عالم الأدب

طريق نوري الجراح والحديقة القارسية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بؤس الشعر العربي الآن من خلال مجموعات جديدة مختلفة

6- "طريق دمشق والحديقة الفارسية" لنوري الجراح
العودة الى لصق شخصيات الأساطير الاغريقية من دون وظيفة معينة، والتناص مع مرجعيات شعرية غزلية فارسية .

في مجموعتيه "طريق دمشق، والحديقة الفارسية" اللتين صدرتا عام 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يوضح نوري الجراح في الصفحة الثانية من المجموعة الأولى الى أن قصائدها قد كتبت "في لندن ما بين 1990 - 1997" ويشير في الصفحة الأولى من مجموعة "الحديقة الفارسية" الى أن قصائدها قد كتبت "في لندن ونيقوسيا وابو ظبي ما بين 1990 - 2001". ضمّت المجموعة الأولى "الكتاب الأول : جهة الصيف" 9 قصائد و "الكتاب الثاني : ابتسامة النائم" و "الكتاب الثالث : قصيدة حب" و "الكتاب الرابع : كتاب رامي. الرحلة اللندنية" 5 قصائد. أما المجموعة الثانية فقد قسمت على النحو التالي : "قناع شخص" 19 قصيدة و"صيف التنين" 3 قصائد و "انشودات" 17 انشودة و "بارقة في صحراء" 12 قصيدة.
قبل الدخول في مناخات المجموعتين أود أن أقدم هذه الحادثة. أثناء انعقاد مهرجان "جرش" في العاصمة الأردنية عام 1996. كنا مدعوين "مجموعة من الشعراء العرب" الى بيت سعدي يوسف في أحد المساءات و دار حديث جانبي بين سعدي وأمجد ناصر في حديقة سعدي "الجوراسية" عن قصيدة منشورة لنوري الجراح الذي لم يكن حاضراً المهرجان في ذلك العام، وأوضح سعدي أثناء سياق الحديث الذي كنت أسمعه. أن تراث الشاعر اليوناني كافافي قد أصبح الآن جزءا من الفولكلور الشعري العربي ويجب تخطيه الآن بعد أن قطع الشعر العربي مراحل كبيرة في مغامرته ومرجعياته وإرثه الذي تراكم على مدى سنوات طويلة، وبالتالي لم تعد الآن جدوى ملّحة في معالجة واستخدام الأساطير والشخصيات التي تناولها كافافي في مشروعه الشعري حسب طريقته، وتساءل سعدي موجهاً كلامه الى أمجد عن مدى جدية زعل نوري الجراح بسبب رأي له "لسعدي" في أحدى قصائده التي ربما عالج أو أتكئ فيها على اسطورة أو شخصية اغريقية سبق وأن استخدمها كافافي. أردت من خلال هذا المدخل أن أتساءل عن مدى دور لصق شخصيات الأساطير الاغريقية وارتداء أقنعتها في مجموعتي نوري الجراح الآن من دون وظيفة معينة تضيف لرؤيا الشاعر والقصيدة التي يكتبها ؟ هل اننا بحاجة الآن الى العودة لمناخات شعر الخمسينيات من القرن الماضي واستلهام الأساطير التي راجت بسبب المرجعية البراقة الوحيدة آنذاك ت. س. اليوت، والثانية كتاب السير جيمس فريزر "الغصن الذهبي" وآيديولوجيات البعد الحضاري المزعوم ؟ يعتمد الشاعر في هاتين المجموعتين اعتماداً بارزاً وواضحاً على التناص في كتابة الكثير من قصائده ويحاول اذابة واعادة انتاج مرجعياته التناصية عبر عناصر وتقنيات السرد والحوار والقناع والديالوج والمونولوج. ولا يخفى على القارئ المتمعن محاولات الشاعر في اخفاء مرجعياته النصية في مجمل عمله هنا. من جهة ثانية يتخذ الشاعر دور الراوي في الكثير من القصائد عبر ارتداء القناع، لكنه لا يفلح في ادهاشنا من خلال سرده وطريقة طرحه للموضوع بشكل يموّه ويضيع الحدث وحياة الشخصية التي يرتدي قناعها، كما انه لا يقدم جديداً. أقدم هنا الجزء الأول من القصيدة الأولى "سيببتيموس سيفروس" من مجموعة "طريق دمشق" ومن ثم أقدم سيرة هذه الشخصية كما هي معروفة لنتعرف على الفرق بين التاريخ والشعر، وكلنا نعرف أن الشعر يتفوق على التاريخ من خلال المخيلة الخلاقة والتأمل والكشف عن الجواهر الغامضة للعالم وللأشياء والايحاء والاشارة والايماءة، وعدم تقريريته وإخباره ووصفه للأحداث والشخصيات والأزمنة :

علامة 1
سيبتيموس سيفيروس

حفرتُ في الاسبوع رقدته
درعه الثقيلة وسيفه الصارخ
يواريان ساعده
وإذ أتركه يتقلبُ
التراب مشبع برائحة الموت
والأنين يؤلمُ المرقد
و
لو
لم
يكن
هناك...
في انطاكية
لما رأى الأيدي تقطفُ في مرحٍ لاهب الصيف.

سنتعرف هنا من خلال التاريخ على سيرة وحياة هذه الشخصية التي قدمها لنا الشاعر في قصيدته، عبر الرواية والإخبار كما قدمتها المرويات التاريخية، وسنعرف أن الشاعر لم يقدم شيئاً يضيف الى هذه الشخصية وحياتها من خلال تقديمها الذي جاء غامضاً وخالياً من أي حمولة شعرية ومعرفية :
"ارتقى سيبتيموس سيفروس الليبي الأصل عرش روما سنة 193 م، وتولى زمام حكم الامبراطورية الرومانية نيفاً وثمانية عشر عاماً، وهي في أوج عظمتها وقوتها تهيمن على ثلاثة أرباع العالم، وبلغ نفوذها أقصى مداه، وفي خلال هذا العهد كانت الامبراطورية الرومانية تبسط سيطرتها على رقعة كبيرة من الأرض، تمتد شرقاً الى نهر الفرات وغرباً الى انكلترا وشمالاً الى بحر قزوين وغرباً الى شمال افريقيا. ولد سيبتيموس سيفروس لأبوين ليبيين في مدينة لبدة بغرب ليبيا سنة 146 م وأتم تعليمه في ليبيا وحصل على اجازة الحقوق ُثم التحق بالجيش ولم يلبث أن أصبح قائداً لاحدى الكتائب الرومانية، ثم أصبح امبراطوراً، فقد حدثت في أوائل سنة 193 م انقسامات خطيرة بين كبار رجال الامبراطورية الرومانية حول من سيتولى السلطة ويتبوء عرش روما، وظفر سيبتيموس سيفروس بمنصب الامبراطور إثر هزيمته كل منافسيه، وكان خصومه يطعنون في عدم أصالته بوصفه بربرياً أجنبياً يتحدث في القصر باللغة البربرية ولم يتعلم اللاتينية إلاّ كلغة ثانوية. استطاع الامبراطور سيفروس تذليل الصعاب والتغلب على الأعداء في جو مشحون بالتوتر ومحفوف باخطار محدقة، وقد ورث من الاباطرة السابقين تركة ثقيلة من المشاكل المتراكمة، من استبداد كاليغولا وبلاهة كلوديوس وجنون نيرون وطغيان تراجان 98 م وتهور هارديان 117 م وجبروت انطونيوس 138 م وعناد ماركوس اوريليوس 161 م - 189 م، وهم جميعاً قادة كتائب أوصلهم الجيش الى سدة الحكم، وقضى فيما بعد على أكثرهم. أمضى سيفروس حوالي حقبتين سيداً على العالم الروماني من دون منازع الى أن توفى سنة 211 م وخلفه على عرش روما ابنه كراكلا الذي سار طبقاً لمخططاته، مستفيداً من تجاربه العظيمة في تسيير الأمور وقيادة الرجال على اختلاف مشاربهم، وانهار حكم الامبراطورية الرومانية بانتهاء حكم اسرة سيبتيموس سيفروس الليبية عندما قتل آخر أفرادها في ثورة عسكرية، وكان ذلك نذيراً بزوال امبراطورية الرومان سنة 430 م".

في نهاية "الكتاب الأول" من المجموعة الأولى، تكون الخاتمة هي الجزء الثاني من قصيدة "سيبتيموس سيفروس". أقدمها هنا كما في المرة الأولى لنرى الى أيّ مدى أفلح الشاعر في ارتدائه القناع، وهل استطاع اكتشاف الأبعاد الانسانية والتاريخية لهذه الشخصية التي استدعاها من التاريخ، وما الذي حاوله عبر تقديمها لنا نحن القراء ؟ :

علامة 2
سيبتيموس سيفيروس

كلُّ مالمستُ احترق
ودلَّ عليَّ
قطرةُ الدم تضحك في سريري
ونومي الذي كان مديداً كان يشبهني.
كلُّ ما كان لي
مالم..
ما دفنه الصمتُ وطيّشهُ الألم
أعثرُ عليه الآن، في حواس أخرى.

في القصيدة الثانية "رسائل اوديسيوس" من "الكتاب الرابع". يخفق الشاعر في استخدام مرجعيته التناصية التي جاءت في العنوان ولا يحاول إذابتها في القصيدة، ولا يلجأ الى التلميح أو الاشارة عبر طريقة تناوله للأحداث اليومية لحياته، ويبقى السرد النثري العادي والخالي من الشعر في المونولوج الذي يقدمه الراوي هو المسيطر على كل القصيدة :

من جاء بيتي ساعة لم أكن ورأى الدم في الستائر
من لمسَ الباب، من طاف في الغرف
من نظرَ سريري ؟
أنا لستُ اوديسيوس حتى يكون لي معجبون
قرأوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني
لا
ولستُ اوديسيوس
لتكون لي أخت
تطرِّزُ
على الماكنة
شالاً أو قميصاً
لشقيقها الغائب.
لست اوديسيوس
لامرأة ماتت ودفنت تحت السلم
لستُ اوديسيوس
لأمٍ.
لستُ اوديسيوس
لأبنٍ.
لستُ اوديسيوس
لأخت ٍ.
أنا لستُ اوديسيوس
وهؤلاء الذين صرعوا وتخبَّطوا في فناء منزلي
صرعهم القدر.
من جاء بيتي في عربةٍ
من جاء خفية
وعندما لم اكن
من فتح الخزائن وقرأ رسائلي التي ارسلتها لنفسي
أنا
اوديسيوس
الميت في باخرة.

قصيدة "رسائل اوديسيوس"

من المعلوم الآن أن عتبات النصوص هي المفاتيح لحمولتها، ونستطيع من خلالها عبر قراءة العناوين والاهداءات الدخول الى مضامين ومناخات كل قصيدة، وحين يلجأ الشاعر الى التناص في العنوان عبر استخدامه موضوع معين، فمن المفروض أن يخفي السطح الظاهر لمتنه عبر إعادة انتاجه في قصيدته بطريقة لا تكشف المرجعية النصية في القصيدة الجديدة، لكننا نرى الشاعر هنا في قصيدته الرابعة "يوم أحد في تشيرش ستريت" ذات العنوان الفرعي "حكاية ديدالوس" يستخدم قناع شخصية ديدالوس عبر إخبار وسرد يخلو من أدوات الشعر مثل التخييل أو الايحاء أو الاشارة أو الصورة أو الإزاحة في القطع والوصل، ويسير السرد عبر شخصية الراوي في مونولوجه عن أشياء حياته اليومية من دون استخدام مفهوم لشخصية ديدالوس التي نستطيع ان نستبدلها بأية شخصية أخرى من خلال رفع اسمها ووضع شخصية أخرى مكانها من دون أن يتغير شيء ما في القصيدة :

والآن، جاء دوري لأكون ديدالوس
لن أحتاج فضاء أكبر من هذا
ولا نظَّارة أكثر
من هؤلاء
الخاسرين في السوق بلا سبب.
ولأني كففتُ عن التفكير بعلبة البريد في المدخل
وبالباب المكسور مرة بعد أخرى
بمطرقة لصٍ
ومطوى عاشق
فقد جاء دوري لأكون ديدالوس.
أما وقد هجرت السرير
لياليَ وليالي
ومشيتُ خفيفاً في نور المنزل
أما وقد عفتُ ملعقتي
فليس لي من بعد إلاّ أن أعود الى كتاب هوميروس
من النقطة "ب" في البرج
الى النقطة "ب" في البحيرة.
جاء
دور
الفكرة
لتحرير
المخيلة
من شرك الجسد الخائف.
pinfold place في Aومن العمارة
الى شفا البناء الرمادي المتصحر، ورمزه
Y
الأصوات تمزق نهار الأحد
وتنفجر فجوة كبيرة في السلم المهيب الواصل
منزل الله.
كنت ديدالوس، ورامي يلهو بالمقص
وفي حركة خاطفة عرجنا معاً
من شرفة الدرس
ورأينا ريتشارد الشرير وأمه بالأكياس
وأخته الصغيرة
وضفائرها
والسوق ترتجُّ ....

قصيدة "يوم أحد في تشيرش ستريت. حكاية ديدالوس"

تبقى القصيدة الخامسة "سقوط ايكاروس" وعنوانها الفرعي "حكاية شارع" في "الكتاب الرابع"، تسير على نفس الوتيرة الموجودة في القصيدة السابقة، من ناحية معالجتها للحياة اليومية للشاعر عبر سرد صحفي يخلو من أية لحظات شعرية، وبامكاننا أن نستبدل أيضاً كما في القصيدة السابقة اسم شخصية القناع بشخصية أخرى ولا يتغير السياق ولا بنية القصيدة التي ارتدى فيها الشاعر القناع بصورة غير مفهومة، سوى انها تذكرنا بلصق الأساطير والشخصيات الاسطورية عند الكثير من الشعراء في شعر الخمسينيات من القرن الماضي كما أوضحت في البداية :

حالما أنهضُ
وأعودُ
ويكون لي عنوان آخر
وملابس أخرى.
سامشي معكِ في إدجوار رود
وأحبُّ هؤلاء الذين أحببتِ :
العراقي المضارب في البورصة، بشعره الخفيف وخطواته الوئيدة
الكويتي المريض على النقّالة، وساقه المعطوبة
الفلسطيني اليافع في مدرسة اللغة
اللبناني الأفّاق وشبكة الأمراء
السوري التائه بحصالته ودموعه
الأردني العابر
الاماراتي السعيد بقميصه المشجّر.
سأمشي معكِ، وأمشي معي
في الشمس العليلة والظلال المورقة
بين هؤلاء الذين داسوا حياتهم
جيئة
وذهاباً
طوال السادسة
وصوَّتوا بالعربية حتى هطل المطر من القاموس.
................................
أنني أتمشى هنا
من جسر مالبورن الى قوس الرخام
وحيداً، مسطولاً، وفي راحتي لؤلؤة تخطف البصر
أدوس على عام 1986 وأقف في البرج.
الجنود يحيطون بالقلعة، وأسنَّة الرماح تلمع كالساعات.
كانت قصيدتي تنهض، ويدها الجريحة تضيء النهار.
والآن
لو لم أكن ايكاروس، على النقالة، عند البحيرة
لكنت جندياً في جيش مقتول.
سوى أن
هواء
أيقظني من نوم الظهيرة، وأفعمني بالنسيان.


أقدم هنا من أجل التوضيح، كيفية استخدام القناع بشكل أكثر جدية في الشعر، ولو أن هذا النمط غير موجود في الشعر العربي بصورة صحيحة وكاملة. قصيدة "يوليسيس" للشاعر الفريد لورد تنيسون بترجمة الدكتور ماجد الحيدر مع اعتراضي على صياغاتها، وهي منشورة في موقع "الكاتب العراقي" وأعرف أن الشاعر غير ملزم حين يكتب قصيدة القناع في الحدديث المباشر عن الشخصية المراد تقديمها. بل يمكن له أن يكون على غرار ليوبولد بلوم أو تليماوس في "يوليسيس" جيمس جويس.

يوليسيس

أيُّ ربحٍ نزير أن أكونَ ملكاً عاطلاً
جوارَ هذا الموقد الخابي بين هذي الصخور الجرداء
قرينَ زوجةٍ شمطاء أتصدَّق وآمِنُّ بشرائعَ عوجاء
على سلالةٍ متوحشةٍ تكنزُ وتنامُ وتأكلُ وتجهلُ مَن أكون.
لا أريدُ استراحةً من سفرٍ مسأشربُ كأسَ الحياةِ حتى الثُفـالة
عظيمةً كانت متعتي كلَ حين وعظيماُ كانً شقائي
وحيداً، أو في صحبةِ مَن أحبني على هادئاتِ الشواطئ
أو حين يُهيجُ النَوءُ الماطرُ معتماتِ البحار وهو يسوقُ حطامَ السـفائن.
قد ذاعَ صيتي لأني أبداً أجوبُ الآفاقُ بفؤاد ظمئ.
قد رأيتُ الكثيرَ، قد عرفت الكثير مدناً من رجالٍ، وطِباعٍ، وأجواءَ، ومجالسَ وحكوماتٍ أما نفسي فلا رغم أنها بزَّتهُم جميعاً
قد عَبَبتُ كأسَ السرورِ من قِراع أندادي
بعيداً فوق السهول المدوّية لطروادةَ ذاتِ الرياح
قد صرت جزءاً من كل ما لاقيت على أن كل خبرتي ما كانت غير قنطرةٍ
يتلامعُ فيها كل ما لم أزرْ من عوالمَ تخبو تخومُها وتخبو كلما تقدمتُ.
كم بليدٌ لو توقفتُ كم بليدٌ لو بلغتُ النهاية لو صدِئتُ وأغفلني الصَياقلُ
لو لم أُبرِقْ من استعمال ! وكأنّـا خُـلـِقنا كي نتنفسَ !
حياةٌ تتبعُ حياةً.. وكلُّـها ضئيلٌ قصير أما التي قُسِمتْ لي
فلم يبقَ منها الكثير غير أن كلّ ساعةٍ فيها قد نجَتْ
من ذاكَ الصمتِ الأبديِّ بل وظلّـتْ تأتي بالجديدِ والجديد
كم كريهٌ أن أكنزَ نفسي وأُخبأَها أعواما ثلاثة وهذه الروحُ يمضُّها الشوقُ الى
أن أتبعَ المعرفةَ مثل نجمٍ غائر وراءَ أبعدِ تخمٍ للفكر البشري
وهذا ولدي.. تليماخوس ابني إليه سأتركُ جزيرتي وصولجاني
حبيبٌ الى قلبي، بصيرٌ بإنجاز هذا العمل وبأن يلطّفَ بالحكمةِ والتدبير
هذا الشعبَ الجلف وإن يُخضِعَهم في تدرّجٍ لطيف
لفعلِ المفيدِ والخيّر برئٌ هو وطاهر قد وهبَ النفسَ لخدمة الناس
يستحيي من الفشل في مواطنِ الرقةِ والكرَم
يقدم فروضَ التبجيلِ لآلهة منزلي بعد رحيلي.
له عمله، ولي عملي. ذاكَ هو الميناءُ.. هي ذي السفينةُ تنفخُ الشراعَ
ذاك هو البحرُ القاتمُ المعتمُ الفسيح فيا بحّارتي - يا نفوساً كدَّتْ، وشَقَتْ، وفكرتْ معي واستقبلتْ في مرحٍ كلَّ العواصفِ والنهاراتِ الوضيئة
وقاومَتْ.. بقلوبٍ حُرةٍ وجِباهٍ أبيـّة - شيوخٌ نحنُ طاعنون
غير أن للشيخِ مجدُه وكدحُه الموتُ يختمُ كلَّ شيء
لكنّ شيئاً ما قبل النهاية، عملاً ذو نغمةٍ نبيلة لا يزال في مقدورنا فعلُه
ليس الرجالُ الذين تعوزهم اللياقةُ الذين يصارعون الآلهة.
هو ذا الضياءُ يتلألأُ على الصخور يتآكلُ النهارُ الطويل، يرتقي القمرُ متثاقلاً
وتئن الأعماقُ بأصواتٍ شتّى فهلموا يا رفاقي
لم يتأخرْ أوانُ البحثِ عن عالمٍ جديد ادفعوا.. واعتدلوا جالسينَ في انتظام
واضربوا الأخاديدَ الرنانة. غايتي الإبحارُ خلفَ مغربِ الشمس
خلفَ المواضعِ التي تستحِـمُّ فيها كلُّ نجمةٍ غربية.. حتى أموت.
ربما جـّرتـْنا الخلجانُ الى الأعماق ربما لامسْـنا الجزرَ السعيدةَ
ورأينا آخيلَ العظيمَ الذي عرفناه حقاً ذهبَ الكثير، لكنّ الكثيرَ لمّـا يزل.
حقاً لم نعُد في القوة التي في الأيام الخوالي زحزحْنا بها الأرضَ والسماء
لكننا نحنُ نحن : مزاجٌ واحد من قلوبٍ جريئة
أوهَنَها الزمانُ والمصير غير أن عزماً متيناً يشدنا
لنبحثَ، نسعى، نجهدَ hellip; ولا نستسلم أبداً".

يلجأ الشاعر في المجموعة الثانية "الحديقة الفارسية" الى القناع أيضاً من خلال 3 قصائد في القسم الأول من المجموعة، في المرة الأولى عبر قصيدته "أحزان تليماوس" وفي الثانية عبر قصيدته "وحشة ما قبل الليل" وعنوانها الفرعي "انشودة اوزيريس" والثالثة في قصيدته "منزل في جغرافية بعيدة" وعنوانها الفرعي "انشودة اوديسيوس للسيدة ب" وكما في المجموعة الأولى تكون أشياء الحياة اليومية للشاعر حاضرة بقوة في هذه القصائد عبر السرد الذي يتوسل الوصف والإخبار مع استعارات ضئيلة هنا وهناك كبديل عن الصورة الشعرية، إلاّ في القصيدة الثالثة التي ابتعدت عن الآني واليومي لكنها لا تريد أن تقول شيئاً وليس فيها ما يوحي للسيدة ب :

نزل الأمراء بالقوس وناؤوا بها،
نزلوا
وتهالكوا
في المقاعد الحجر.
وفي البهو، حيث طاف طائف منهم، ووزَّع الكؤوس
نفرت ظلالهم، ورشح منها دمٌ.
ولما جرب المجرِّب كانت القوسي قوسي والنهار نهاري،
خفيفة ومشدودة، ولا ذراع تجرها.
كان النهار نهاري
وغيابي يملأ القوس بالسهام.
النول يروي حكايتي
والوشاح الذي نسجت يداكِ، يهربُ.
الغروب
إذ ذاك كان يعدُّ حمرة المقتلة،
وخادمتكِ الصغيرة التي فاز بضفيرتها أمير من شيراز
وصلت المعبد، ودبَّت الصرخة.
بمَ يلهو تليماخوس. بغصن الغار أم باكليل المصرع ؟

يلح الشاعر في استخدام أساليب التكرار بطرق عديدة في الكثير من القصائد مما يثقلها بحمولة لغوية زائدة تفقدها الكثير من خصائصها الشعرية والاسلوبية، وتؤثر بالتالي على البنية الأساسية للقصيدة، ويأتي في مقدمة هذه الأساليب. تكرار الافتتاح في بداية القصيدة ويبدو أحياناً أشبه باللازمة مثل هذا النموذج في قصيدة "رجاء" ص 125: {
ليس بهذه السرعة، إلهي".
ثم يختتم القصيدة هكذا :
"ليس بهذه السرعة، ولا في ضياء كهذا".
أو هذه اللازمة المملة التي تكررت 8 مرات في قصيدة "تنويمة من أجل طفل" ص 88 : "نم يا حبيبي نم" أو هذه اللازمة في استهلال الجزء الأول من قصيدة "أحداث سنة 2007" حيث جاءت هكذا : "قال المهاجر : أنا ماركو بولو" وجاءت في استهلال الجزء الثاني من القصيدة هكذا : "أنا ماركو بولو". والأسلوب الثاني من التكرار هو عبارات معينة يلح عليها بقصدية واضحة في بنية وسياق القصيدة مثل هذه النماذج التي أقدمها هنا وبدت مملة أيضاً :
"أنا لهو عينيك. أنا لهوكِ. أنا أنتِ. أنا يومي الذي لا يوم يصفه. أنا أقربائي" قصيدة "ملاك أسود وجناحان برتقاليان" ص 34.
"ينزل العاشق، يواري قناعه وينزل. ينزل العاشق قدماه الخفيفتان تهبطان بدلال. ينزل العاشق وطوال النهار يصعد شخص. ينزل العاشق، أول ظهور له بعد الطمي. ينزل العاشق قبل عودته الى الحجر النقي" قصيدة "حجر يتحرك" ص 16
"أتأخر خطوة وأنظر أيامي وهي تذهب وتسلم عليكِ. أتأخر خطوة، يمر الزمن وتلمع شفرته. أتأخر لأنسى أزهار الفكرة ترفرف. أتاخر خطوة، أترك الخاطف يميل بقامتي. أتأخر خطوة. أتأخر خطوة" قصيدة "وحشة ما قبل الليل" ص 119
"لم تعد هناك غرف. لم تعد هناك اسرة. لم تعد هناك غرف ولا ضيوف. لم تعد هناك غرف ولا همس" قصيدة "مرثية" ص 114
"في السبت كان الماء يهرب والصخور. والسبت نرجس في الاناء. السبت عطرها هامس. وقبلّتُ فيكِ. قبلّتُ يأسي. قبلّتُ فيكِ صورتي وتقلبي فيكِ. أتوارى لأرى النهار. أتوارى ليرسلني غيابي. كلّما رجعتُ. كلما رعشتُ. كلما رجعتُ. كلما مزجت. ليكون لي ظهور على أرض أخرى. ليكون للصمت مغزل. ليكون لي أن تكون لي. ليكون أن تكون لي بالمغزل. ويكون لي على أرض نومي. لأكون لسع القبلة" قصيدة "قصيدة حب" الكتاب الثالث. "الأفق منجل على حقل. على كثرتنا. على عقدين من السنوات. وعلى ظلال باردة. على الصبي الهائم. على المنولوج. على المرأة الزينة. لن تنفر قطرة. لن يقطر ساخن. ولن يتوهج أو يضيء دم. ولن يكون هناك على هذا المسيل. أأنزل ثانية. أأكون هناك. أأخرج في عراء. أأصل وأكون حياة الرجفة. أأنزل ثانية. أنزل وتنزل في ضجة المطر قبل نزوله. تنزل وأنزل كم مرة أرسلتني. تنزل وأنزل النور الخفيف يلهب الظلال. وكنا ننزل. تنزل وأنزل" قصيدة "ابتسامة النائم" الكتاب الثاني. وتتكرر لازمة "لست اوديسيوس في قصيدة "رسائل اوديسيوس" 6 مرات. "رأيت وردتي قانية. أيتها الوردة، أيتها الخطيئة الظليلة. أيتها الوردة، أيها التويج الارجواني. أيتها الوردة، أيها السر اللاهي. يا الوردة. أيتها الوردة. يا وردة متوارية. أيتها الوردة، أيتها الظلال. يا وردة. أيتها الوردة، خلسة في غابة النمر" قصيدة "وردة الارجوان" ص 151 "العمال يحفرون الطريق. عمال الحاكم الأنيق. عمال البرلمان. عمال كأس الحليب" قصيدة "صيد الاسبوع" ص 126 "أمس كنتِ في دمشق. أمس كنتِ. أمس كنتِ" قصيدة "كنتِ في دمشق، كنتِ في دمشق" ص 165 "موتي لأمددكِ في العشب. موتي وتمددي في لذة الموت. موتي وانهضي من رائحة الأمس. أمددكِ في الشرك. مددتكِ في شرائح الصخر" قصيدة "صيف التنين. 2- الغابة" "أنتِ أخت لي. أنتِ سماء ملونة. أنتِ صحرائي العميقة. أنتِ اكذوبتي. أنتِ صحرائي" قصيدة "صيف التنين. 1- آية المطلع" ص 157 "إذا جئت ولم أكن، اترك الباب موارباً. إذا جئت ولم أكن، اترك الباب، اتركه موارباً. إذا جئت ولم أكن. إذا جئت ولم أكن. إذا جئت ولم. إذا جئت. إذا جئت كان وقت. يا لي من نائم. يا لي من عدوٍّ. يا لي من بنفسج هالك. يا لي من نائم في اشراقة" قصيدة "خيال فتى في خضرة" ص 232 "ربَّاه، ما أقسى أن أحب هذا الحب. ربَّاه، روحي نسمة. ربَّاه، ما أقسى أن أحب هذا الحب. ربَّاه، ربَّاه. ربَّاه، ربَّاه" قصيدة" انشودة السائر في ليل" ص 229 "حبكِ في الغرفة. حبكِ الوردة. حبكِ الهاذي. حبكِ المنظر وماتحرك في المنظر. حبك : الورقة الخضراء. حبكِ لسان اللهب في طرف الصورة" قصيدة "يومية في دفتر قديم" ص 245 "ها غيابكِ يأتي. ها غيابكِ. ها غيابكِ يأتي. ها غيابكِ وله مقعد. غياب في الصور. ها غيابك. ها غيابك. غيابكِ القدم في الأسر" قصيدة "وراء الساعة" ص 241. تبقى الميزة الأساسية لنوري الجراح في مجموعتيه هاتين هي "انشودات" التي يخبرنا في السطرين الذين هما تحت العنوان بقوله : "في بستان خير الدين الأسدي. شذرات وتناصات عربية وفارسية" ونستطيع هنا أن نكتشف مصادر تناصاته التي يحاول اذابتها واعادة انتاجها في نصوصه، وأحيل هذه الشذرات الى الشعر الغزلي الفارسي الكلاسيكي تحديداً، معتمداً على فقرة من حوار مع الشاعر أجراه لوكالة رويترز عصام حمزة بمناسبة صدور المجموعتين : "وحول تسمية ديوانه الثاني بالحديقة الفارسية قال الشاعر: نحن ندين كثقافة إنسانية للإبداعات الشعرية التي قدمتها اللغة الفارسية للأدب العالمي من خلال نتاجات لأدباء مثل سعدي الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي وغيرهم. أضاف: "هؤلاء قدموا للثقافة الإنسانية واحدة من أجمل حدائق الشعر.. وكتابي يحمل نوعاً من التماس مع هذه الكتابات" ولا تخفى علينا لغة وأساليب وطرائق الحب والغزل في الشعر الفارسي، ونستطيع هنا نكشف الشذرات التي جاءت حسب هذه الطرائق في النصوص، مع تحويرها واجراء عمليات القطع والوصل فيما بينها من قبل الشاعر، من أجل اخفاء صياغاتها وأساليبها في الترجمة التي ظهرت فيها، لتذوب في البنية اللغوية والاسلوبية للانشودات : "أنتَ انسان عيني. لا تحضروا الشمع، لا تأذنوا للنور، لقد تمَّ بدر. يا هوَ، وأنتَ صورتي، وسناه في مفارق الجبال. منذ أضأت خلوتي، شعوب تنفرج. تبر الحانة وتراب الأزل. كيف غادرتَ الجنة وضربت خيمتكَ في السراب. عينك مخمورة وغرامي فتى صريع. النرجس يهلك في يدي ويحيا في يديك. لست أعرف متى ذهبت الى الخميلة لتنام. أي ندى، وأي نور لما يلعب بكَ الشراب، وتضحك وتكون طفلي. أنفاس الوصال تنشر أفاوية اللطف. بباب الرحمة طرق حبيبي باب البيت. جدد شبابي يا نسيم. شقائق النعمان أفشت سرّي. الحانة كتابي، وأنا السابح، والغرام درَّة يتيمة. في إصبعه يلمع خاتم الأجل. عباءتك كعبة وضريح وجسدك قبلة الجائع الى الله. تاريخ الدنيا رفات الأحلام. أصحاب القلوب يفكهون من قصص الحب. انشودتك قبلات مقية في جبين الموت. قلم النور يرسم والورد يلتمس لك العذر. حدّث أحد، قال : رأيته يطوي غاشية الليل. خدك امارة المسافر يؤجُّ بالشهوة. شربت الأزل وغبت عن العيان. كما تلفظ لآلئ الراح غياهب الدنان، ألفظ اسمك. مُدّّت موائده وطلعته ترنو إليّ. وقد غابت عن اللاهي. من ذا الذي يتلقف منك كرة الملاحة. مرآة حسنك لهب. لك منظر يفنيني عن كل منظر. زارني أمس ودنا من ستائري، همت أن أهصره. آنست في الطور ناراً. سأحظى بحبيبي في قُطرٍ آخر، والناس يشربون حسنه في كؤوس. أنتَ روح الجنة".

