قفا نبك لعبد الكريم كَاصد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بؤس الشعر العربي الآن من خلال مجموعات شعرية جديدة مختلفة..
3: شعر الا نحطاط وأنساقه الشعبية
تطرح الاشكالية المعقدة لمجمل عمل عبد الكريم كَاصد الشعري مفارقة واضحة في الرؤيا والتفكير والمضامين والمرجعيات المعرفية للشاعر. وتتبدى هذه الاشكالية في قيامه بترجمة عمل سان جون بيرس (انا باز) وعمل جاك بريفير (كلمات) و(قصاصات) يانيس ريتسوس من الفرنسية، وثانياً مشروعه الشعري الذي وصلت فيه اصداراته الى 9 مجموعات شعرية، ظل محافظاً فيها على التقاليد والقوالب والأنساق القديمة والجاهزة للشعر العربي، وكأن ثورة السياب ابن مدينته البصرة في النصف الثاني من القرن الماضي التي غيّرت الكثير من البنى والمفاهيم والأسس الستراتيجية المترسخة سابقاً في الشعر وأزاحت المرجعيات الأساسية لكل مفاهيم عمود الشعر العربي، لم تؤثر في نظرته وطرائق كتابته ومرجعياته المعرفية في التعامل مع القصيدة الحديثة التي قطعت دهراً من التطور والانفتاح على التجارب المتعددة في العالم عبر سباقها الدائم والمفتوح من أجل التحول والصيروة في محاولاتها الدؤوبة للامساك بجوهر اللحظة الراهنة وصراعها مع الواقع والوجود عبر كل ارثها الممتد منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضى والى الآن، وهي تجدد وتنسف دائماً من خلال التجريب والمغامرة المستمرة، أنساقها وأشكالها ومعمارها ومضامينها الجديدة والعميقة. وانها لمفارقة كبيرة جداً حين يكتب الشاعر المقيم في بريطانيا ويحيا حياته في الغرب منذ سنوات طويلة ويتكلم الانكليزية ويترجم من الفرنسية وحاصل على ليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1967 وعمل مدرساً لعلم النفس واللغة العربية في العراق والجزائر. يكتب الأنماط الشعرية الشعبية العراقية مثل المواويل وعالميمر والدارمي والأبوذية وقصائد العمود التي انقرضت الآن بكل أنماطها وأغراضها التي كانت صالحة للعرب في العصور الوسطى.
(يا خالتي يا أم مرتضى
الناس لا هون بأعراسهم
وأنتِ تبكين على ما مضى
وأنتِ من ألقاكِ في غربةٍ
حاضرها أتعس مما انقضى).
أغنية (يا خالتي) مجموعة (زهيريات).
ألا تذكرنا هذه الأبيات بأبيات بشار بن أبي برد المتوفى قبل أكثر من ألف عام والتي يلاطف فيها جاريته وخادمته الأمية من أجل الاعتناء ببيضه ودجاجاته؟
"ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت".
صدرت المجموعة التاسعة للشاعر (قفا نبك ِ) عام 2002 عن دار (الأهالي) بدمشق وأعادت اصدارها مرة أخرى في عام 2003. ضمت 10 قصائد ب 128 صفحة احتفلت أغلبها بموضوعات تراثية مثل (سلاجقة):
(ولمّا نزلنا الشآم
سألنا العوام
فقيل: توارثها
بعد ذاك الزمان
دقاقُ ورضوان
ابنا تتش).
و (حكايات من الحمراء) مهداة الى أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الطوائف في الأندلس وقصيدة عن (ابن الهيثم) و قصيدة عن (الطبري) وقصيدة عن (محنة ابن حنبل) و (واقعة شعرية) عن المعتضد بن عباد وشاعره ابن زيدون و قصيدة عن (ابو حيان) وأخرى عن (الزبير بن العوام) وقصائد عن (المعري والحطيئة و ابن القارح) ويضمن شذرة من بيت للرصافي في قصيدة (صوت) وقصيدة عمودية وقصيدة (قراءة في كتاب الجواهري) مختتماً المجموعة ب (محاولة لاعادة كتابة معلقة امرئ القيس باسلوب آخر).
يحيرني الآن هنا هذا السؤال. ما جدوى أن يحاول الشاعر المعاصر اعادة كتابة معلقة امرئ القيس باسلوب آخر ؟ ربما يكون الجواب في قصيدته (كلاسيك) التي ضمتها المجموعة ويقول في بدايتها:
(أنبيك اني بدار ليس ساكنها إلاّ الحثالة من مكذوبة النسب ِ
يبكون من منفى وفي المنفى لهم وطن يفدونه برخيص الروح والنشبِ)
ويشرح في هامش أسفل الصفحة كلمة (النشب) في البيت الثاني هكذا: النشب: المال.
ويقول في جزء آخر من القصيدة:
(وكيف أن غرابا ً ناعباً هرماً أضحى يقال له: (صنّاجة العرب ِ)
وأسوأ الخلق أنصاب يطوف بها من لا يفرق بين النبع والعزب ِ)
ويشرح في الهامش أيضاً النبع والغرب بقوله: (النبع: شجر يعرف بقوته. تتخذ منه السهام والقسي. الغرب: شجر معروف بسهولة انكساره). هل يحق لنا الآن أن نطرح سؤالاً حول شاعر الحياة المعاصرة المقيم في الغرب ومرجعيته المعرفية التي تنهل من الثراث الشعري وكلماته التي انقرض فيها الكثير من الدال والمدلول ولم تعد الآن في أيامنا لا السهام ولا القسي ؟ تركز المجموعة على الأنساق والقوالب والصيغ اللغوية الجاهزة وقد تمت عملية صفها في القصائد من دون انزياحات أو تغيير أو حتى تفكيك لتثويرها وتفكيها وأعادة صياغتها من جديد. أقدم هنا هذه الأمثلة لنرى النتيجة. (لا تثريب عليك. وقد تشاوروا في الأمر. التي حملها الجند في الصحراء. هذه الأيام لا أقرأ غير كتب السحر. الديناصور المنقرض. في حديقة غنّاء. استحلفك بالله. يأتي محمولاً فوق جواده. الهتاف الذي رددته العصور) ويلجأ في قصيدة (الحكاية الثالثة) الى الصيغة اللغوية القديمة الجاهزة ويكتب هكذا (ينحني فوق أيامه الباقيات) أما في القصيدة الأخيرة فيكتب (وطافت بأرجائه الموحشات الظباء). هل الجأه علم العروض الى عدم كتابة (أيامه الباقية. و أرجائه الموحشة ؟). في القصيدة الأولى من المجموعة التي يستهلها باستهلال تعقبه 5 حكايات يخفق الشاعر في تقديم قصيدة بالاد قصصية تستفيد من السرد في الملحمة والقصة والروايه والصراع والحوار في الدراما وهو يخبرنا عن المناخ الحربي في احدى مدن الأندلس في (الحكاية الأولى) حيث يقول مختتماً إخباره فيها بصيغة لغوية جاهزة:
(عند بوّابة البيرة
اجتاز موسى بن غسّان
قائد فرسان غرناطة
قصر أحزانه
تاركاً شرراً باقياً
للحصان الذي التمعت في الظلام حوافره
ومضى بابن غسّان
قائد فرسان غرناطة
وهو يشرع، ملتثماً، رمحه للطعان).
كما يخفق أيضاً في (الحكاية الثالثة) وهو يخبرنا عن ابن خلدون في تقديم حكاية. انه يكتفي بالإخبار فقط ويقول لنا انه حكاية:
(على سفح غرناطة
قرية (من قرى السقي)
أورثها عاهل ل (ابن خلدون)
أورثها ليزيد بن مروان
أورثها للإمام الملقّب بالقرمطي
لمن جاء من بعده من ملوك الطوائف
أو من ملوك الفرنج
لمن مات مغترباً تحت أسوارها
للمرابين
والقادمين
يودعهم بالدموع (ابن خلدون)
مكتهلاً
ينحني فوق أيامه الباقيات
وقد خانه الأقربون).
وينسحب الإخبار مع الوصف وهما من الوظائف التي أزاحها الشعر الحديث جانباً، الى بقية الحكايات التي أخفق الشاعر فيها تماماً في ابراز جلال الأحداث ودراميتها وصراعها الذي نعرفه في التاريخ الأندلسي. أقدم هنا بالاد (ملك العفاريت) لغوته بترجمة عبد الغفار مكاوي ليتوضح لنا مفهوم الحكاية الشعرية في كافة عناصره من حوار وصراع وأساليب تعبير وعاطفة حزينة في تعاملها مع الموضوع الذي تعالجه عبر السرد:
(من هذا الذى يسري فى الليل والبرد والريح ؟
إنه الأب مع ولده المسكين
بالأمس اشتعلت نار الحمّى فى الجسد الصغير
لمسته كف الأم ومرت على الصدر والوجه والجبين
صرخت من لسع الجمر المتقد وصاحت: ولدى. يا ولداه
خذه الى المستشفى القريب.
لا تنتظر الصبح لكى لا نندم، لا تبطئ حتى لا يذهب منا ويضيع.
لفته فى حزام من الصوف وغطته بالملاءة البيضاء
ركب الأب حماره وحمل معه الولد العليل
احتضنه وضمه الى صدره، وعلى الكتف أراح الرأس المحموم
ـ ولدي، لم تخف وجهك، مم تخاف ؟
ـ أبي يا أبي، ألا تراه يا أبى هناك ؟
ـ ماذا يا صغيري ؟ من هذا الذى تراه ؟
ـ إنه يا أبي ملك العفاريت، يشير اليّ ويدعوني. على رأسه التاج المرصع بالذهب والياقوت، ومن ظهره يتدلى الذيل الأسود الطويل.
ـ لا تخف يا ولدي. ما الشبح الذى تراه إلاّ غيمة من غيوم الضباب.
ـ أبي، إنه يقول لي: تعال. تعال معي يا ولدى الحبيب.
في محاولته المتكلفة لإعادة كتابة معلقة امرئ القيس، يكتفي ببعثرة أبيات قصيدته كيفما اتفق من دون هدف واضح أو بنى فنية تراعي الأنساق في المضامين واللغة والتجارب الحياتية التي كتب امرئ القيس في ظلها معلقته:
(قفا نبك من منزل لحبيب
عفته الرياح
وطافت بأرجائه الموحشات الظباء
كأني يوم الرحيل لدى شجر الحيّ ناقف حنظل
يقول صحابي: (تجمّل)
وأنّى
ودمعي شفائي
وهذه الديار أنيسي
وياطالما فاض دمعي
وسال على النحر).
ماذا فعل الشاعر هنا ؟ هل استطاع أن يستبطن التجربة الشعرية والانسانية لأمرئ القيس عبر تصفيطه لهذا النظم المتكلف والحاحه على واو العطف في السطور الخمسة الأخيرة ؟ أقدم هنا مقطعات من معلقة امرئ القيس ليتوضح لنا البون الشاسع بين رؤيا الشاعر الجاهلي وابداعه في التعبير عن احساساته وتجاربه، وبين النظم التقليدي والمحاكاة المتكلفة للشاعر المعاصر:
(قِفا نَبكِ مِن ذكرى حَبيبٍ ومنزلِ بسقطِ اللوى بَينَ الدخولِ فَحومَلِ
فتوضَح فالمقراة لَم يعفُ رَسمها لما نَسجتها من جَنوب وشمأل ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حَبَُ فُلفلِ
كأني غَداة البينِ يومَ تَحمّلوا لدى سمرات الحَيّ ناقف حَنظلِ
وقوفاً بها صحبي عَليَّ مطيهمُ يقولون لا تهلك أسىً وتجّملِ
وإنَّ شفائي عبرةٌ مهراقةٌ فهل عِند رَسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ
كدأبِكَ من أمّ الحويرث قبلها وجارتها أمّ الرباب بمأسلِ
إذا قامتا تضوع المسك منهما نسيم الصبا جاءت برّيا القرنفلِ
ففاضت دموع العين منّي صبابة على النَحرِ حتى بَلَّ دمعي محملي
ألا رُبَّ يوم لك منهُنَّ صالح ولا سيِما يَومٍ بدارة جُلجلِ
ويومَ عَقرتُ للعذارى مَطيّتي فيا عجَجَباً من كورها المُتحّملِ
فَظلَّ العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهُدّاب الدمقس الُمفتلِ).
تكمن المفارقة هنا في عمل عبد الكريم كَاصد المتخرج في كلية للفلسفة والمدرس لعلم النفس والللغة العربية. انه لم يستطع أن يضيف أو يأتي بجديد في محاولته إعادة كتابة معلقة الشاعر المتوفى قبل ظهور الاسلام، وظل عمله مجرد رصف مجاني بارد للكلمات من دون أن يمنحنا أي احساس بجدوى ما حاول:
(كانت لدى الستر تنضو الثياب وتبقي على فضلةٍ
همست وهي مبهورة: (ما لنا حيلة منكَ أنتَ الغويّ
متى تنجلي عنك هذي الغواية ؟)
ثمّ انسللنا تجرّ على أثرينا إزاراً من الخزِّ رَقَّ
فلمّا أجزنا الديار انتهينا الى بطن رمل تعرّج
يا للصبا وهي تحمل ضوعكِ أنّى التفتِّ
أضوعك أم هو ريّا القرنفل ؟
إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء. ضامرة الخصر
هفهافة
(يصمت الحجل حين تميلين)
مصقولة أنتِ عند الترائب
كالدرّ أبيض أصفرَ غذّاك ماء نمير بلا كدرٍ
وتصدين عن عارضٍ واضح
وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحش بوجرة
جيدك، جيد المهاة، هو الحليُ دون حُليِّ
إذا ما برزتِ
وشعركِ عذق تدلى
أثيث
غدائره السود تتلعُ
مَثنى ومرسل
وخصرك يا للطيف الجديل
وساقك يا للنخيل المذلّل
وتعطين رخص بنانكِ
مثل الأساريع).
في متوالية (قراءة في كتاب الجواهري) تستمر الفاعلية الشعرية عبر إخبار بارد وأنساق شعبية ولا يفلح الشاعر في الامساك بجمرة الشعر:
(يا أبتِ
أبصر فوق عمود الشعر
ظلالاً تهتزّ
وحبلاً يتدلى)
قصيدة (رؤيا).
وفي قصيدة (هامش على قصيدة ٌقف بالمعرة) من هذه المتوالية. لا يقدم الشاعر أي شيء عن قصيدة الجواهري المعروفة عن المعري التي كتبها في الأربعينيات من القرن الماضي. ويكتب هنا:
(في حضرة الأعمى
أنمسح دمعة
أم اننا في حضرة الأعمى
نجاهر عامدين بقوة الإبصار ؟
ماذا قلت َ
ماذا قلتَ
يا أبي ؟).
ويقدم في قصيدة (هامش صغير) من هذه المتوالية أيضاً النسق الشعبي في الإخبار عبر قوله:
(سأل الجُمحيّ
وقد عرّفناه بشاعرنا الأول:
- (ومن الثاني ؟)
قلنا (هذا ما لا يعرفه أحد
لكن قد يعرفه شاعرنا الأول).
في قصائد أخرى من المجموعة تتوسل الإخبار والوصف، يخفق الشاعر في إدامة زخم اللحظة الشعرية في القصيدة وتهيمن عليه المجانية عبر حكي لا عاطفة فيه:
(قلتُ للشاعر المعتمد بن عبّاد:
(كيف يحتفظ بالملك
من هو شاعر
وأبناؤه شعراء ؟).
قصيدة (سؤال) من المتوالية الأولى في المجموعة (شواهد).
(في مجلس (مولانا) الصاحب بن عبّاد
كان أبو طالب العلويّ
يبحلق عينيه
وينشر جنحيه
ويهوي طيراً مذبوحاً بسهام السجع:
(مولاي
فارقني لبي
وتخاذل قلبي)
حتّى يتهلل وجه الصاحب
كم مثل الصاحب من شعراء ؟)
قصيدة (ما رواه أبو حيّان).
تبقى الميزة الأساسية لكل عمل عبد الكريم كَاصد الشعري، هي مرجعياته وأنساقه الشعبية في كتابة القصيدة، وأود في الختام أن أقدم هنا قصائد من المجموعات الأخيرة للشاعر لأعطي القارئ فكرة عن عمله الشعري:
(مثل ليلى التي حملت سلة الكعك
أجتاز غابة الطفولة
الى جدتي التي تسكن المدينة
في باص يهتز
كلما لا حت قرية أو لوّحت عباءة
قاطعاً مئات الأميال في ساعة واحدة
ومئات الساعات في ميل واحد
مترنحاً من الدوار
و(الفرح)
في الصالة المطفأة الأنوار
أصحب ليلى وهي تغني (أكتب لك جوابات)
ناسياً في الظلمة الحبيبة
جدتي التي أكلها الذئب)
قصيدة (مرثية ليلى مراد) مجموعة (دقات لا يبلغها الضوء) دار الكنوز الأدبية 1998
(دي.. دي وكان عشاق وعاذلون
دي.. دي ومرّت السنون
وانقشع الغبار
عن جسدي المطعون
دي.. دي وصار بي ما صار
لا عاشقاً أبقى لنا المنفى
ولا عذول
غير دمي المطلول
من شارع لشارع
ودارة
لدار)
أغنية (دي.. دي) مجموعة (زهيريات) دار الكندي للنشر والتوزيع 2005
(أستحلفك بالله يا أبا العلاء
أن تقول لرضوان أن يفتح الباب
ليحمل عنّي هذه العصا
وإن شاء هذا الكلب
الى صاحبي الحطيئة
فقد وردتني أخبار
عن وحشته في الجنة).
قصيدة (هدية الى الحطيئة) مجموعة (قفا نبكِ) دار الأهالي الطبعة الثانية 2003.
يتبع.