قصائد بلد شفوي .. محاولة تهدئة خاسرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بغدادمن محمد مزيد: ارجأت الكتابة عن الشاعر علي خصباك منذ زمن، حتى صدور مجموعته الشعرية (بلد شفوي) مؤخرا عن احدى دورالنشر الاهلية. اسباب عدم تناولي الشاعر خصباك يعود الى (وضع نفسي) امر به انا وليس الشاعر، الوضع له علاقة ايضا بوجودنا كلينا في مكان واحد. علي خصباك شاعر حقيقي ، اصيل، مثقف وفي حياته اليومية كذلك، عاش اضطراب الاحداث فسافر الى بلد شقيق قبل الانهيار الدراماتيكي للدكتاتور. وكان يمني نفسه ان يتوسع مدى منفاه، لكن البلد الغريق استدعاه فعاد اليه لكي ينقذه من الغرق ليغرق هو في جحيمه.
غاب الحكماء والموسيقى، غاب البلد، غابوا هناك، وبقينا نحن بهذه الصدفة المدوية يمكنك ان تتلمس الطريق الى شاعرية علي، اذ انه كان يريد ان يكتب ملحمته في الصراخ والنحيب على البلد، غير ان هذه اللغة لاتنفع في حالة بطولة تنام خلف الكتل الكونكريتية او بطولة مخبأة في حقائب دبلوماسية والحقائب مشدودة جدا الى انابيب النفط الضخمة.
باعتقادي ان (البلد الشفوي) حسب القصيدة الجميلة التي تصدر عنوانها المجموعة الشعرية هو ذاك البلد الذي لايعرف غير الثرثرة سبيلا لاثبات وجوده.. ولعل ولوج الشاعر الى المفارقات المحتدمة في حياتنا اليومية كأنها تضع حدا لمهاترات الثرثرة، غير انه ادخلنا في مفارقات اخرى، وكأن حياتنا في ظل الاقوال اللاعشوائية التي نعيشها حاليا تتناسل فيها المفارقات واحدة تلو الاخرى دون ان ندري!! اذن الشاعر كان يحاول ان يقف بوجه الثرثرة غير المجدية ليقول لها عبر تلك الصرخة المدوية: يوقظنا من يموت ويقول انتم احياء ولكن في بلد شفوي.
ارجائي الكتابة عن الشاعر طوال تلك الفترة يعود الى مداعبةالفكرة في اوراقي عن الشاعر، اذ كلما راجعت كلماتي كي اجد لعلي مساحة من المحبة التي يستحقها اجدني عاجزا عن ايفاء حضوره في نفسي الذي ملأه شعرا وانسانا، ولكن هذا الديوان ربما فجر فيّ الرغبة في الكتابة، وليعذرني علي انني ما تناولت شاعرا من خلال شعره قط بل اعود دائما الى ما تختزن الاوراق عندي من ومضات لعلها تعطي المعنى الذي اريد.
محنة المثقف العراقي، في ظل ايامنا هذه وصلت الى اقصى مدى، اذ ان الكل الذي يشارك في اجواء الحراك السياسي متفقون على ابعاد (الثقافة) عن الحضور بل انك لتجد المحامي والطبيب ورجل الدين والتاجر وبائع الخردوات قد شاركوا في اللعبة السياسية، وتجد ان بعضهم اخذ له كرسيا في البرلمان واراح واستراح، بينما تجد المثقف يطرق الابواب، ينتفض هنا ويصرخ هناك، لعلهم يسمعوا له صوتا بلا مجيب!! هذه المحنة يخشى علي خصباك وكل الزملاء من المثقفين العراقيين ان تتفاقم ليصبح دور الثقافة هامشيا ولاتعود للبلد وهو يعيش الاجواء الجديدة قدرة على احتضان المثقف الذي خرج معظم السياسيين من معطف الحاضنة الثقافية.
بالطبع لابد ان استثني بعض رموزنا السياسية الكبيرة التي ترعى الثقافة وتجدها نصيرا للحراك السياسي وكان لها الدور في اماكن وسجالات يشهد لها الاخرون وقعها..
لكنني بالمقابل اتحدث عن تلك المحنة التي اذا مابقيت تلازم المثقف العراقي فلن تجد للبلد غير الغرق في الغباء الشفوي ويترك العطاء الحقيقي لكتابة التاريخ والنهوض المزدهر عبر البلد الكتابي، مثلما كان قبل الالاف من السنين قبل التاريخ صانعا للكتابة المسمارية التي غيرت وجه الحضارات.
محنة الثقافة انها في صراع دائم مع الهامش والطارئ الذي دائما مايجد له مكانا في الوسط الذي تعيش فيه الثقافة، الهامشي يتبوأ المركز ويبقى الشاعر والروائي يدافع عن وجوده عبر الكلمات.. ذلك لانه لايجيد لعبة البوح المباشر الذي اصبح علامة لكثير من السياسيين. كأنني على لسان الشاعر اقول ان البلد الشفوي، هو بلد الخطاب الشفاهي، بلد السياسيين الشفاهيين الذي غالبا ما تذهب وعودهم ادراج المحنة التي نعيشها..
الهامشي والطارئ، في حياتنا هما اللعنة التي حملتها الساحرات الثلاث في مسرحية شكسبير، بينما شعلة برميثوس التي يحملها المثقف لينير الحقيقة التي كانت الى وقت قريب منطفأة يريد علي خصباك وغيره من الشعراء الجادين ايقادها في ظلام العراق الجديد.