تجربة انسانية مسكونة بالحزن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلوى اللوباني من القاهرة: صدر كتاب "أوراق الجارح" عن الدار للنشر والتوزيع لخالد اسماعيل، وهي أوراق تحمل تجربة انسانية بسيطة ممزوجة بالهم العام للوطن، تجربة مليئة ومسكونة بالمواقف الحزينة، قرر خالد اسماعيل نشرها لتكون بين يدي تلاميذ وأصدقاء ابن عمه الجارح عبد الباري صاحب هذه الاوراق، الذي رحل عن الدنيا منذ سبع
الجارح والهم الانساني
أوراق هي أقرب الى مذكرات شخصية للجارح، انتهى من كتابتها عام 1992، أوراق فيها خلاصة آرائه وخبراته ومعارفه، ومواقف وأحداث توضح غياب العدالة، والتفاوت الطبقي، صعوبة الحصول على وظيفة، غياب الاخلاق تحت ضغوط الجوع والحرمان، محاولة القضاء على استغلال الانسان لاخيه الانسان، كانت قضيته الاساسية الدفاع عن الفلاحين والعمال في مواجهة البرجوازية الحاكمة، بدافع من إيمانه الشديد بالفكر اليساري الذي بدأ من خلال قراءة رواية الام لمكسيم جوركي، وقراءة قصة حياة "لينين" الذي جعل من روسيا البلد المتخلف بلداً عظيماً حسب تعبيره، ومن ثم انضمامه الى الحزب الشيوعي، كان متأثراً جداً بالاتحاد السوفيتي ومعتزاً بوقفته مع مصر في العدوان الثلاثي وفي بناء السد العالي، لذلك كان يرى أنه من الممكن أن تتحول قريته الى نموذج يحتذى به من خلال تطبيق أفكاره الثورية.
تجربة الجارح
كان يرى أن الاشتراكية هي طريقه للخلاص في الحياة بتطبيق افكارها الحقيقية، وليست بنظام الدولة البوليسية الناصرية حسبما ذكر، فحاول استقطاب عدد من أولاد القرية لمشاركته فكره ومشروعه لخدمة القرية، الا أنه وجد عدد كبير منهم توقفت احلامهم عند مشروع الزواج والاستقرار والوظيفة، كان يتصرف من منطلق أن الثوري لا يحق له أن ينشغل باحلام الزواج والاستقرار والانجاب والامتلاك على حساب النضال السياسي ضد البرجوازية الحاكمة، فأعطى أبناء قريته من عقله وحياته الكثير، أصدر مجلة صوت الجماهير، والمجلة الحائطية "الشرارة" التي كانت نافذة لشباب القرية الموهوبين في القصة والشعر والرسم والتحليل السياسي، كما فتح فصلي محو الامية للرجال والنساء، وفكر في جمع التراث الغنائي في كوم النجار قبل أن يندثر، وحاول تشكيل كورال غنائي من أبناء وبنات القرية، الا أن العادات والتقاليد حالت دون ذلك وتصدوا شيوخ القرية له.
أزمات الجارح
ومن خلال أوراقه تتابع الظروف العديدة التي تضافرت لوأد تجربته الانسانية الاجتماعية، عانى في حياته من مضايقات وشائعات ضباط ومرشدي مباحث أمن الدولة، ونفاق ونذالة رؤسائه، وبعض شيوخ وزارة الاوقاف الذين لعنوه وكفروه في خطب الجمعة بتحريض وأوامر مباشرة من أحد المسئولين عن مكافحة الشيوعية، وعندما ظهرت جماعات الاسلام السياسي تصدى لافكارهم السلفية التي استهدفت ابعاد الناس عن الصراع الطبقي الحقيقي، بالاضافة الى أزمات أدت الى معاناته نفسياً وعصبياً منها، صراعه مع والده بعد تأسيسه فصول محو الامية، وانتهى الصراع بالقطيعة والمطاردة في المحكمة ومركز الشرطة والنيابة، بالاضافة الى انتحار والدته، وزواج حبيبته من ابن خالها، بعدما رفض والده زواجه منها، لأنها تنتمي الى عائلة الحمارين "أي الذين كانوا أفرادها يحملون المسافرين وامتعتهم على حمير، وقد ترك هذا الرفض في نفسه جرحاً كبيراً لأن والده لم يعر انتباهاً الى أن والدها كان مناضلاً من أجل الوطن، ومن ثم صراع أخوته على التركة بعد موت والدهم، وأتى انهيار الاتحاد السوفيتي لتنهار معه كل الافكار التي عمل من أجلها.
خلاصة التجربة
بأنه أنفق سنوات من عمره من أجل أن يجد أهالي "كوم النجار" الدواء والغذاء والحرية، ولكنه انتهى وحيداً لا يجد ثمن الدواء ولا الراحة ولا الصديق الذي يثق فيه، بالاضافة الى نبذ الاهل له، تعب كثيراً لمواصلة الطريق قائلاً.." لقد تعبت حقاً ولن أستطيع مواصلة هذا الطريق، ليس لانني كرهت أجمل حلم وأنبل عقيدة، وليس لانني اصبت بالامراض الجسدية والنفسية، لكن لأنني بذرت بذور "الفكرة" في أرض لا تصلح، أو لأنني قاصر التفكير، غير قادر على معرفة أسرار المكان وكيفية التعامل معه، وأنا لا أريد أن القي اللوم كله على الناس، رغم أن العقل والمنطق يقضي بأن هؤلاء الذين كافحنا من أجلهم يتحملون جزءاً من هذا الخراب والفساد والعبء الواقع عليهم".