آمال العديني: نهر خارج سياق النهر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عين الإضاءة التي سأقدّمها تَقصد نصوصاًَ شعرية، هي بمثابة خطوات قليلة ومتمكنة للشاعرة الشابة آمال العديني، التي ظهرت كصوت يكتب الشعر وينشر، ما تسنى له، في جريدتي الحياة الجديدة والأيام الفلسطينيتين؛ فضلاً عن حضور حزمة من نصوص الشاعرة ضمن المختارات الشعرية للأصوات الجديدة التي أصدرها بيت الشعر الفلسطيني، بعنوان "خارج سياق النهر"؛ بتقديم من الشاعر مراد السوداني الذي أظهر التحمّس للجديد. وهو ما اعتبرناه، في حينه، صفعةً للشاعر غسان زقطان، لاعتماد الأخير المزاجية والانتقائية والشخصانية في اختياره وتسميته لبعض الأسماء كان ضمّن نصوصَهم في واحد من إصدارات "كتاب الشهر" الذي يصدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية! كل ما يهمّني، هنا، يتجاوز حماسة التقديم، وشجاعة الصفعة، يتجاوز ويهمل الاهتمام بهكذا نقار! مع الإشارة إلى أن مقدمة السوداني ركّزت اهتمامها على جماعة " تجريب "، مُشيدةً بجهود كلّ من على أبو خطاب ونصر شعث.. فأبو خطاب، كما ترصد المقدمة، رفقة شعث يقدمان إضاءات لغير قراءة في المشهد الجديد تأسيساً وتأهيلاً للتجربة ودفعاً لها تجاه الصحافة الثقافية.. ليكون أبو خطاب وشعث جناحان لطائر " تجريب " المحلق باقتدار ". لقد كان هذا تشريفاً، ولكن بِقصدِ الاحتواء والاستئجار واستعمال الأسماء الجديدة كحشد وكأداة لتسديد الصفعة لزقطان، كما أصرت المقدمة على اقتراف ذلك. وهكذا استئجار، بحسب ثقافتي الدينية، مماثل، وفق نظرية المماثلة، لخطاب بِنْتي شعيب : " يا أبتِ استأجره إنّ خيرَ من استأجرت القويّ الأمين ". وهنا مكمن الإفادة، الدنيوية، بالاستئجار والتبني، هنا مكمن التنفّذ. إن الصراع في لعبة كرة القدم على " الهدف " هو مماثل، من حيث هو صراع، للصراع على تبني واستئجار الأسماء للتسديد! على أية حال، لقد وَعَدَتْ نصوص الشاعرة الشابة بأن تثير اهتمامي بالجماليّ؛ فهي تحمل سماتها الفنية وتقدّم نفسَها لقارئٍ مَعْنِيٍّ بنفاذِ الجمال إليه، ومانع نفوذ التقديم أن يوثر عليه. إذاً، البشارة مازلت أردّدها وأتردد على قولها، في ما تسنى من المناسبات الشعرية المحلية، أن ثمة نصاً ناضجاً ومختلفاً تتفوق به الشاعرة المقلّة آمال العديني على مثيلاتها من شاعرات غزة. وهي مع ذلك تتعامل مع البشارة من منطلق إيثارها الظل على الضوء، والهدوء على الغرور. ولكن لا يمكن اعتبار الهدوء تواضعاً لغاية الآن، ذلك لأنّ هدوء الشاعرة واستماعها للتقديمات والامتداح الشفاهيّ يتبنّى فرضيةَ عدم إدراك الشاعرة الذاتي لمستوى النضج لديها. أو أنّ أيا من القراءات التي تمارسها على نصّها لم ولن ينتج ما يمكن أن تنتجه قراءة القارئ المحايد للمستوى. آمال العديني شاعرة تقف فوق ملكيتها الشعرية، ووراء وعيها مخزون بكر ووفير. واللغة لدنة والعجينة الشعرية مهجنة خير تهجين بالموضوعات. هي صوت متميز عن أصوات المحاوَلَة الكثيرة، صوت قليل ويؤسس بالمميزات الفردية حضورَه. فلا منة لأحد عليها، لا أستاذية، ولا وصاية أو تبني. شابة تأتي للشعر من البداوة ومن يباس المسالك والسلوك والجغرافيا الضيقة والملوحة، بصوت أنثوي طازج يخاطب الآخر، الوهم والصوت وسيد الزرقة والاتساع. إن الآخر المنشود والمخاطب لديها، أو الأنا الشامل فيها، يأخذ تسميات الوهم والظن والنهر والصوت..، أو أنّ الآخر هو الصوت الذي تخاطبه ويأخذ مدلولات البعد الميتافيزيقي.
صوتك، يصل إلى حدّ الخرافة
ويدي نزهة في الثبات. (بين النهر وزنبقة، جريدة الأيام، 28/ 6/2005،العدد 390 )
وحين هي تصحو من الوهم أو الكتابة التي يتضمنها الصوت، نجدها تبقينا خارج معادلة الوهم بالحلم. إنها تخاطب وتكتب الآخر، الوهم، الظن، الخرافة. ولا تكتب الحلم والتمني. وفي مطرح آخر هي توازي الحلم بالملح، مع إمكانية معادلة الحلم بالملح بالمعنى. فلو نعتمد القراءة المقلوبة لمفردة " ملح " ستفضي بنا إلى " حلم "؛ وسنجد المعنى قد تم وامتلأ بموضوع الإشارة. في فضاء موازاة الحلم بالملح تتردد أعمال المخيلة على الحضور، فتحضر مفردات الصدى، الخرافة، الضوء.. كأسلوب يشرق على سأم الموازاة ويزحزح تكرار الموت بحياة الصدى (الآخر، الوهم، الصوت، الخرافة ).
سئمتُ موازاةَ الحلم بالملح
كان الذي يتوسّد الفصول مفتاحاًَ للدهشة
يموت مراراً ومازال محملاً بالصدى.( ص17، خارج سياق النهر)
تكوّن الشاعرة الصورةَ بالمخيلة، لا بتخطيط الحلم للأمكنة ولا بتحرير طاقة النوستالجيا؛ بل باللجوء للوهم. فهذا اللجوء يكشف عن موقف الشاعرة من الحلم. وهذا بعد جمالي أقدر على منح المبادرة والطاقة الشعرية والصورة. إذاً، القضية الفارقة والحساسة هي مفاضلة الشاعرة الوهم على الحلم. وهي خصيصة جمالية رائعة في أساس الكيفية الفنية لدى الذات المعذبة والحزينة.
نجونا من الحلم
ولكن ما الذي يجهش فينا (ص19، خارج سياق النهر )
في قصيدتها " الموت الجديد.. الحب الجديد" تكوّن آمال صورَها بالكناية والاستعارة لظروف وتحولات الأمكنة : " شفني الطريق والضفاف أباريق لطائر شمر الأمكنة "، وفي إثر الصورة سرعان ما هي تكتب بين قوسين ( ما افتقدت ثقتي بالوهم ) مستدركة، بعد ثقتها المحروسة بقوسين، القول : " لكن ينقصني دمي لأسافر فيك ثانية.. " محايثة ومكثفة في المقطع المفردات والدوال الحسية والتي تمسّ وتجسّد وتقرّب الدلالة حدّ الاصطدام بالمُجسّد. في مقابل إبعادها الميتافيزيقي. ولكنها تظلّ أسيرةَ التوتر بين البعدين لتمرّر الإيحاءَ والإشارةَ معاً، ولتفعلهما على أرضية جمالية في ذهن ووجدان القارئ. إذاً، سنجدها تتخذ من الوهم ذريعة للميتافيزيقا، وفي نفس الوقت سنراها تنفي، في إطار الشكاية، خروج المحسوس كـ ( حصاة ) من الجسد. وتنفي ثقتها بالوهم كدليل. إنّها تستدل على الخلاص والتحوّل بخروج الحصاة. وهذه الحصاة لا تخرج من الجسد، وتبقى بوصفها، الآن، معنىً مجسِّداً للمعنى الذي يمكننا معادلته، هنا، دلالياً بمعنى الملح أو الحلم. وهو المعنى الذي يؤثر في حواس الجسد.
شفتي الطريق
والضفاف أباريق لطائر شمر الأمكنة
( ما افتقدت ثقتي بالوهم )
لكن ينقصني دمي لأسافر فيك ثانية.......
حيث
التناثر يمس حواف البصر
الكون رحلة إلى وحش مفؤود..
كتف في احتمالا مربكة
عين مبحوحة على شفرة اللون ( الموت الجديد.. الحب الجديد، جريدة الحياة الجديدة، )
ثمة زقاق يختزل أعلى الصهيل
وما خرجتْ من جسد حصاة
وما دلّني الوهمُ
وما تحررتُ من يباسي وملوحتي
غربة أخرى، في صلافة الظن
يحاصرني الضباب
تحاصرني الخطوط والدوائر
وبيننا تتدرج كينونة اللحظة
سيكون النتاج لائقاً
سيكون موتي أجمل
وستغفر سواد قلبي..!( بين النهر وزنبقة، جريدة الأيام، 28، 6/2005،العدد 390)
وتقيم الشاعرة علاقاتها الارتباطية بين الوجه والظن. فاشية الماء وطمأنية الدم. الرأس والوهم. القبعة وناس الحلم، بوصف القبعة (خارجية ) علاقة بين الأنا وناس الحلم، بين الوهم والرأس من جانب ثانٍ. وأما الوهم فيعمل كمعادل للغياب، فيما الرأس منسية في ضوء (حضور) الوهم.
خذ عني املاءات المسافة
أو خذني قبعة لناس الحلم ( بين النهر وزنبقة )
نسيت رأسي في باحة تعاقر الوهم
تهالكت كل الأبعاد المحروسة بهودجي
يا عمري، ماذا أطفئ فيك
كي أعيد رأسي إلى حضرته ؟ ( الموت الجديد.. الحب الجديد )
بين النهر وزنبقة
كتبتْ لهُ على سحابةٍ ميّتةْ:
نهرُ، يا نهرُ:
جفّتْ آنية البرق
وخان تقويمنا الظنّ
سوف يختلطُ دمع القارة بخمر الأقاليم
سوف تفيقُ الطعنة وتتقن رأفة الأنحاء
سوف تشدّك قيلولة الوهم وتضرج الذاكرة بهوس التحوّل
فإن ذهبتَ بعيداً لاجماً رموزك المضيئة
بقلبكَ العاري إلا منكَ
بوهمك العاري إلا منكَ
من أرضٍ ليستْ لكَ، لسماءٍ لستَ لها
تُبسطُ يداً
أو تجمعها قليلاً
ليجفَّ الوصف على حرير المقام
وتسقط سهواً نقطة ضعفٍ
يُبقى لكَ شكلاً في الشّعر
وقمرٍ صالح لانتشار الشغب
وتجمعك الريح رسائل يائسة
تقرأُها
فتكتبُكَ بين فاتحةٍ ودعاء
أراكَ في كلِّ نأمة، تدلقُ المسالك
وتدثّر الضوء
بشفاعةِ السفر
صوتكَ، يصل حدَّ الخرافة
ويدي، نزهة في الثباتْ
فكيف أبتكر مدلولات أليلك
وأحوّل الشق مقاطعَ سرديّة
كيف أعصف باللغة
وألملمُ ظروف النصّ بعدك؟!
كنتُ دائماً
أناهزُ روحكَ الناعسة
وبي سطوع الرحى
يهرقُ عصير الرحى
كنتُ أكتبُ وبردُ الخليقة منهمك
وأصابعي موطوءة بالحروقِ والخروقْ، وبكَ
موتى، غرقى، وبئر تدورُ
خذ عني املاءات المسافة
أو خذني قبعة لناس الحلم
أدينُ لكَ
بملحِ الخرائط، ونجمة
وهلال عيد
وأبجدية توسوس فيك حتى أخمص الرُّوح
ولا تختزن أوردتي
سوى السفك والشحوب
أدخلُ بئراً في ذبول
فتأخذني رشفةً من عطش المجرّة
ويظلُّ وجهي ظنّاً
من يحتمل عبء جهاتهُ؟
الأحرى أن تسفح نثار الأمس
مأوى لعشب الجهات
وأن تحزم الريح صلاة لبأس الفصول
فحيثُ يتعرّج المسار
يتسنى الممكن والمستحيل
ويصيرُ المنفى أقلّ التباساً
تقدر أنتَ الغائب في كتابٍ متروك
أن تعبر فاشية الماء
إلى طمأنينة الدم
وتتأخر بليل النسيان _كلمة_
تقدر أنت المسفوح بين عينيّ مُهاجر
أن تستحضر الخير والشر معاً
وأن تملأ البر بالعافيةْ
ثمّة زقاق يختزل أعلى الصهيل
وما خرجت من جسد حصاة
وما دلّني الوهمُ
وما تحررتُ من يباسي وملوحتي
غربة أُخرى، في صلافة الظن
يحاصرني الضبابُ
تحاصرني الخطوط والدوائر
وبيننا تندرجُ الزرقة
ولو تجاوزنا كينونة اللحظة
سيكون النتاجُ لائقاً
سيكونُ موتي أجمل
وستغفر سواد قلبي..!