عالم الأدب

النماذج المعرفية من فيبر إلى المسيري

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تتسمم الأبحاث والدراسات في مجال العلوم الإنسانية باحتوائها العديد من المفاهيم والمصطلحات، والتي يسعى الباحث من خلالها إلى تفسير الظاهرة الإنسانية موضوع الدراسة.
بيد أن عملية التفسير - هذه - لا تستقيم دون تحديد وإيضاح معاني ودلالات هذه المفاهيم قبل الخوض في دراستها ونقدها. فالمفاهيم والمصطلحات تساعد في فهم وتفسير الظواهر بقدر ما توقع في الوهم والغموض الشديدين إذا ما تجاهل الدارس أو الباحث تحديد دلالات هذه المفاهيم.
استطاع الباحثون في حقل الدراسات الاجتماعية أن يتوصلوا إلى نتائج متميزة في مجال صياغة المفاهيم واستثمارها. فالمفاهيم الاجتماعية تفيد الباحث في تحقيق هدفين أساسيين(1) :
أولا : تميز البحث وتوجهه نحو مجموعة من الظواهر لم يكن يلتفت إليها بوصفها فئاتٍ منفصلةً.
ثانيا : تفيد المفاهيم الباحث من حيث كونها أوصافا للظواهر وأدوات للتحليل.
ويبدو أن عالم الاجتماع الألماني "ماكس ڤيبر" [Max Weber] (1920) كان من أكثر الدارسين اهتماما بهذه القضية أثناء عرضه لطريقة النموذج المثالي. وتتلخص فكرته الرئيسة في أن: " كل التعريفات، هي تعريفات تحكمية وأن قيمة التعريف للمفهوم تتحدد في ضوء فائدته في البحث وصياغة النظرية الاجتماعية. "(2)، إن المنهج الذي اعتمده "ماكس ڤيبر" لا يستمد النظرية الاجتماعية معتمدا فقط على العلاقات الاجتماعية بين الوسائل والغايات، وإنما يربطها باستمرار بنسق اجتماعي معين، وبالظروف التي يتم في ضوئها تحقيق الغايات، ومن ثَـمَّ، يؤكد "ڤيبر" باستمرار أن "كل المفاهيم التي يقدمها لا تكفي في حد ذاتها، وإنما لا بد أن يستخدمها علماء الاجتماع في تجسيد النماذج المثالية لتفسير مشكلات اجتماعية ملموسة، بل الأكثر من ذلك أن هذه النماذج بدورها ليست غاية مطلقة ولكنها وسيلة للتفسير والتحليل المنطقي."(3) وبذلك يكون "ماكس ڤيبر" اعتمد منهجا مغايرا لما كان سائدا في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين التي تساعد في دراسة العلاقات التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس، إذن، في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى "ڤيبر" هو : "التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحيانا أو يتضاءل وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة."(4) ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند عبد الوهاب المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي تكمن أساسا في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدواتٍ تحليليةً، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملا فكريا متكاملا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي أعمال أخرى تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو "يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد... وأخيرا يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة."(5)
ويستمد عبد الوهاب المسيري هذا البعد المنهجي التكاملي من إسهامات علماء الاجتماع، خصوصا ما قدمه "ڤيبـر" حول النماذج المثالية ؛ يقول "وكلمة نموذج كما استخدمها هي قريبة في معناها من كلمة "Theme" الإنجليزية، وهي تعني الفكرة المجردة والمحورية في عمل أدبي ما والتي تتجاوز العمل ولكنها مع هذا كامنة فيه وفي كل أجزائه تمنحه وحدته الأساسية وتربط بين عناصره المختلفة، كما أن الكلمة قريبة في معناها من مصطلح "النمط المثالي" بالإنجليزية "ايديال تايب" "Ideal Type" الذي استخدمه ماكس ڤيبر أداة تحليلية."(6)
ولعل أبرز النماذج عند عبد الوهاب المسيري هي تلك التي وظفها كآليات تحليلية في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ( أي النماذج الثلاثة : العلمانية الشاملة والحلولية ثم الجماعات الوظيفية) و"الموسوعة لأنها تستخدم النماذج التحليلية تتسم بالترابط الشديد وخاصة أن النماذج التحليلية الأساسية تداخلت، فنموذج الحلولية تداخل مع نموذج العلمانية الشاملة، وهذان تداخلا بدورهما مع نموذج الجماعات الوظيفية."(7) و حيث إننا لا نستطيع أن نقترب من الموسوعة دون الإلمام بآلياتها التحليلية. فهي قامت على جهد نظري بهدف "الوصول إلى نموذج تفسيري يمكن أن يفسر تاريخ الجماعات اليهودية، وبالتالي يفسر الواقع الراهن للدولة الصهيونية الاستيطانية، وهو نفسه النموذج التفسيري الذي توسع وتمدد عبر صفحات الموسوعة ليصبح نموذجا لتفسير التاريخ الحضاري الغربي."(8)8.
يعرف عبد الوهاب المسيري النموذج التفسيري قائلا : "عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفا تفسيرها، فانه يقوم بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يقوم العقل باستبعاد بعضها لأنه يعتقد أنها لا دلالة لها "من وجهة نظره" ويستبقي البعض الآخر "وهذا هو التجريد" وتأتي بعد ذلك خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع، أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع، وما ينتج عن عملية التجريد وتصور العلاقات بين عناصر الظاهرة يسمى "النموذج" فهو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع."(9) وبعد، فإن النموذج التفسيري يتأسس وَفْقـًا لعمليات التجريد والتنسيق وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط. بل، إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين : مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية. ثم، مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن. وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير.
و ليس النموذج، إذن، - عند المسيري - "إطارا للعلاقات النسبية، ولا نظرية لتحديد الأسباب، وليس إطارا تجريبيا صارما. وإنما هو إطار لتنظيم المعرفة وتحديد العلاقات والتركيبات الداخلية كما يحتوي المعلومات وينظمها ثم يعيد ترتيبها مع كل معلومة جديدة."(10). ويؤكد المسيري أن النماذج التحليلية نماذج واعية يصوغها الباحث من خلال قراءته للنصوص المختلفة، وملاحظته للظواهر المتنوعة، فيقوم بتفكيك الواقع وإعادة تركيبه من خلالها، بحيث يصبح الواقع أو "النص" مفهوما ومستوعبا بشكل أعمق و يمكن أن نتتبع أسلوب المسيري في تشكيل النموذج المعرفي، حيث نجده "يحدد مفاهيم كل مفهوم منها يصف جانبا من الظاهرة ويعرفه، فيصبح اسما له. ثم يقيم المسيري العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حالة التقابل واللقاء الواقعي بين المفهومين وبالنظر التاريخي، يتحول المفهوم إلى تاريخ معرفي، فتصبح له حالات تتطور عبر الزمن ومنها يكتسب المفهوم بعدا تاريخيا يجعله مماثلا لتاريخ الظاهرة، ويعيد المسيري الربط بين المفاهيم في حالتها التاريخية، حتى يكتشف التاريخ المشترك لها ومع تعدد المفاهيم يتحول النموذج التفسيري إلى نموذج متعدد الأبعاد، فلا يفسر الظواهر من خلال تركيب أحـادي، بل من خلال التركيب المتعدد. ومن التاريخية ثم تعدد الأبعاد، ثم التفاعل بين الأبعاد يتشكل النموذج المعرفي في صورة تتماثل مع الظاهرة، من حيث التركيب والتعدد والتفاعل."(11) لقد استطاع المسيري أن يتخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، بسماتها التفكيكية المعلوماتية المتحيزة، وأن يخلق إطارا معرفيا يرتبط بالحقل التداولي العربي المتجاوز، تتم من خلاله عملية اكتشاف الذات والآخر معا، الأمر الذي دفع بمؤرخ غربي بارز هو "كافين رايلي" [Kevin Riley] إلى أن يصف المسيري بأنه "مفكر عربي في سياق عالمي." (12)


1) قنوص، صبحي محمد ، دراسات في علم الاجتماع، صص. 10-11.
2) نفسه، ص. 112.
3) نفسه، صص. 104-105.
4) حاج حمد، محمد أبو القاسم ، العالمية الإسلامية الثانية، ج. 1، ص. 296.
5) عزت، هبة رؤوف، في عالم عبد الوهاب المسيري، 1/21.
6) المسيري، عبد الوهاب، دفاع عن الإنسان، ص. 300.
7) المسيري،. رحلتي الفكرية في الجذور والجذور والتمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية. ص. 475.
8) حبيب، رفيق،ضمن في عالم عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق. 1 / 164. [
9) عبد الوهاب المسيري، الموسوعة الموجزة، 1/21.
10) حبيب، رفيق، في عالم عبد الوهاب المسيري، م. س.،1/ 166.
11) نفسه.
12) رايلي، كافين، "مفكر عربي في سياق عالمي." ضمن أعمال الحوار الحضاري النقدي المنشور في كتاب rdquo;في عالم عبد الوهاب المسيريldquo;.1/ 46.

باحث من جامعة إبن زهر أكادير
idlkousse@maktoob.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف