدعين والطيبة والنخيل، ينتظر من يعيد إليه بهاءه، مثلما يعيد بناء فيحائه المدمرة، لا إلى من يجعله منبرا لهدر الأموال العامة، وللتقليد والإخوانيات والعلاقات الحزبية والأيديولوجية الضيقة التي سبق وأن أطاحت بالعراق وبثقافته على وجه الخصوص. من الغريب أن تتحكم بعض الأحزاب والتنظيمات والميليشيات والإخوانيات بتحديد قوائم المدعوين!
إن نجاح مهرجان ما، أيا كان وأينما كان، لا يعتمد على كمية الحضور(مائة وخمسون شاعرا في وليمة واحدة!)، بله على برنامجه وعلى الأهداف الثقافية والإنسانية المرسومة له والمرجوة منه، وعلى نوعية حضوره. سمعنا كلمات طنانة وإطراءا مجانيا لهذه الفئة وتلك، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وكأن الوضع لم يتغير عما كان سائدا في الماضي القريب!
نعم، العراق الجديد وسواه من البلدان، بحاجة إلى تفعيل جاد لدور المؤسسات الثقافية والعلمية، بل حتى إلى القيام بعمليات قجراحة قيصرية لهدم المنهار والمتآكل منها وخلق البديل، وهذا دليل عافية وازدهار. على أن تنشيط الحركتين الثقافية والعلمية يتم أيضا عبر قنوات متعددة من بينها إقامة الفعاليات والمهرجانات والمؤتمرات والندوات الثقافية المنظمة جيدا والمسؤولة. أهذا ما جرى ويجري في العراق حقا؟ أهذا ما جرى في المربد حقا؟! أشك في ذلك! اتصل بي تلفونيا أحد العائدين من المربد قائلا: أنا نادم على مشاركتي، وحينما ذكّرْته ببيت الشاعر(ربيعة الرقي) القائل:
أراني، ولا كفرانَ لله، راجعا بخفّيْ حنين من نوال ِ ابن حاتم
ضحك عاليا وأردف قائلا بنبرة مشوبة بالحزن: ما كنتُ أحسب أن الأمور ستصل إلى هذا الحد!!
أغلبنا يعرف معاني المربد المتعددة لغويا وثقافيا، حتى أن هناك حيا بهذا الاسم في البصرة على ما أظن. لكن يكفيني هنا أحد معانيه القائلة بأنه يعني مكان "حبس الإبل". فهل يا ترى قد بلغ المربد حقا عنوان هذا النص: المربد ما بين "حبس الإبل" واعتقال الإبداع؟