مناجاة هاملت الرابعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
To be or not to be, that is the question
ما من مناجاة شُغف بها النقّاد، و في الوقت نفسه استعصى عليهم فهمها، كهذه المناجاة. كُتبتْ عنها مئات الدراسات، وفي كل دراسة اختلاف ذو نفع.ظنّ معظم الشرّاح، أنّ هاملت كان يفكّر في قتل نفسه، وظنّ آخرون أنّه كان يفكّر في قتل الملك، بيد أن البداية لا تشير إلى القتل مطلقاً (سنتحدث عن ذلك بتفصيل أوسع في الفقرات التالية)، كما أنّها لا تشير إليه شخصيّاً.
يقول G. Wilson Knight " السطران الأوّلان يشيران إلى المشكلة الشاملة للمصير المأساوي للإنسان" (The Wheel Of Fire, p304 ). ويقول: Wolfgang Clemen"في هذه المناجاة لا يشير هاملت إلى نفسه مطلقاً. المتكلم يأخذ صيغة الجمع. في حين يؤكّد Harold Jenkins أنّ "ما من شئ في أيّ مكان من هذه المناجاة يتعلق بحالة هاملت الفرديّة، إنه يستعمل الضمائر نحن:We و نا : Usوالـ: مَنْ غير المحدودة: The indefinite who والمصدر اللاشخصي: The impersonal infinitive ، إنه يتكلم عنا جميعا بوضوحً".
لذا فإن أيّ ترجمة لـ : To be or not to be بـ "أأكون أم لا أكون" (جبرا)"احيا أو لا أحيا" (القطّ)، أو" ألحياة أمْ الموت"(بدوي) وما إليها، عاطلة، لسببيْن : الأوّل صيغة الجمع التي كان يتكلم بها هاملت كما أسلفنا. الثاني هو أنّ هاملت كان يتحدث بالمصدر المصاغ من أن والفعل. بهذه الوسيلة جعل المؤلف ما هو خاص بمستوى العام الشامل. يقدم Wolfgang Clemen قائمة بالصيغ المصدرية التي وُظفتْ في هذه المناجاة وهي :/To be or not to be /To suffer To take arms
/To say/ To die/To sleep/To dream/ To grunt and sweat.
يستنتج الباحث بأن "صيغة اللامتناهي تمكّن المتكلم من أن يظلّ على مبعدة من مركز العمل او الفعل"(p.137)
على أية حال يدلّ المصدر ، كما هو معروف،ّ على حركة بلا زمن. هل أراد هاملت بهذه الوسيلة أن يجعل أقواله تتخطى المرحلية، أي أن يجعلها تجري مجرى الحكم الدائمة؟ أم أنه كان يستجيب لما كان يقرأ؟ بكلمات أخرى هل كان هاملت صدى وظنّه النقّاد صوتاً؟ وعلى هذا اختلفوا لدرجة التناقض؟
مرة أخرى هل كان هاملت صدى؟
حين يدخل هاملت ( الفصل الثالث - المشهد الأوّل) كان يقرأ باستغراق عميق في كتاب لا نعرف ما هو. يذكر بعض النقاد أن السؤال الأول الذي وضعه هاملت كان " بمثابة تعليق على ما كان يقرأ" إذن فالسؤال لا علاقة له به شخصياً، أو أنه كان ردّة فعل في أحسن الأحوال. ولكن ربما كان هاملت يستذكر ما كان قد حفظه من الكتاب، وهو ذو حافظة لا تُجارى. ربما لهذا السبب شذت هذه المناجاة عن الأخريات في كونها مقطوعة، أيْ لا علاقة لها بما قبلها ولا تأثير لها فيما بعدها.
يجب ألا يغيب عن البال كذلك أن مسرحية هاملت كانت مكتوبة قبل شيكسبير ومُثّلت مرتيْن. إذن فهاملت ليست من صنعته تماماً ,إنما ما فعله هو تغيير مقاطع في النصّ القديم، وتقديم مشاهد وتأخير أخرى، وربما إعادة صياغة بعض الفصول. هل كانت هذه المناجاة في النصّ القديم وإنما كان هاملت يقتبسه بالكامل؟ أم أنه اقتباس من كاتب آخر؟
مما يدعو إلى التأمل والاستغراب في هذه المناجاة خلوّها التام من عنصر النبات من أيّ نوع، وخلوّها من الحيوان من أيّ نوع، كما انها خالية من التشابيه والمجازات التي هي من العلامات الفارقة في التأليف الشيكسبيري، بالإضافة إلى ذلك فما من أثر للحواس التي بزّ بها شيكسبير الشعراء في رسم الصُوَر الشعرية. هذه المناجاة تجريدات ذهنية، تأثيرها من تساؤلاتها المرعبة، أوّلاً ومن موسيقاها الشعرية المدهشة، ثانياً. للأسف لا يمكن ترجمة الموسيقى، لأنها خاصية قومية لا يتذوقها إلاّ أبناؤها. مع ذلك نقدّم للتحليل شطراً واحداً، كنموذج، لنرى مفعول الموسيقى الشعرية.
يقول Sydney Bolt في كتابه : (p.44) Shakespeare Hamlet عن موسيقى البيت الخامس:
to sleep And by opposing end them.To die/
"حينما يضاف مقطع على الشطر المكتوب على بحر الـ Iambic الخماسي التفاعيل، بعد أن يكمل فإنه يُهمل. غير أنه في حالة البيت أعلاه، فلا بدّ من تكييفه في مكان ما إلى البحر الإيمبي". إذن كيف كيّفه شيكسبير؟ أولاً" أوقف الشطر ومن ثَمّ بدأه ثانية على الوجه التالي:
And by/ oppos/ ing end (them)./
To die/ to sleep.
هذا التوقف أو القطع الثقيل ذو مغزى. لأن هاملت شرع بسطر جديد من التفكير حين قال :
ldquo; hellip;to die
ذكرنا أن هذه المناجاة تجريدات ذهنية تخلو من أية أرضية واقعية، وبالتالي من أي حدث. ولأنها مجرد أفكار، لذا بدتْ وكأنها مفككة لا رابط لها. الأفكار عادة ما تكون باردة برودة الحقائق . إلا أنها في هذه المناجاة خلاف المعتاد، ساخنة، وذلك لأنّ شيكسبير شحنها بالحيرة والتشوّش فانبجست عاطفة.من ناحية أخرى فإن المناجاة بتبنيها الأفكار الفلسفية المجرّدة، إنما اقتربت من الأسلوب السقراطي مهما يكنْ من أمر ، فقبل التبسّط في اختلاف النقاد في فهم مكونات هذه المناجاة، قد يكون من المفيد أن نلفت الأنظار إلى ثيمتيْن أساسيتيْن في هذه المناجاة. الغاية من التنويه بهما هنا هي للتنبيه على تأثر مسرحية هاملت بملحمة كلكامش وإن كان بصورة غير مباشرة. الثيمة الأولى تشبيه النوم بالموت وبالعكس:
To die, to sleep
To sleep, perchance to dream -ay, there is the rub
For in the sleep of death what dreams may come,hellip;rsquo;
"أن نموت أن ننام
أن ننام، ربما أن نحلم- بلى هذه هي القضية
لأنّه في نوم الموت ذاك، أيّ أحلام قد تأتي..."
يتعقب Harold Jenkins محرر طبعة آردن الشهيرة تشبيه الموت بالنوم، فيردّها في البداية إلى شيشيرون، وقبل ذلك إلى سقراط. ويعتقد أن ترجمة هولاند لكتاب Moralia لبلوتارك قد تكون المصدر الأصلي ...إلخ"
يبدو أننا كلّما تمعنّا كيف يتوازى عنصرا النوم والموت في ملحمة كلكامش وكيف يتجاوران كصنويْن لأدركنا أن المنبع الأصلي لفكرة شيكسبير منحدرة بصورة غير مباشرة
من تلك الملحمة، لأنها أقدم من النصوص التي استند إليها محرر طبعة آردن. أقرب الأمثلة على ذلك موت أنكيدو بين يدي كلكامش وكأنّه نائم، وكذلك ما قاله أتو- نفشتم لكلكامش:
"ويا ما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدو عليهما هيئة الموت"
لو صحّ هذا التأثر لانحلّت تناقضات كثيرة وقع فيها النقّاد الذين درسوا هاملت.من الجدير بالذكر أن شكسبير ذكر الموت والنوم في عدد من المناسبات منها مثلاً في مسرحية مكبث، حينما رأى مكدف، الملكَ مقتولاً:
"... أفيقوا
أنفضوا عن أعينكم هذا النوم الماكر شبيه الموت
وحدّجوا في الموت نفسه..."
الثيمة الأخرى هي رحلة الميت إلى وطن مجهول ولا تٌرجى له عودة. يقول هاملت:
But that the dread of something after death,
The undiscoverrsquo;d country, from whose bourn
No traveler returned puzzles the will
ِِ And makes us rather bear those ills we have
Than fly to others that we know not of?
"...لولا ذلك الشئ
المرعب بعد الموت، ذلك الوطن المجهول الذي لا يعود
منه مَنْ دخل في حدوده، ويربك الإرادة ويجعلنا
نتحمل تلك الأدواء التي نعرفها من أن ننطلق
إلى أخرى لا نعرفها..."
ربما يكون مصدر "درب الصدّ ما ردّ" هذا، كلكامش أيضاً، وهي عبارة ما تزال متداولة بيننا بالعراق حتى الآن. كان أنكيدو يروي لكلكامش حلماً طاف عليه :
"نظر إليّ وأمسك بي وقادني إلى دار الظلمة
...
إلى البيت الذي لا يرجع منه مَنْ دخله
إلى الطريق الذي لا رجعة فيه لسالكه..."
أدناه بعض ما ذكره النقّاد عن هذه المناجاة :
يقول Wolfgang Clemen :
"هذه المناجاة من أشهر مناجيات شيكسبير. في الواقع أشهر المناجيات جميعاً. أُعطيتْ لها أكبر عددٍ من التفسيرات... معظم المناجيات مصممة للكشف عن نوايا المتكلم، وإماطة اللثام عمّا خفيَ. لكنّ النظارة هنا لم يُعطوا الجواب عن كلّ المشاكل غير المحلولة في المسرحية. بالعكس، أُثيرت أسئلة جديدة. شكوك هاملت امتدّت إلى النظارة.نصّ المناجاة يعوزه التماسك المنطقي والبنائي، لذا فمعظم التفسيرات (يبلغ عددها عدّة مئات) لهذه المناجاة حاولت أن تضع بين أيدينا، الحلقات المفقودة لتوضيح المعنى، لإعطاء توصيفٍ دقيقٍ لما تمّ التعبير عنه تلميحاً (ص 133).حاول Clemen طريقة جديدة لفهمها. فبدلاً من تحليلها سطراً سطراً للإجابة عن السؤال "ما الذي يعنيه هاملت هنا فإنه استخدم مقاربة مختلفة لتعيين ما الذي تطبعه المناجاة أوّلاً في أذهاننا حين نسمعها، وما الذي تعنيه حينما تبدأ مناجاةٌ ما وتنتهي على شكل مفاجئ شديد عندما نتوقع شيئا آخر مختلفاً سيقع" Shakespeare s Soliloquies) ص 134)
لنقلْ قبل كلّ شئ،" إنّ للمناجاة لدى شيكسبير"، كما يقول Franco Moretti "وظيفة مختلفة تماماً، فهي لا تُصعّد من الأداء، ولاتثبّت المعاني الضمنية، بل بالأحرى تعوّق، وتجعل مراميها عصيّة على الفهم. إنها المكان الذي يكون فيه الشكّ والتردد"
Shakespearean Tragedy ed. J. Drakakis p.68 -69))
يقول G. Wilson knight ، وهو من كبار شُرّاح هاملت :"تبدو هذه المناجاة لأوّل وهلة واضحة إلى حدّ ما، إلاّ أنّ الصعوبات تتضاعف حينما نفحصها فحصا دقيقاً.
.(The Wheel of Fire ) p.304
قد يكون مردّ الصعوبات التي أشار إليها الكاتب في الاقتباس أعلاه، ناجماً عن طبيعة فن كتابة المسرحية، أو التقنية الأسلوبية التي يوظفها المؤلّف، أو عن الفكر الفلسفية والدينية المطروحة.
يقول Martin Ling " إنّ الكاتب المسرحيّ على خلاف الشاعر الملحمي، لديه مساحة محدودة جدّاً تحت تصرّفه، وتبعا لذلك فإنّه يفضّل بناء بيت متعدد الطوابق" (The Secret Of Shakespeare). P. 30
هذه المساحة المحدودة ذكرها كذلك الباحثان: John Peck amp; Martin Coyle في
كتابهما : (( How To Study A Shakespearean play p.11- 12 ،فعالجا الطريقة التي دعت شيكبير لأن يركز كمية كبيرة من المعنى بأسطر قليلة. نستطيع أن نستبين هذه الطريقة بصورة أكثر وضوحاً، إذا ما أشرنا إلى أشهر مناجيات شيكسبير: المناجاة الرابعة. فهاملت تنازع مع نفسه على الانتحار. حياته مشحونة بالمشاكل والمتاعب، وشيكسبير يستعمل صورا حربية وبحرية، ليجعل محنة هاملت واضحة وحيّة. فاستعمال المجاز(وهو استلاف كلمات من أحد حقول تجربة ما، أو حياة لوصف حقل آخر من التجربة)، يضيف ايضاً / ويعقّد معنى الأبيات. إن متاعب هاملت هي مشاعره الشخصيّة بالتعاسة ولا تخصّ غيره، ولكنْ بربط مشاعره بمواضيع واسعة ومشوشة مثل البحر والحرب، تبات التجربة الفردية موصولة بجوانب من الحياة واسعة."أو قد تكون الصعوبة بسبب ما تتميز به مسرحية هاملت من غنى في الأفكار والشخوص. يلاحظ الدكتور Johnson "أنّ ما يميّز مسرحية هاملت هو تنوّعها. الوقائع كثيرة جدّاً...المشاهد متعددة بتداخل، وتتنوع بمرح ووقار. مرح يشتمل على قوّة الملاحظة الحكيمة المثقفة، ووقار غير محمّل بالعنف الشاعري، الأعلى من العواطف الطبيعية للإنسان. شخوص جدد يظهرون من وقت لآخر، بتتابع متواصل عارضين أنماطاً مختلفة من الحياة وصيغاً معينة من الحوار" (Dr. Johnson On Shakespeare ed. K.Wimsatt p. 140
لا ريب تتعدد الاختلافات في فهم هذه المناجاة بعدد الكتاب الذين يتناولونها بالبحث ...السؤال البسيط الذي ما يزال يقلق الباحثين هو : هل كان هاملت حينما قال في مطلع المناجاة
(To be or not to be ) يفكر في الانتحار، أم في قتل عمّه الذي اغتصب عرش شقيقه ( أيْ والد هاملت)؟ إذا كان مثل هذا الآختلاف الحادّ قائماً حتى لدى أعمق شرّاح شيكسبير من الناطقين بالإنكليزية،فلك أن تتصور معاناة المترجم العربي. قبل أن نُدلي بدلونا على استحياء، قد يكون من المفيد، اقتباس ما قاله G. B. Harrison
(Shakespeare Tragedy p. 88)
"الحقيقة الأولى، وكثيراً ما نُسِيتْ، هي أن هاملت مسرحية، وليستْ بحثاً في الفلسفة أو الطبّ النفساني، أو في التاريخ الإليزابيثي، أو في الأخلاقيات الاجتماعية...كما أنها ليست الأولى التي كُتبت عن قصّة هاملت، فهناك دليل على أن مسرحية هاملت كانت موجودة عام1589، وقد مُثّلت عام 1598 و 1606، ومن البداية كانت مسرحية ناجحة، ثمّ أعاد شيكسبير كتابتها جزئياً مرّتيْن في الأقلّ، أو أنّه أضاف إليها مقاطع كبيرة".
على هذا قد لا تكون كلّ الأفكار الواردة في المسرحية هي أفكار شيكسبير مائة بالمائة، أي أن ما نلاحظه من تناقض هنا وهناك قد يكون مرجعه إلى مصاهرة كاتبين مختلفيْن. من جهة أخرى فما قاله هارسون أعلاه : إنّ هاملت ليست بحثاً في الفلسفة أو الطبّ النفساني...إلخ صحيح وغير صحيح في آن واحد، كما يبدو.
المسرحية كأيّ نصّ إبداعي ليست بحثاً من أيّ نوع ولكنّها كأيّ وعاء ثقافي يتجمع باللاوعي، خليط متفاعل من شتى العلوم، بحيث تكون الحصيلة كتلة لها خواصها التي لا تتشابه مع خواص العناصر المكونة لها. كلمات المثقّف مبطنة ولا يُحكم عليها بما توحيه في ظاهرها.أكثر من ذلك لم يبرّز النقاد دور ثقافة هاملت في غموض كلماته وعباراته وإن لم يكن قد أراد لها ذلك، أو مهما كانت كلماته بسيطة وواضحة. من النافلة أنّ هاملت من الشخصيات الروائية القليلة، وربما هو الوحيد الذي يتمتع بثقافة منوعة وعميقة.
يقول :W. H.Clemen "تكشف الصورة المجازية لدى هاملت عن خلفية واسعة من المعرفة، وعن المدى المتعدد الجوانب والاستثنائي لتجربته. وتؤكد الاستعارات المستقاة من العلوم الطبيعية، وهي كثيرا ما تتردد في لغة هاملت، على قوّة ملاحظته، وعلى الطريقة النقدية الموضوعية التي ينظر فيها إلى الأمور. بالإضافة، فإن هاملت مطّلع تمام الاطلاع على ثقافة العصور القديمة، أو عالم الأساطير الإغريقية، وعلى مصطلحات القانون، وهو إلى ذلك حسن الاطلاع على المسرح والتمثيل، كما نعرف ذلك جميعاً، وكذلك على الفنون التشكيلية، وعلى فن الصقارة والصيد، وعلى الفنون العسكرية والاستراتيجية، وعلى حياة الحاشية الملكية، كعسكري وكعالم. لذا فهاملت قادر على التعبير بمستويات عديدة جدّاً لدرجة أنه يستطيع أن يحوّر أسلوبه وكذلك تصويره الشعري، إلى ما يقتضيه الحال، وإلى مستوى الشخص الذي يخاطبه. هذه القابلية على التكّيف
Adaptability وسرعة التصرف في فنون مختلفة ملمحان آخران Versatility من طريقة استعمال هاملت للغة التي يمكن رصدها في صوره الشعرية"
(The development Of Shakespeare Images. P.108)
على أية حال، كلام المثقف يختلف باطنه،كما قلنا، عن معناه الظاهري Face value . إنّه ذوطبقات عالية الشحنة، لأنّ المطالعات الشديدة تؤدي باللاوعي إلى تخمرات معقّدة، تتداخل وتتداخل لدرجة فقدان صفاتها الأصلية.
المناجاة الرابعة هذه، بهذا المعنى حصيلة مرّت بعمليات تخميرية طويلة في تلافيف الدماغ.
النقطة الثانية التي لم يُشِرْ إليها النقّاد هي حالة الثمل Intoxication التي تعصف بالأبطال الشيكسبيريين، حين يبلغ بهم الحبّ أقصاه، أو حين يبلغ بهم الخوف أقصاه، والقلق أقصاه، والحب أقصاه وحتى الغضب والطموح. في هذه الحالة يتعطل الوعي ويتدفق اللاوعي. هنا تتجرّد الكلمات من محمولاتها اليومية، وتصبح إشارات ورموزاً نحسّ بمعانيها ولا نفهمها.
هذه المناجاة مثال حيّ على تلك القصوانية من الثمل، وعلى التخمرات الثقافية المتفاعلة. كلما انجذبتَ إليها، ازدادت غموضاً آسراً، وبُعْداً لذيذاً مفعماً بالإغراء.
ربما لهذا السبب اختلف النقاد لدرجة التناقض، لأنهم راحوا يفتشون في هذه المناجاة عن المعنى ، لا على ما تبثه في عموم خلايا الجسد من لذاذات مخيفة وقشعريرات عاطفية، مفزعة ولذيذة.
أدناه عيّنات من تلك الاختلافات.
يقول Kenneth Muir "ما لم يتفق عليه النقّاد: هو هل كان هاملت يبحث في شأن الانتحار حين قال : .To be or not to be إن المناجاة خضعت لعملية فصل من سياق الكلام، وأُلقيتْ بين وقت وضْع هاملت لخطّته ضدّ الملك وبين تمثيل المسرحية"
يتفق ميور مع جونسون بأن هاملت لم يكنْ في السطرين الأوليْن يبحث في قتل نفسه أم لا، وإنما في قتل الملك أم لا، إذا ما برهنت المسرحية على جريمته..."(Shakespeare Hamlet)
(( p.33-34
يتساءل G. Wilson Knight "يختلف الشرّاح حول قول هاملت:To be or not to be
فهل هو يشير إلى قتل الملك، كما هو مفترض، أم إلى قتل نفسه؟ إنني حتّى الآن أيّدت قراءة قتله لنفسه، ولكنني أظنّ الآن أنّ كلا التفسيريْن متضمنان فيه، بصورة ما، وليس من الهيّن تفضيل تفسير على تفسير.(p.3o4)
ولكنْ هل كان هاملت يفكّر في الموت في هذه المناجاة؟
يجزم على أن الموت C.S. Lewis
"هو موضوع مسرحية هاملت، على الرغم من أنّه يختلف عن الموت في المسرحيات الأخرى.فالموت في مسرحية مكبث، له صلة بالجحيم، ولكنّه من البداية في حياته صرف النظر عن الحياة الآخرة، أمّا بالنسبة إلى بروتس وعطيْل فإن الانتحار، في أعمق درجاته مأساوية ما هو إلاّ هروب. ويشكّل الموت بالنسبة إلى الملك لير خلاصاً، وإلى روميو وأنطونيو فقداناً مؤلماً...أمّا الموت في مسرحية هاملت فإننا نفكّر دائماً في الموت ولا فرق إنْ تمّ التعبير عنه بتعابير عن مصير الروح أم تعابير الجسد".
يلاحظ لويس أن الغرابة ليست في الموت في نظر هاملت وإنما ما الحياة والأحلام بعد الموت، إذا صحّ التعبير. يقول لويس : "ولكن ما هو أغرب : ما الأحلام التي ستأتي بعد الموت؟ هذه هي الفكرةالتي تعطي المسرحية بكاملها خاصيتها من الغموض والهواجس...عالم هاملت عالم يفقد فيه المرء طريقه...(Sakespearersquo;s Tragedy, ed.L. Lerner, p. 71- 72)
ولكنْ هل كان هاملت يفكّر في الموت في هذه المناجاة؟ أين الموت فيها؟
مع ذلك فإنّ S.C. Sen Gupta، يعتقد أن المشكلة بالنسبة إلى هاملت:"ليست ميتافيزيقية أخلاقية لا حلّ لها، في تجريد أو لا تجريد السلاح بوجه بحرٍ من الاضطرابات مما يجعله ينزلق إلى أخذ الانتحار بعين الاعتبار، كعلاج ضدّ أوجاع الحياة. العائق الآن ... هو الخوف من المجهول الذي أصبح أكثر شذّة منذ أن التقى بالشبح. فوالده لأنه شبح يستطيع أن يزور مناطق خيالية يدعوها هاملت شعريّاً "ومضات من القمر"، ولكنّه لا يستطيع أنْ يعودإلى الأرض Terre firma كإنسان بين البشر. إنه لا يستطيع الآن حتى من البوح عمّا في محبسه...يصف هاملت عالم الأموات، ولوصفه ما يسوّغه بأنه وطن لم يُكتشفْ بعد، والراحل إليه لا يعود إلى الأرض أبداً"(Aspects Of Shakespearian tragedy,p166). على أيّة حال ثمّة تفاصيل مهمّة للغاية ووافية في شروح طبعة آردن عن اختلاف النقاّد في فهمهم لهذه المناجاة، وعن المصادر الأصلية للأفكار التي طرحها شيكسبير ، ولا سيّما الأفكار القانونية.
تبدأ المناجاة على أية حال بأكبر حيرة وجودية تتعطل معها كل إمكانيات الفعل. اللافعل هو الفعل الحقيقي. أغرب معادلة مدوّخة. يتشابهان كما يتشابه النوم والموت وما أشد اختلافهما!
الموت خطر لأن أقاليمه مجهولة . هذا ما يقضّ مضجع هاملت الآن، الخوف من المجهول. إذن لا بدّ من العيش ولو على مضض. الحلّ؟ ما أسهل. ما أسهل الموت إن كان المقصود به وقف النبض والتنفّس والحركة. برأس دبّوس صغير، بخنجر صغير يتوقف القلب والرئة والحركة مرّة واحدة. ولكن لماذا الانتظار إذا كان الأمر بتلك السهولة؟ في تلك الحيرة القاتلة ، تطلع أوفيليا لا كختام للمناجاة ولكنْ كإنقاذ. يقول هاملت:
"...والآن توقّف
أوفيليا الحسناء، يا أيّتها الحورية أذكري
في صلواتك كلّ خطاياي."
تدخل أوفيليا ببراءتها الصافية، لتضع من تراتيل جنونها ، معنى جديداً لا للمشهد ، بل للحياة برمّتها .ولكنْ ما ذنوب هاملت حتى يتمنى من أوفيليا أن تشفع له في صلواتها؟
المناجاة الرابعة
أنْ تكون أو لا تكون تلك هي القضية
أيّهما الأنبل في العقل : أنْ يتحمّل
قوس ربّة الحظّ الطائشة ونشّابها
أم يجرّد السلاح بوجهِ بحرٍ من المصائب
وفي كليهما موتٌ يريحه من متاعبه
أنْ نموت أنْ ننام لا أكثر
وبالنوم ننهي وجع القلب، وكلّ هجمات الأمراض الطبيعية
التي يرثها الجسد. تلك نهاية نتمنّاها بخشوع
أنْ نموت أنْ ننام
أنْ ننام، ربّما أنْ نحلم - بلى هنالك القضيّة
لأنه في نوم الموت ذاك، أيّ أحلام قد تأتي
عندما نكون قد طرحنا عنّا كل قيود هذه الحياة الفانية
يجب أنْ تدعونا للتفكير - ثمّة اعتبار
يجعل أُولاء الذين يُصابون بالبلاء راغبين في تحمّله
لمدّة طويلة جدّاً.
ومَنْ ذا الذي يتحمل عذابات العالم وإهاناته
وظلم المستبدّ، وغطرسة الرجل المتكبّر، ووخزات
الحبّ المرفوض، وتأجيل القضاء، ووقاحة المسؤولين،
ونقدات الطالحين للصالحين، حينما يستطيع هو نفسه
أن يسدّد ثأره بخنجر صغير ليس إلاّ. مَنْ يتحمّل الهموم
وينخر ويعرق تحت وطأة حياة مملّة، لولا ذلك الشئ
المرعب بعد الموت، ذلك الوطن المجهول الذي لا يعود
منه من دخل في حدوده، ويربك الإرادة، ويجعلنا
نتحمّل تلك الأدواء التي نعرفها أفضل من أن ننطلق
إلى أخرى لا نعرفها؟ هكذا يجعلنا التأمّل في ضمائرنا
جبناء جميعاً، وهكذا تصفرّ الشجاعة المتوردة، وتختفي
تحت لون الفكرة الشاحبة للآخرة، ويتحوّل مجرى تدفّق
المغامرات المحلّقة الخطيرة الشأن، بهذا الاعتبار إلى
قناة تبعدها عن الفعل. والآن توقّفْ
أوفيليا الحسناء! يا أيتها الحورية أذكري
في صلواتك كلّ خطاياي