كيف لي أن أكذب بصدق؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كم هو متعب ضمير المتكلم النسائي، وكم كُتب عنه الكثير، حتى أصبحنا نبحث عن ضمير محايد يبتعد كثيرا عن الأنا. في البدايات كانت النساء تتخفى وراء أسماء مستعارة، مثل شارلوت برونتي، وجورج ساند، ورفيقة الطبيعة، وغيرهن من النساء ومازلنا نشعر اليوم، في عصر أصبحت الكتابة ترتاد مناطق جريئة للافصاح عن الذات، بالحصار الواقع على أدمغتنا التي تتخيل، وهذا إشكال مرده إلى أننا نعتقد دوما أن ضمير الأنا هو ضمير يعود مباشرة إلى الذات التي تكتب. ليكن، ما الإشكال إذن؟ ماذا لو تحدث هذا الضمير عن الشخص الكاتب؟ ما الذي يحدث لو أن هذا الضمير يريد أن يكتب ذاته؟
ينبغي أن نؤمن أن الأنا عائلة كبيرة، كما يقول فيليب لوجون، فهي تخفي بداخلها سُلّما من المراتب، إذ هي تضم الأنا والأنت والهُم... إلخ، فلماذا لا نتركها تتنفس بحرية؟ ألا تكفي كثرة العيون التي تتلصص على هذا الضمير وكأنها ستزج به في مقابر مظلمة، "أنظر إنها كتبت عن ذاتها وليس عن شخص آخر"، "أنظر إن الشخصيات التي تتخفى وراءها الكاتبة هي نفسها الكاتبة، إنها التي خانت، إنها التي تبحث عن مغامرة عابرة، إنها هي نفسها تلك الشخصية...هي كل تلك النساء". إن هذا الإشكال هو الذي دفع بالعديد من الكاتبات اللواتي كتبن سيرهن الذاتية أن يتحدثن عن علاقتهن بالجنس الآخر بكثير من الالتباس، حتى بتنا نبحث عن الرجل الذي تكتب عنه المرأة في سيرتها الذاتية وعن شكل ملامحه التي تكاد تنعدم. فها هي ليلى العثمان تحكي في سيرتها "المحاكمة" عن شكل لرجل غريب، ويحضر من خلال الحلم كوسيط يعوض الواقع الحقيقي. تقول: "أحس بذراعين دافئتين تحتوياني. بكفين حنونين تجوبان بقاع أرضي الراكدة....بشفتين مغسولتين بالزعفران تهمسان بأذني... تداعبان شفتي.. أدخل في حالة عشق مع أحد لا أراه". وها هي ربيعة السالمي في سيرتها "الجلادون" تقول: "استلقيت فغفوت، فإذا بي في الغفوة الخفيفة أحس بطيف قد تسلل إلى جسدي....وجدتني بعد الذي حدث مشبعة...ثم أخذتني رعشة برد قارس، فأسرعت أدثر جسدي بكل ثوب موجود. من يكون؟ ليس بشرا كالبشر أعرفه، ولا جنيا كما تصوره الحكايات".
إن هذه الكتابة في السيرة الذاتية معناها أن الرجل يحضر من خلال أقنعة عديدة تتخفى وراءها كاتبة السيرة الذاتية، فهي تخاف العيون لذا فإن كتابتها تنتقل من البوح إلى التخييل، ولذا أصبحنا نقرأ التخييل الذاتي، وتحول الأدب الذي يبوح إلى أدب يبحث عن إجابة لسؤال آخر، ألا وهو كيف لي أن أكذب بصدق؟ وتحولت الكاتبات إلى منجزات لهذا المشروع الكاذب الصادق والهارب دوما إلى التباسات لا تنتهي. إن ضمير المتكلم لا يعني بالضرورة أنه ضمير يحيل على الكاتبة (أو الكاتب)، وسبق لي أن كتبت في إحدى قصصي ـ "رغبة فقط" ـ عن سيدة تتحدث بضمير المتكلم عن علاقتها بزوجها وابنها، وكنت آنذاك عازبة، فتفاجأ أحد قرائي حين عرف أنني لست متزوجة،إذ اعتبر أن الشخصية التي كتبت عنها بضمير المتكلم هي نفسها الشخصية الكاتبة، وهو ما حاولت أن أفسره بعد جهد جهيد، فأنا لا يمكن أن أكون كل تلك الشخصيات، قد تقترب إحداهن مني ولكني لست كل هؤلاء، ثم إن الكتابة الأدبية ليست في حاجة إلى البحث عن تطابق ضمير المتكلم مع الكاتبة، بل إلى قراءة النص أولا وإلى الوصول إلى رسالته، فلا تتعبونا بهذا الضمير!