أقدم هنا نماذج من الانشودات التي هي امتداد لشعر الغزل الذي انقرض الآن وحلّت محله قصيدة الحب، لنعرف أن صاحب الانشودات "رجل جالس في مكتبة" يتغزل من خلال الكتب ولا يكتب تجربة حب شخصية واترك الحديث عن قصيدته "قصيدة حب" في "الكتاب الثالث" من المجموعة الأولى لأنني لم أجد فيها ما يوحي في الحب وانما انثيالات وتداعيات تسير في مناخات من الهذيان عبر الأصوات المتعددة في القصيدة :

انشودة 4

النحاس يضحكُ
أأنا كيمياء لذة أم ذهب سدى ؟
سُقيت السكينة في رحاب أقدم، وخُتم على شفتي
فشربتُ
في صمتٍ
وناداني صوتكَ :
بعينيَ أنتَ،
لأسقينكَ شراب الأمس،
ولأكشفنَّ لكَ عن وجهي
لترى
ولأطلعنكَ على لغات الصمت في الطير والزهر،
وفي كلّ رفيف.
أأنا النقطةُ في فراغ، أم ربّان بحر الموت ؟
نظرتُ الى اللطخة
فسالت
وصارت ألفاً
قلتُ : من أنا ؟ قلتُ : أنتَ، قلتُ : من أنت َ ؟
لستُ المزامير في السهل، قال صمتي، ولا حطام النسر في الجبل.
ولا يسمّرني في الأرض سبب.

انشودة 6

بيد الرحمة طرق حبيبي باب البيت،
ترامت الظلال وارتجت خزانة الصوت
انسان عيني محيط والعالم خلاءٌ لا عبٌ.
جدِّد شبابي يا نسيم
شقائق النعمان أفشت سرّي، وحملة الأباريق عقدوا خيمة السحاب.
أين الشراب المصفّقُ ؟
الحانة كتابي، وأنا السابح، والغرام درّة يتيمة.
الغوّاص
نائم في قاعٍ
في إصبعه يلمعُ خاتم الأجل.
أنا خالص وعيار حبي فضة
تفيأت ظلال السروة مذ عقد الشطح شرائطه اللاهية.
لامس شعري بطراوة يدكَ
وأذن لخّدك أن يهمس
لي
ومتّعني بغيبوبة وراء سريري.
تعاهدنا في الوادي فأذن لي أن أراكَ هناك
وإذا عربدت الايماءة تطلبُ المزيد رهنتُ نفسي.
أنتَ موئل
وأنا حبنا الناقص.

انشودة 10

في مدينتي تبذلُ الروح بحبة شعير
ومن وصالك حبة الشعير تزن الزهرة وزُحل.
فتنة هوجاء
وشفاعتي
أن يومكَ يوميَ الضائع.
وراء اقليم النار
جنّتنا
يشقها نهر الشهوة والجميلة يد الله.
من هو علام الغيوب ؟

انشودة 16

من ذا الذي يلتقفُ منكَ كُرَة المَلاحة ؟
أمِل رأسكَ على كتفي، واحبُك القميص على جسدكَ
جَويتُ وأنا أتنوّرُ شمعة شيراز
هل تتلظى الشهوة
إلاّ
في جمر النوم ؟
حلال لشفتيَّ أن تقبِّلا درج العقيق
وأنتَ في السبب هناك وراء الغلالة
ارجوحة في المطر
طفرة على تراب الفجر وفي راحتيها قدح الشروق.
هالات الشَّعر وهافياتُ الأشواق، رفيف مني يُقبِّلُ وسيم غرتكَ
مرآة حسنكَ لهب. أنتَ جريمتي.

* شاعر من العراق يقيم في السويد
Nasif_nasiry@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف