عالم الأدب

الدهشة والمطر والحزن وعودةالشعر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


بيروت (رويترز) - قراءة كتاب الشاعرة والفنانة التشكيلية سوزان عليوان الأخير "كراكيب الكلام" يخلق في النفس حالة متعددة الألوان على تباين وانسجام غريبين. فمع الدهشة والأسى اللذين يخلقهما فينا عالم الشاعرة وشَبَه الخدر الحلمي الناعم وهذا الحزن السيال.. فرح خفي لا بالألم المتساقط رذاذا أو انهمارا.. بل باكتشاف أعمال تضاف الى أخرى ليست كثيرة عندنا الآن.. تعلن من جديد "عودة" الشعر الى الشعر. انها عودة للعاطفة والانفاس البشرية.. وهي هنا صور طازجة لم تجمدها سيطرة ميكانيكية للفكر أو تحكم واستبداد لواقعية كأنها تطل عبر "مجاعة عاطفية" طويلة. التجربة الشعورية هنا تذيب الفكري والواقعي الباردين وتخلق منهما ومن غيرهما "واقعا" بعيدا عن "التقريرية" وفياضا حارا يطرد البرودة وان كان مؤلما حارقا حينا آخر. بهذا ومثله تعود المتعة الفنية الى الشعر.
إلا ان القاريء الناقد لشعر سوزان قد يجد نفسه أحيانا كثيرة سجين صورة نمطية من الموضوعية بل التجهم تحرمه من الاسترسال في التعبير بعفوية عن أثر العمل الفني فيه تعبيرا ذاتيا. وهذا لا ينفي أن "كراكيب الكلام" ممتعة مميزة تستحق قدرا كبيرا من الإشادة.
لسوزان مجموعات شعرية سابقة لا يقل عددها عن ثماني مجموعات صدرت في بيروت والقاهرة في طبعات "خاصة ومحدودة" بين عام 1994 وعام 2004. جاء في موقع سوزان الالكتروني ان الشاعرة الفنانة ولدت في بيروت سنة 1974 من أب لبناني وأم عراقية الأصل وبسبب الحرب صرفت سنوات طفولتها ومراهقتها بين الاندلس وباريس والقاهرة. تخرجت عام 1997 من كلية الصحافة والاعلام في الجامعة الامريكية في القاهرة.
غلاف "كراكيب الكلام" هو لوحة فنية بريشة سوزان حملت اسم "شارع المطر". ورسوم الشاعرة التي اوردها موقعها تتميز برهافة وباجواء عالم طفولي حالم يرسم أحيانا لا بتجريد بل بشيء يمكن وصفه بانه اختصار.. اي ذلك الذي يلمّح حينا ويفصّل حينا آخر وان بومضات.. كأنه يتنقل بين عالم الطفولة وعالم الأقوام البدائية.. والعالمان متشابهان كتوأمين ان لم يكونا كذلك بالفعل. إلا ان محتويات هذا العالم هي ابنة مدن.. وهنا في حال بيروت ابنة المدينة التي فككت الشاعرة الفنانة "حذلقتها" وتعقيدها أو انها نقلت صورتها التي فككتها الحرب.
رسم الغلاف فيه جمال وصوة "انسانية".. امرأة عابرة حزينة تسير مطرقة. النظرة الطفولية "الاحيائية" جعلت المباني تبدو أقرب الى وجوه واجمة مستوحشة متسائلة وحيدة كأنها مهجورة. نتذكر هنا كما نتذكر في أجواء عديدة من شعر سوزان أمورا كثيرة. تخطر في الذهن أغنية فيروز "ما في حدا" او تلك الاغنية الفرنسية القديمة التي تتحدث عن سقوط الثلج وعن "انك لن تأتي هذا المساء". هل المدينة هي التي تبكي ام ان الانسان يبكي عليها.
"كراكيب الكلام" ذو الطبعة الخاصة والمحدودة بصفحاته الاربع والاربعين المتوسطة القطع جاء وصفه في البداية بانه كتاب في محاولة تهرب من القول انه مجموعة شعرية او القول انه قصيدة واحدة طويلة. الواقع هو ان الاسمين ربما كانا صحيحين. لدينا من ناحية قصيدة واحدة بل نشيد طويل وفي الوقت نفسه يمكن الفصل "نظريا" بين قسم واخر منها على اساس تكاملي.
شعر سوزان هنا مزيج ذو شخصية خاصة تقرأ فيه ملامح ليست مستعارة.. تحمل سمات غربية حينا وأخرى شرقية تذكّر بنسب بعيد.. مرارة "جدّين" أو أبوين راحلين.. حزن محمد الماغوط في ضوء القمر ومطر بدر شاكر السياب. لا الحزن جديد ولا انتشارالجوع والأسى على رغم المطر المدرار رمز الخير والبركة. المطر.. انه "الغيث" كما لقّبه العرب قديما.. لكنه هنا عند الشاعرة لا يغيث بل يبدو كأنه عكس ذلك.. كانه مغزل يغزل موسيقى الحزن والوحدة والوحشة والتشرد عن البيت والوطن. تقول سوزان في ما يختصر الكثير "دمعة على خد تعاستي/ صرخة أعمق من البئر../ ما دام الماء حياة/ فلماذا لا يتحول المطر/ الى بشر وبيوت وبلاد.."

انها شاعرة "ترسم" وتلون العواطف والانفاس وحركة الشارع أو هدأته وسكونه ودبيب العمر الخفي تحت ستر سحب دخان اللفائف تهاجر وتترك الانسان لوحدته. تقول بعد البداية "لا شيء/ لا شيء سوى المطر/ على زجاج النافذة / وجهي الآخر"... لا شيء سوى المطر / على الشارع البائس مثل حب تدوسه الاقدام/... / الاطفال الصلع في المراييل الخضراء والدهاليز الناصعة / مطر على الباص الاحمر/ المظلات المهرولة كما لو في مسيرة ازهار من البلاستيك/ العابرين مع العمر/ السحب/ فراشات الدخان التي/ لا تكاد تطير/ حتى تتلاشى/ ولا أملك سواها شيئا/ لا شيء سوى المطر."

في مكان آخر تقول "لان الصباح فقد لهفته/ لانني تجاوزت رغبتي/ وأفرغت الكلام من كراكيبه الكثيرة/ لانني بلا أصدقاء/ قلبي ظل وردة/ جسدي شجرة غياب/ .../ لانني أحببت بصدق لا قيمة له على الاطلاق/ وفقط حين انكسرت/ أدركت حجم المأساة/ لان هذه المدينة تذكّرني/ بصوت امرأة اعجز عن نسيان انكسارها/ لان الله واحد والموت لا يحصى/ ولاننا لم نعد نتبادل الرسائل/ يحدث المطر/ في الفراغ الذي بين قطرة واخرى/ هذا الدويّ الهائل."

نتابع القراءة معها في مكان آخر عن الأصابع التي تمتد الى سيجارة بطعم النعناع في قاع الحقيبة لتستحضر طفولة مولية. "تشعلها/ تختفي مع الوجوه والجدران في دخانها/ في ضبابه/ المقهى الذي يشبه عناقا عابرا/ بين شارعين/ شجن الأغنيات القديمة لا يكفي/ ليستعيد في أعماقي المطر ايقاعه البعيد/ ليعود/ في معطف الماضي/ بخطوات تتراقص على السلالم/ طفلا خارجا من بوابة المدرسة يركض/ الى احضانك يا مدينة."

في مكان آخر بعد سلسة تتذكّر فيها أشياء جميلة وجروحا وعقوقا تقول "لا انها لم تكن يوما أشيائي/ لانها أشياء المدينة/ المهرجون بمساحيقهم دونما ملامح/ الملائكة الميتة في الممرات/ مقهى الماضي/ مربعات الاسمنت والمقاعد/ الموسيقى المائلة نحو بكاء النافذة/ موسم العصافير/ المرض المستشفى مشهد الالم المتكرر في كل مرة/ الابواب المغلقة/ دموعنا على المقابض/ مريول المدرسة معلقا من جناحيه الممزقين/ المومسات المعانقات لمظلاتهن/ في صقيع الفجر/ على أرصفة بعيدة.../ الملصقات المهترئة على ما تبقى من جدران/ المدينة المهجورة/ بمنازلها المتهدمة/ وأطفالها المتفحمين في الملاجىء/ الماء والمعدن.. تلك المعادلة المستحيلة/ المطر.. المطرقة والمسامير."

سوزان عليوان الشاعرة الشابة المسكونة بغربة متعددة الوجوه و"الجنسيات" وبطفولة رائعة لا تخون صاحبها فتجهره ليحل محلها جفاف وبرودة.. تستحضر من الماضي طفولة حالمة وصورة لعالم موعود ما لبث ان أطل بصورة وهم كاذب. تتذكر عالما لن يعود. تقول "قبل ان أبلغ الضفة الاخرى بلحظات/ استدرت بنصف ظلي نحوهم/ المدرسة البعيدة في أعلى المدينة/ شارعها الطويل كيوم ماطر/ شجرة اللوز صديقتي ذات الضحكات المتلالئة في الضباب/ غابة العصافير الممتدة من سور السرو الى أقصى السماء/ المقهى ذو الواجهة الشاحبة/ غرفتي المطلة على دمعة نهر/ معطفي/ منفضتي/مفاتيح روحي.../ كنت على يقين بانني أراها لآخر مرة/ كما تدرك الطيور/ ان لا سعادة على وجه الارض."


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف